بيسان

ليلاً يتحرّك الهدم.. حين تُستكمل الحرب بـ"مكعّب أصفر"

المصدر تقارير
ليلاً يتحرّك الهدم.. حين تُستكمل الحرب بـ"مكعّب أصفر"
مدلين خالد خلة

مدلين خالد خلة

صحفية من غزة

في ظلمة الليل، حين ينام ما تبقّى من المدينة على صدى الغارات والذكريات، تتحرّك المكعّبات الصفراء الثقيلة بصمتٍ خادع؛ تقضم حجارة البيوت، وتطحن بقايا الذاكرة، وتعيد رسم خارطة المكان كما يريد الاحتلال.

ليست مجرد مكعّبات إسمنتية، بل أدوات زحف منظّم تُعيد تشكيل ملامح الأحياء، وتطمس معالم الشوارع، وتحول أنقاض المنازل إلى أكوام ترابية بلا هوية. حيًّا بعد حي، يتقدّم "الوحش الأصفر" ليزيل ما تبقّى من دليل على وجود الحياة.

"تقدم المعكبات الصفراء تُعيد تشكيل الخريطة السكانية والاجتماعية لقطاع غزة قسرًا، وتخلّف آثارًا طويلة الأمد على النسيج الديمغرافي، والاستقرار المجتمعي، ومستقبل العيش".

الناجون من القصف، والعائدون بعد وقف إطلاق النار المؤقت، لا يجدون منازل، ولا حتى أنقاضًا يودّعونها؛ فقد قضمتها المكعّبات الصفراء، وخطّت حدودًا جديدة بصمت، دون أن يدري العالم شيئًا، في ما يشبه "تطهيرًا عمرانيًا" لفرض واقع جديد على الأرض.

عند آخر حدود الأمان، وما بعدها وعلى أطرافها غربًا، تدور معركة لم تهدأ يومًا؛ من نسف، وقصف مدفعي، وإطلاق نار مستمر.

"البيت كان خارج الخط الأصفر وفق بروتوكول اتفاق وقف إطلاق النار في البداية، لكنهم غيّروا معالم المنطقة، وفجأة أصبح الحي كله منطقة ممنوعة، أكلتها المكعّبات الصفراء"، تقول ابتسام سُكّر.

تضيف سُكّر، التي تقطن مع أسرتها في منزل صمد أمام عمليات النسف والقصف والوحشية الإسرائيلية على أطراف ما يُعرف بـ"الخط الأصفر" شرقي حي الشجاعية: "لم ندرِ ما الذي حدث في ذلك اليوم. كنا نجلس، وإذا بالقصف المدفعي ينهال كالمطر على الحي، ما اضطرنا إلى النزوح مجددًا هربًا نحو غرب غزة".

وتتابع في حديثها لـ"الترا فلسطين": "ما هي إلا لحظات حتى بدأ جيش الاحتلال بوضع مكعّبات صفراء قضمت ثلث الحي في البداية، وبعد يوم أو يومين اختفت معالم المنطقة بأكملها، وأصبح الوصول إليها شديد الخطورة، فهي الآن خلف ما يُسمّى الخط الأصفر".

وتردف: "كل مكعّب يعني سقوط منطقة جديدة وتحويلها إلى ثكنة عسكرية مغلقة. ما يحدث بصمت هو قضم ما يقارب ثلث مساحة المدينة شرقًا. خلص… ما ضلّ لنا بيت".

من جانبه، أكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، أن تقدّم المكعّبات الصفراء في مناطق شرق غزة، في أحياء الشجاعية والزيتون والشعف، وشرقي البريج والمغازي وخانيونس وجباليا، يعني عمليًا إفراغ مناطق كاملة من سكانها بالقوة، سواء عبر القصف، أو التوغّل البري، أو التهديد المباشر.

وقال الثوابتة، في حديثه لـ"الترا فلسطين"، إن الاحتلال يُجبر السكان على النزوح المتكرر خلال فترات زمنية قصيرة، ما يفقدهم أي شعور بالاستقرار أو الأمان، ويحوّل حياتهم إلى حالة طوارئ دائمة.

وأضاف أن كل تقدّم جديد يُحدث خللًا واضحًا في التوزيع السكاني؛ فهناك أحياء تُفرغ بالكامل، وأخرى تُكدّس فيها أعداد هائلة تفوق طاقتها الاستيعابية، مشيرًا إلى أن هذا التقدّم يخلق مناطق مكتظة بشكل غير إنساني مقابل مناطق أصبحت شبه خالية، في تغيّر ديمغرافي قسري لا طبيعي.

وشدّد الثوابتة على أن التقدّم ليلًا تكون آثاره أشد قسوة؛ فالظلام، وانقطاع الكهرباء، وأصوات الآليات، وإطلاق النار أو القصف المفاجئ، سواء المدفعي أو الجوي، كلها عوامل تُحدث حالة هلع جماعي لدى السكان.

وبيّن أن كثيرًا من العائلات تضطر للنزوح ليلًا دون تخطيط، تاركة ممتلكاتها خلفها، ما يزيد الضغط على ربّ الأسرة في توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة، ويعجز عن ذلك في كثير من الأحيان، الأمر الذي يفاقم التفكك الأسري والضغط النفسي، خصوصًا على الأطفال والنساء وكبار السن.

وأردف أن استمرار هذه التقدّمات يدفع السكان للانتقال من منازل دائمة إلى مراكز إيواء، أو خيام، أو مساكن مؤقتة غير لائقة، حيث تتبدّل الجغرافيا الاجتماعية؛ يتفرّق الجيران، وتتشتت العائلات الممتدة، وتُمحى معالم الأحياء كما كانت قبل الحرب.

ويرى مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي أن هذه التقدّمات تُعيد تشكيل الخريطة السكانية والاجتماعية لقطاع غزة قسرًا، وتخلّف آثارًا طويلة الأمد على النسيج الديمغرافي، والاستقرار المجتمعي، ومستقبل العيش في كل محافظة تتعرض لهذا التقدّم.

في السياق ذاته، لم تكن عائلة الجماصي، التي تقيم قرب مقبرة الشعف شرقي مدينة غزة، تتخيّل أن تستيقظ يومًا لتجد المكعّب الأصفر وقد نُقل ليُوضَع مباشرة أمام منزلها، كحاجز نهائي بين الأمان والخطر.

يقول محمد، الذي كان يقطن المنزل: "المكعّب الأصفر يعني أن وجودنا في البيت صار خطرًا، وعلينا جميعًا تركه بسرعة، وإلا فُقدت آثارنا".

ويضيف: "هذه العلامات، المكعّبات الصفراء، لم تعد مجرد حدود، بل صارت حدودًا تُرسَم بالدم، وتأكل في طريقها ذاكرة المكان".

ويتابع: "ما إن جثا المكعّب الأصفر على الأرض حتى بدأت النيران الكثيفة تخترق جدران ما تبقّى من البيوت، وزُرعت العبوات المفخخة داخل الأحياء، وانهالت القذائف المدفعية على رؤوس الفارين غربًا، فتُدمَّر المنازل كما لو كانت أوراقًا خفيفة، وتُسحق البنية التحتية تحت جنازير الدبابات".

بدوره، أكد الخبير في الشأن العسكري رامي أبو زبيدة أن "الخط الأصفر" ليس مجرد علامة ميدانية، بل أداة لإعادة هندسة السيطرة على القطاع.

وقال أبو زبيدة إن التقدّم الجاري شرقي غزة، وفي الشجاعية وخانيونس وجباليا والبريج والمغازي، يتم وفق سياسة زاحفة تتجنّب الإعلان الرسمي، بينما تُحرَّك المكعّبات خطوة بعد خطوة لتثبيت واقع جديد على الأرض.

وتابع أن الاحتلال يسعى إلى خلق "حدود تشغيلية" تتيح له رقابة واسعة وقدرة أكبر على التحرك، وتنفيذ هجمات محدودة وعمليات اغتيال، في محاولة لتحقيق أهداف لم يتمكن من بلوغها قبل الإعلان عن وقف إطلاق النار.

وأضاف واصفًا ما يجري بأنه مرحلة جديدة من الاحتلال الجزئي، تُحوَّل فيها المناطق الشرقية إلى أحزمة مراقبة مغلقة، مقابل مناطق غربية خارج السيطرة المباشرة، مع القدرة على العمل فيها عبر عمليات محدودة وخاطفة.

وشدّد أبو زبيدة على أن هذا التحوّل يحمل آثارًا إنسانية قاسية، تشمل نزوحًا قسريًا، وتدميرًا واسعًا للمنازل، وانهيارًا للبنية التحتية، ومنعًا فعليًا لعودة السكان إلى الأحياء التي تحوّلت إلى ساحات مغلقة.