ضاقت الأرض بمحمد بعلوشة وهو يحمل نعش شقيقه من مقبرة لأخرى آملًا بالعثور على قبر فارغ ليواريه الثّرى، حتى وصلت قدماه إلى مقبرة الشيخ رضوان غربي مدينة غزة، لكن دون جدوى، بعد أن أخبره حفار القبور بأن لا متسع فيها أيضًا.
"في مدينة غزة، أخبرونا أنه لا يوجد سوى قبر واحد جماعي ستُدفن فيه أربع فتيات، وسألنا إن كنا نرغب بأن تكون شقيقتي هي الخامسة، ولم يكن لدينا خيار إلا الموافقة"
"لا تعرف غزة اليوم أين تدفن أبناءها، فلا يوجد مقابر فارغة وأصبحت الأرض بوسعها تضيق على أبنائها ونسأل حالنا دائمًا، أين سندفن شهدائنا القادمين؟"، يقول محمد بعلوشة في وصفه للألم الذي يعيشه الفلسطينيون في قطاع غزة، مع استمرار حرب الإبادة لـ21 شهرًا، حيث لم يبقَ شيئًا على حاله، وحتى القبور نفدت.
ويضيف بعلوشة: "لم أكن أتخيل أن يصبح القبر حلمًا وأن أتجول بجثمان شقيقي دون أن يكون هناك متسع في أي مقبرة في شمال القطاع، حيث تصبح لحظاتك الأخيرة مع من تحب هي الأشد على الإطلاق".
وأعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة، بتاريخ 3 تموز/يوليو 2025، نفاد المقابر في معظم مناطق قطاع غزة، بسبب تدمير أكثر من 40 مقبرة بشكل كامل أو جزئي، إضافة إلى منع الأهالي من الوصول إليها في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل.
ولا يبدو الحال مختلفًا عند أحمد البطش الذي خارت قواه وهو يبحث عن قبر لشقيقته الصغرى، حيث لم يستطع أن يدفنها في مدينة جباليا بعد سيطرة الاحتلال عليها، فحمل الجثمان إلى مقابر مدينة غزة، ولكن الموت كان أسرع إلى المقابر هناك من خطواته نحوها.
يقول البطش: "لم يبقَ أمامنا مكان لدفن شقيقتي حتى جاء مشرف على مقبرةٍ وأخبرنا أنه لا يوجد سوى قبر واحد جماعي سيدفن فيه أربع فتيات، وسألنا إن كنا نرغب بأن تكون شقيقتي هي الخامسة، ولم يكن لدينا خيار إلا الموافقة".
الحال ذاته مع محمود النجار الذي لم يجد في كل مقابر شمال القطاع قبرًا واحدًا فارغًا لدفن والده، ما اضطره في النهاية إلى أن يقوم بحفر قبر بطول متر وعرض نصف متر بجانب المخيم الذي نزح إليه لدفنه. ويضيف: "كل عائلة أصبحت تدفن موتاها بالقرب من خيامها حتى تنقلها إلى مكان آخر متى ما دخلت الهدنة حيز التنفيذ".
وتوضح وزارة الأوقاف أن الأهالي في قطاع غزة يلجأون إلى استخدام ساحات المستشفيات والمدارس والمنازل كمقابر طارئة، وسط عجز تام عن توفير مستلزمات تجهيز القبور وفق الضوابط الشرعية، هذا عدا عن تكدس جثامين الشهداء في المستشفيات وساحاتها.
ومنذ صيف العام 2024 بدأت تظهر معالم أزمة القبور في قطاع غزة بارتفاع أسعار القبر الواحد، ومؤخرًا باتت كلفة تجهيز القبر الواحد تتراوح بين 700 و1000 شيكل، مقارنة بنحو 200 شيكل ما قبل الحرب.
ويستخدم الأهالي في قطاع غزة الحجارة من بقايا حطام المنازل وألواح الزينكو في تغطية المقابر بدلًا من الحجارة الخرسانية التي نفدت مثل أي شيء آخر في هذه الحرب، على أمل استبدالها عندما تتوفر البلاطات.
ويشكل نقص القبور والأكفان ومواد التجهيز خطرًا على الصحة العامة والمجتمع، خاصة مع دفن الموتى في أماكن غير منظمة مثل المستشفيات أو داخل الحارات.
ويشهد قطاع غزة وسط حرب الإبادة المستمرة ظاهرة المقابر الجماعية، التي أنشأ الاحتلال بعضها أثناء حربه البرية واقتحامه للمستشفيات، ومنها ثلاث مقابر جماعية اكتشفت في شهر نيسان/أبريل 2024 داخل مستشفى ناصر في خانيونس، حيث عُثر بعد انسحاب جيش الاحتلال على أكثر من 300 جثمان لنساء ورجال وأطفال ومسنين، بعضها بدون رأس أو تحت أكوام من النفايات، وقد ظهرت علامات تعذيب على بعض الجثامين، وبعضها تم تقييده قبل إعدامه.
وفي شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو 2024 عُثر أيضًا على ثلاث مقابر في مستشفى الشفاء، بعد انسحاب جيش الاحتلال منه، وتم انتشال نحو 179 جثمانًا، بعضهم مكشوفو الرأس وفيهم إصابات ناتجة عن تحطّم أو سحق يُرجّح أنها بفعل الدبابات.
وفي بداية العام 2024، عُثر داخل ساحة مدرسةٍ في بيت لاهيا على مقبرة جماعية تضم حوالي 30 جثمانًا مغطاة بأكياس، وتبين أن الضحايا كانوا معصوبي الأيدي، مما يشير إلى عملية إعدام ميداني.
وفي مقبرة الشهداء المجهولي الهوية بشرق غزة، تُحفَر القبور بأرقام بدلًا من أسماء، ويوضع على بعضها لافتة “شهيد مجهول” أو “رفات مجهول”، مع صور وملاحظات قصيرة توضح مكان الاستشهاد. ويقوم بالدفن في هذه المقبرة، غالبًا، متطوعون من الهلال الأحمر ووزارة الصحة والدفاع المدني، حيث تُنقل الجثث في أكياس بيضاء، ثم يُوثّق الموقع، عبر رقم القبر، وتحفظ المتعلّقات الشخصية عند العثور عليها مثل الملابس، وأوراق التعريف، والهاتف.
يُشار أن معطيات وزارة الصحة أظهرت أنه حتى تاريخ 20 تموز/يوليو 2025، بلغ إجمالي عدد الشهداء في قطاع غزة 58 ألفًا و895 شهيدًا، وهذا العدد الذي وصل المستشفيات، ولا يشمل الشهداء في الطرقات الذين لم تستطع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليها.
وبحسب أحدث بيان صادر عن مكتب الإعلام الحكومي في غزة بتاريخ 18 تموز/ يوليو الحالي، فإن عدد المفقودين في قطاع غزة بلغ 9500 شخص، وهم شهداء ما زالوا تحت الأنقاض، وآخرون مازال مصيرهم مجهولًا حتى اللحظة.