صحفية من غزة
في ظلمة الليل، حين ينام ما تبقّى من المدينة على صدى الغارات والذكريات، تتحرّك المكعّبات الصفراء الثقيلة بصمتٍ خادع؛ تقضم حجارة البيوت، وتطحن بقايا الذاكرة، وتعيد رسم خارطة المكان كما يريد الاحتلال.
لم يتناول أبناء ابتسام معروف السبعة الطعام منذ يومين، كان آخر ذلك طبق بسيط من العدس بعدما تمكنت من شراء نصف كيلو من أحد الباعة. ولا تجد أمامها الآن سوى الماء الممزوج بالملح للحفاظ على معدتهم من التعفن ومنح أجسادهم قليلًا من التوازن، في ظل بلوغ الأزمة الغذائية في غزة مستويات حادة.
في سوق الشيخ رضوان الشعبي، تتجول ناريمان أبو النور بحثًا عن من يصرف لها المال من حسابها البنكي إلى سيولة نقدية بعمولة معقولة، حتى تتمكن من شراء كميات قليلة من الدقيق تسد بها رمق صغارها، الذين لم يتناولوا الطعام منذ ثلاثة أيام.
ضاقت الأرض بمحمد بعلوشة وهو يحمل نعش شقيقه من مقبرة لأخرى آملًا بالعثور على قبر فارغ ليواريه الثّرى، حتى وصلت قدماه إلى مقبرة الشيخ رضوان غربي مدينة غزة، لكن دون جدوى، بعد أن أخبره حفار القبور بأن لا متسع فيها أيضًا.
في ممر طويل بمجمع الشفاء الطبي، تجثو الأم على جثمان صغيرها تتحسّس جبينه، هامسة في أذنه، وربما مستذكرة مسار الولادة من سجون الاحتلال إلى الاستشهاد في حرب الإبادة المفروضة على قطاع غزة منذ 21 شهرًا. هذه كانت فاطمة الزق، الأسيرة المحررة، في وداع نجلها يوسف الزق، الذي وُلد في السجون الإسرائيلية، وعاشها معها فترة الاعتقال في طفولته، حتى تحررها.
على بسطة صغيرة أمام مدرسةٍ تحولت لمركز نزوح، تقف الطفلة ميار عسلية (11 عامًا) محاولة شراء "كيس" مكمل غذائي أحمر اللون، غير أن ما تملكه من نقود لا يكفي لشراء ذلك "الكيس"، ما اضطرها لمفاوضة البائع الذي لم يكن سوى طفلٍ يكبرها بعامين أو ثلاثة حتى وافق على بيعها إياه بعد إلحاح كبير منها.
على سرير المرض، يُصارع خالد شعبان نقص العلاج وانعدام الغذاء الصحي بصحته الهزيلة، البقع الحمراء على وجهه، والتي تسللت آثارها إلى تجويف عينيه الداخلي، لتؤثر على مدى الرؤية لديه وتعيق حركته الخفيفة بعد تدهور طرأ على وضعه الصحي.
في خيمةٍ وُشِحت بالسواد، يجلس الشاب أسامة الجماصي، يتحسّس ما حوله، ويختزل في عقله ما تقع عليه أصابع يديه، محاولًا جاهدًا حفظ المكان عن ظهر قلب، علّه يُقلّل اعتماده على الآخرين، فيظفر ببعضٍ من حياةٍ حظي بها قبل فقده عينيه.
لم يكن مجرد انفجار. كان زلزالًا حقيقيًا قلب كل شيء رأسًا على عقب. لم يتبقّ من معالم المدينة شيء؛ فقد ابتلع الانفجار بيوتًا وحارات وأحياء بأكملها في لحظة واحدة. حدث كل ذلك بفعل روبوت مفخخ، فجّره جيش الاحتلال وسط منطقة سكنية مكتظة، فحوّلها إلى حفرة من الرماد.
