في قلب ركام غزة، تبرز مأساة الأطفال اليتامى بوصفها الجرح الإنساني الأكثر إيلامًا. فبين أنقاض البيوت التي تهدّم معظمها، يستيقظ آلاف الصغار على واقع فقدانٍ مضاعف؛ بعضهم خسر الأب والأم معًا، وآخرون خرجوا وحدهم من بين الحطام بلا مُعرِّف ولا قريب يرعاهم. وفي ظلّ حربٍ خلّفت أكثر من خمسين ألف يتيم، تتزاحم الأسئلة المُلحّة: من يتكفّل بصون حقوقهم في بيئة تفتقر إلى مقوّمات الحياة؟ وكيف سيُبنى مستقبل جيلٍ لم يبقَ له سوى الذكرى، ولا سند يخفّف عنه عبء الطريق؟
عدد الأطفال الأيتام في غزة تجواز 50 ألف، لكن هذا الرقم لا يشمل الذين فُقد آباؤهم أثناء الحرب دون توفر دليل رسمي يُثبت الوفاة.
في أحد مخيمات النزوح في منطقة المواصي غرب خان يونس، يعيش الشاب يوسف الجاجا (32 عامًا) تجربة إنسانية بالغة القسوة، بعدما فُرضت عليه مسؤولية رعاية أربعة من أبناء شقيقته زهراء، التي استشهدت مع زوجها محمد كامل عكيلة وابنتها الرضيعة فاطمة، خلال قصف "الحزام الناري" قرب مستشفى الشفاء في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. فقد نجا الأطفال وحدهم من تحت الركام، ليجد يوسف نفسه أمام دورٍ لم يختره، لكنه حمله مضطرًا في ظل حربٍ جرّدت الصغار من سندهم الأول.
الأيتام الأربعة هم: عبد الله (8 سنوات)، أحمد (13 عامًا)، محمود (19 عامًا) المصاب بإصابة بالغة أثّرت على حركته، ومحمد (21 عامًا) المصاب بإعاقة ذهنية ونوبات صرع تتطلّب متابعة دائمة.

ذكريات قاسية
يستعيد يوسف أكثر لحظات الحرب قسوة حين رأى عبد الله، أصغر الأيتام، يفتّش بعينيه الصغيرتين في ممرات المستشفى عن أمّه وأبيه بعد أن أنهى علاجه. يقترب منه الطفل، ويرفع رأسه نحوه مرتبكًا، ويسأله بصوتٍ يقطعه الخوف: "خالي… وين راحوا بابا وماما؟ ليش ما بيجوا ياخذوني؟"
يقول يوسف، لـ"الترا فلسطين"، إن هذا السؤال كان أقسى عليه من كل مشاهد القصف، وأنها لحظة شعر فيها بأن حجم الفاجعة يفوق ما يستطيع قلب طفل أن يحتمله.
يقيم يوسف مع الأيتام وجدّهم المسنّ، الذي أنهكته الأمراض، ما جعل المسؤولية تقع بالكامل على عاتقه. وقد أجّل زواجه مرارًا بسبب رعايتهم، ورغم زواجه قبل عام، لا يزال يعيش معهم في خيام النزوح، إذ يرى أنّ تركهم "ليس خيارًا".
يعمل يوسف في مهنة صناعة الجبس والديكور المنزلي، لكنه كثيرًا ما يتغيب عن عمله لرعاية محمد تحديدًا، خوفًا من نوبات الصرع المفاجئة. أمّا الآثار النفسية على الأطفال، فيراها أشدّ قسوة من الجراح الجسدية؛ فأحمد يعاني اضطرابًا حادًا منذ استشهاد والديه، وعبد الله تطارده الكوابيس، فيما يجمع محمود بين الألم الجسدي والاضطراب النفسي.
ورغم كل ذلك، يحاول يوسف إبقاء الأطفال على مقاعد الدراسة في مدرسة صغيرة داخل المخيم، "محاولة بسيطة"، كما يقول، لحماية ما تبقّى من مستقبلهم.
ويختم يوسف حديثه بحرقة وإصرار: "شقيقتي وزوجها رحلوا في لحظة، وتركوا أطفالًا لا يدركون ما جرى… هذا قدرنا، والأطفال أمانة في أعناقنا، والحمل ثقيل لكنه واجب لا نهرب منه".
ألم الفقد وقلق المستقبل
داخل مخيم البركة لرعاية الأيتام في غزة، تعيش الجدة أم أحمد أبو بكر في خيمة، محتضنة أحفادها الثلاثة: عدي (16 عامًا)، محمود (15 عامًا)، وسيف الدين (13 عامًا)، بعد أن فقدوا والدتهم في الحرب الأخيرة على قطاع غزة، حينما قُصف المنزل الذي نزحوا إليه في مدينة خان يونس بتاريخ 13 آب/ أغسطس 2024، فيما كان والدهم قد استشهد عام 2015، لتجد نفسها أمًّا من جديد رغم إرهاق العمر وثقل الفاجعة.
تقول الستينية أم أحمد، والدمعة تلمع في عينيها، لـ"الترا فلسطين": "كنت أظن أن أيامي المتعبة قد انتهت، لكن القدر أعادني لأكون أمًّا من جديد. استشهاد زوجة ابني عقب استشهاد ابني كان كالسيف في قلبي... لم أعد أنام الليل من الحزن والمسؤولية، كل ما يشغلني اليوم هو مستقبل أحفادي، وخوفي من أن يضيعوا في هذا الواقع القاسي".
تستيقظ الجدّة كل صباح لتبدأ يومها بين متابعة دروس الأحفاد، وإعداد طعامهم البسيط، والمتابعة معهم في حفظ القرآن الكريم. تقول بحسرة: "حياتي تغيّرت بالكامل... كرّست وقتي كله لهم، أكثر ما يؤلمني أنهم لا يزالون خارج المدارس بسبب الاكتظاظ الكبير في مدرسة المخيم. هم على قوائم الانتظار منذ شهور، وأنا أخاف أن ينسحبوا من التعليم كليًا".
رغم كل هذه المعاناة، تُصرّ الجدة على أن يكون التعليم والقرآن طريق أبنائها نحو الأمل، مضيفةً بابتسامة خافتة: "محمود أتمّ حفظ القرآن الكريم كاملًا، وسيف الدين أوشك على إتمامه، بقي له ثلاثة أجزاء فقط. أريدهم أن يكونوا أقوياء بالإيمان والعلم، فهما السلاحان الوحيدان في هذه الحياة".

يجلس سيف الدين في زاوية الخيمة، يتأمل صور والديه المعلّقة. يبتسم بخجل، ثم يقول بصوتٍ تختلط فيه الطفولة بالحنين: "أشتاق لأمي كثيرًا... كانت تحكي لي القصص قبل النوم وتدعوني بـ‘يا نور عيني’، وكذلك أبي، لكنهم رحلوا فجأة، وما زلت أشعر أنني لم أودّعهم كما يجب".
ثم يضيف، وهو يلتفت نحو جدته: "جدتي تحاول أن تكون مثل أمي وأبي، لكنها تتعب كثيرًا... أنا أساعدها أحيانًا في تنظيف البيت أو شراء الخبز. أتمنى أن أتعلم وأصبح طبيبًا، حتى أساعد الأطفال الجرحى مثلما كنت أنا يومها خائفًا ومصابًا".
رغم صمود الجدّة وأحفادها، إلا أنها تعاني من نقص الدعم المادي والنفسي، فالمؤسسات عاجزة أمام تزايد عدد الأيتام. وتؤكد، بصبر، أنها ستستمر في رعايتهم ما دامت حيّة، معتبرة إياهم أمانة.
في ختام حديثها، ترفع الجدة نظرها إلى السماء وتقول: "ما زال فينا أمل... طالما هناك من يسمع قصصنا ويهتم بأطفالنا، فالحياة تستمر. أريد فقط أن يعيش أحفادي بأمان، وأن يكون لهم مستقبل أفضل من حاضرنا الموجوع".
جهود البركة متواصلة
ويقول محمود كلخ، مدير مخيم البركة لرعاية الأيتام: "خلال الحرب، اجتهدنا لتوفير بيئة آمنة ومناسبة للأيتام رغم القصف والدمار. بنينا سبعة مخيمات داخل المدينة، تضم اليوم أكثر من 4000 يتيم مقيمين بشكل دائم، فيما نقدّم خدماتنا لحوالي 25 ألف يتيم يعيشون خارج المدينة من خلال مساعدات دورية تُقدَّم شهريًا".
ويضيف كلخ لـ"الترا فلسطين": "حاولنا احتواء أكبر عدد ممكن من الأطفال، لكن الأعداد الهائلة تفوق قدراتنا، لذلك نضطر لتقديم جزء من الخدمات ‘عن بُعد’ عبر فرق ميدانية تزور المناطق والمخيمات المجاورة".
وبحسب كلخ، تقدّم مدينة البركة للأيتام في مواصي خان يونس حزمة خدمات أساسية تشمل الإيواء والتعليم لنحو 1500 طالب في مدارس معتمدة، إضافة إلى رعاية صحية أولية ودعم نفسي متخصص، وتدير أكثر من 30 حلقة لتحفيظ القرآن يشارك فيها 800 طفل، كما تتابع القضايا القانونية لذوي الشهداء، وتقدّم مساعدات إغاثية منتظمة في الغذاء والكساء.
تحديات تفوق القدرات
ورغم اتساع حجم الخدمات، يؤكد مدير المدينة أن العمل قائم على مبادرة فردية بلا دعم مؤسسي، في وقت تتزايد فيه احتياجات ما يُعدّ من أكبر تجمعات الأيتام عالميًا، داعيًا إلى شراكات فاعلة لضمان استمرار هذه الجهود الإنسانية.
ويشير إلى وجود 30 ألف يتيم من أصل 50 ألفًا يتلقّون دعمًا بشكل مباشر أو غير مباشر من برامج مدينة الأيتام المختلفة، فيما يعيش داخل المدينة حوالي 500 طفل فقدوا الأبوين معًا، في واحدة من أعلى نسب اليُتم المسجّلة في المنطقة.
من جانبه، كشف معهد الأمل للأيتام في قطاع غزة أن إجمالي عدد الأطفال الأيتام تجاوز 50 ألف طفل. ويأتي هذا الارتفاع الكبير ليضع المعهد، الذي تأسس عام 1949، أمام تحديات إنسانية غير معهودة منذ نشأته.
وأوضح نضال جرادة، المدير العام للمعهد، لـ"الترا فلسطين"، أن ما يقارب 34 ألف طفل من الأيتام الجدد جرى تسجيلهم بعد الحرب الأخيرة مباشرة، إلى جانب 16 ألف يتيم كانوا مدرجين في السجلات قبل الحرب، وهم أيتام حروب سابقة.
ولفت جرادة إلى وجود عدد كبير من الأطفال الذين فُقد آباؤهم أثناء الحرب دون توفر دليل رسمي يُثبت الوفاة، وبسبب غياب الإثبات القانوني لا تُدرج هذه الفئة ضمن السجلات الرسمية للمعهد. كما ينطبق ذلك على الأطفال مجهولي الهوية الذين عُثر عليهم عقب المجازر، وما زال مصير أسرهم غير معروف نتيجة الاستشهاد أو الفقدان.
فيما يتعلق بالأطفال الأيتام مجهولي الهوية بسبب الحرب، تلفت إلى أن الوزارة تعمل في المرحلة الحالية على توفير أسر بديلة، بدمج الأطفال الأيتام داخل بيئات أسرية طبيعية
ويبيّن أن المعهد يقدّم خدمات الإيواء بوصفها الخدمة الأساسية، إضافة إلى برامج الدعم الغذائي والموسمي، والكفالات النقدية، والطرود الغذائية، إلى جانب خدمات التعليم عبر مدرسة متكاملة مخصّصة للأيتام. كما يولي المعهد أهمية خاصة للدعم النفسي عبر برامج العلاج والتأهيل، وأنشطة مدرسية واجتماعية تهدف إلى مساعدة الأطفال على تجاوز الصدمات الناجمة عن الحرب.
بدورها، تؤكد الناطقة باسم وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة، عزيزة الكحلوت، أن الوزارة أعلنت، في ظلّ ظروف إنسانية هي الأقسى منذ عقود، عن إطلاق "المنظومة الوطنية للأيتام"، وهي قاعدة بيانات مركزية تهدف إلى توثيق جميع أطفال الحرب الذين فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، وضمان وصول المساعدات إليهم بعدالة وشفافية.
وأشارت، لـ"الترا فلسطين"، إلى أن عدد الأيتام دون سن الثامنة عشرة بلغ نحو 57 ألف طفل في قطاع غزة، بينهم 37 ألف يتيم فقدوا أحد والديهم منذ اندلاع الحرب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لافتة إلى وجود 45 ألف يتيم من الفئتين: من هم دون الثامنة عشرة ومن تجاوزوها، في حين تم تسجيل 5 آلاف طفل فقدوا الأم، و4 آلاف فقدوا الوالدين معًا.
أُسر بديلة
وشددت الكحلوت على أن المنظومة الوطنية للأيتام باتت القناة الرسمية الوحيدة لتسجيل هذه الحالات، إذ تشكّل الأساس القانوني لضمان وصول الخدمات والمساعدات إليهم. وأضافت: "رغم التحديات الكبيرة التي رافقت إنشاءها في ظل الحرب، وانقطاع الكهرباء والإنترنت، واشتداد القصف اليومي، يواصل فريق العمل تشغيل المنظومة بهدف ضمان الشفافية، وتحقيق العدالة في توزيع المساعدات، وتوثيق البيانات بصيغة معيارية تتيح للجهات الشريكة الوصول إلى المعلومات بدقّة".
وفيما يتعلق بالأطفال الأيتام مجهولي الهوية بسبب الحرب، تلفت إلى أن الوزارة تعمل في المرحلة الحالية على توفير أسر بديلة، بدمج الأطفال الأيتام داخل بيئات أسرية طبيعية، لكن محدودية الإمكانيات وضخامة الأعداد تفرضان ضغوطًا كبيرة على هذا المسار.
وفي السياق ذاته، تؤكد الكحلوت أن قطاع غزة بات بحاجة ملحّة إلى دور حضانة ومراكز رعاية جديدة، بعد أن تعرّضت معظم المراكز القائمة للقصف والتدمير، ولم يبقَ منها سوى معهد الأمل للأيتام، مطالبة بضرورة العمل على ترميم المراكز الرعائية الحكومية والخاصة التي كانت تقدّم خدمات حيوية للأيتام قبل الحرب.
تتداخل في رعاية أيتام غزة مسؤوليات الأسرة والمجتمع والمجتمع الدولي والجهات الرسمية، لكنّ الثابت أن هؤلاء الأطفال لا يحتملون الانتظار؛ فكل يوم يمضي دون رعاية، ودون حماية قانونية ونفسية ومادية، يضاعف خسارة أخرى في حياتهم.