بيسان

موتٌ على عجلات: روبوتات إسرائيليّة مفخخة تفتك بالغزيين

المصدر تقارير
موتٌ على عجلات: روبوتات إسرائيليّة مفخخة تفتك بالغزيين
مدلين خالد خلة

مدلين خالد خلة

صحفية من غزة

لم يكن مجرد انفجار. كان زلزالًا حقيقيًا قلب كل شيء رأسًا على عقب. لم يتبقّ من معالم المدينة شيء؛ فقد ابتلع الانفجار بيوتًا وحارات وأحياء بأكملها في لحظة واحدة. حدث كل ذلك بفعل روبوت مفخخ، فجّره جيش الاحتلال وسط منطقة سكنية مكتظة، فحوّلها إلى حفرة من الرماد.

قتلٌ صامت يتحرك على عجلات. الروبوت الإسرائيليّ المفخخ لا يطلق الرصاص، بل يُبيد أحياءً كاملة في لحظة. ففي غزة، الموت يُدار عن بُعد، وبضغطة زر!

منذ 19 شهرًا، يعيش الغزيون في جحيم لا ينطفئ. وخلال هذه الفترة، لم يكتفِ جيش الاحتلال بالصواريخ والطائرات، بل ابتكر وسائل قتل صامتة، أشد فتكًا ورعبًا، تتوغل في عمق الأحياء وتزرع الموت في تفاصيل الحياة اليومية. أدواته الجديدة لا تكتفي بالخطف المفاجئ للأرواح، بل تُحوِّل المناطق السكنية إلى ساحات إبادة صامتة.

هيكلٌ صامت، يتحرّك ببطء في أزقة المخيمات وشوارع غزة الضيّقة، يختار موقعه بعناية، ثم يتوقف. لا صوت، لا إنذار، فقط انتظار. وحين يحين التوقيت، ينفجر ليصبح كرة لهب تمزّق الأرض، وتُخرج طبقاتها ورمالها الحمراء، وتمحو الجغرافيا كما لو لم تكن هناك حياة من قبل.

زلزال بلا إنذار: بداية التفجير في حي القصاصيب

"كان الانفجار هائلًا، حدث على مقربة من مكان تواجدنا. لم أسمع شيئًا بهذه القوة من قبل، حتى الزلزال لا يمكن أن يُقارن به"، يقول محمد النذر، أحد سكان حي القصاصيب في جباليا شمال قطاع غزة.

ويضيف في حديثه لـ"الترا فلسطين": "مع مرور الوقت، بتنا نميّز بين صواريخ الطائرات وأنواع القذائف. لكن ما حدث هذه المرة كان مختلفًا تمامًا. تفجير الروبوت ابتلع أكثر من ثمانية منازل دفعة واحدة، وخلف دمارًا شاملًا. حتى أجساد الشهداء اختفت تمامًا، كأنها تبخرت".

ويتابع: "تبدأ حركة هذه الروبوتات عادة بعد العصر، ثم يُفجّر أحدها ليلًا. في البداية ظننا أنه دبابة ثابتة، لكنها لم تتحرك. وعندما دخل الليل، حدث الانفجار فجأة".

وشوهدت الروبوتات المفخخة وهي تتجوّل في أحياء عدة شمالًا وجنوبًا، قبل أن يُقدم جيش الاحتلال على تفجيرها، خاصة خلال اجتياح مخيم جباليا ومحيط مستشفى كمال عدوان قبل أشهر. هذه الآليات تحمل قوة تدميرية هائلة، تتجاوز حتى تأثير البراميل المتفجرة التي تُسقطها الطائرات الحربية. انفجار واحد منها يكفي لمحو حيّ سكني كامل.

صمت النهار، رعب الليل: استراتيجيات التفجير المتعمد

يقول محمد المدهون إن الروبوتات المتفجرة تحمل أطنانًا من المتفجرات، وغالبًا ما يتركها جيش الاحتلال في مناطق توغله لساعات أو حتى لأيام، قبل أن يفجّرها عن بُعد بشكل مفاجئ.

ويضيف في حديثه لـ"ألترا فلسطين": "وجود الروبوت في الحي يزرع الرعب بين السكان. لا أحد يعرف متى سينفجر، وقد يُنقل ليلًا إلى عمق الأحياء المكتظة، دون أن يشعر أحد".

تستخدم إسرائيل هذا السلاح ضمن استراتيجياتها للقتل الجماعي، وهو ما تعتبره منظمات حقوقية جريمة إبادة جماعية. الشهادات من داخل غزة توثق الرعب الذي تخلّفه هذه التقنية

ويتابع: "هذه التفجيرات تُخلّف دمارًا هائلًا، وتستهدف المدنيين قبل أي شيء آخر، إذ توقع أكبر عدد من الضحايا، وتُدمر البنية التحتية بشكل شبه كامل".

ويؤكد أن جيش الاحتلال يتعمّد تفجير الروبوتات ليلًا، حين يكون الناس نيامًا، لإحداث أقصى درجات الذعر وحصد أرواح أكثر في وقت أقل.

"أن تسكن بجوار الروبوت يعني أنك تسكن بجوار موتك"

تقول نسرين ورش أغا، من سكان بيت لاهيا، إن تفجير الروبوتات ليلًا يزرع الذعر في المنطقة، ويترك الأطفال في حالة خوف وهلع دائمين.

وفي حديثها لـ"الترا فلسطين"، تروي: "حين ينفجر الروبوت قرب خيام النازحين، لا يبقى شيء في محيطه. الدمار يبتلع كل ما يعترض طريقه".

نسرين ورش أغا: أن تسكن في نفس المنطقة التي يتواجد فيها الروبوت يعني أنك تعيش بجوار موت مؤجل. النجاة تصبح احتمالًا نادرًا، لا ضمان له

وتضيف: "أن تسكن في نفس المنطقة التي يتواجد فيها الروبوت يعني أنك تعيش بجوار موت مؤجل. النجاة تصبح احتمالًا نادرًا، لا ضمان له".

وتشير إلى أن أكثر ما يؤلمها هو الهلع الذي يصيب أطفالها بعد كل تفجير، خاصة مع تكرار هذه الانفجارات ليلًا، في أوقات النوم والهدوء المفترض.

البداية: أوّل استخدام في جباليا

بدأ جيش الاحتلال باستخدام الروبوتات المفخخة في غزة لأول مرة خلال اقتحامه الثاني لمخيم جباليا في مايو/أيار 2024، ما أسفر عن استشهاد عدد من المدنيين وتدمير منازل عديدة في المنطقة.

أكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن جيش الاحتلال يستخدم الروبوتات المفخخة لتدمير أحياء سكنية كاملة، مشيرًا إلى توثيق تدمير مربعات سكنية في حي الفالوجا غرب جباليا، واستهداف مستشفيات ومرافق مدنية عبر تفجير محيطها، بما في ذلك مستشفى أبو يوسف النجار.

ولفت إلى أن الاحتلال يوظّف هذه الروبوتات في الإعدام الميداني، إلى جانب الطائرات المسيّرة (كواد كابتر) التي تُستخدم للقنص المباشر واستهداف أي تحرك بشري. كما يستخدم وسائل تمويه، بينها حاويات بلاستيكية مفخخة تُشبه تلك المخصصة لحفظ المياه أو مواد التنظيف، ما يجعلها مغرية وخطيرة للمدنيين.

جريمة إبادة: السلاح في الأحياء المكتظة

وشدد المكتب الإعلامي على أن هذا الاستخدام يمثل جريمة حرب وفقًا للمادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تعتبر "تعمُّد شنّ هجوم مع العلم بأنه سيسبب خسائر مفرطة في الأرواح أو الممتلكات المدنية" جريمة يُحاسب عليها القانون الدولي.

وبيّن المكتب الإعلامي أن استخدام الروبوتات المتفجرة في المناطق المكتظة بالسكان يُشكّل جريمة إبادة جماعية بموجب المادة (6) من نظام روما الأساسي، التي تدرج "إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد جماعة معينة بقصد تدميرها كليًا أو جزئيًا" ضمن جرائم الإبادة.

وأضاف أن تقارير موثقة أكدت استخدام هذه الروبوتات بشكل متعمد لإحداث قتل جماعي وتدمير واسع في مناطق محددة، من بينها جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون ورفح، في سياق حملة منظمة تستهدف المدنيين.

حمّل المكتب الإعلامي الحكومي في غزة الاحتلال الإسرائيلي والدول الداعمة له، المسؤولية الكاملة عن الجرائم المرتكبة باستخدام الروبوتات المفخخة. ودعا إلى فتح تحقيق دولي عاجل وشامل في هذه الانتهاكات، وفرض عقوبات قانونية وسياسية على المسؤولين عنها وداعميهم. كما طالب المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لحماية المدنيين الفلسطينيين من أدوات القتل الجماعي التي يُجرّبها الاحتلال في قطاع غزة، في ظل صمت عالمي مستمر.

 المرصد الأورومتوسطي: قتل بلا تمييز

قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن جيش الاحتلال يستخدم الروبوتات المفخخة، المحمّلة بأطنان من المتفجرات، في عمليات قتل وتدمير واسعة شمال قطاع غزة، ضمن تصعيد متعمّد لجريمة الإبادة الجماعية بحق السكان الفلسطينيين، من خلال المجازر، والقتل العمد، والتجويع، والتهجير القسري واسع النطاق.

وأوضح أن هذا النوع من الأسلحة محظور بموجب القانون الدولي، إذ يُصنّف ضمن الأسلحة العشوائية التي لا يمكن حصر تأثيرها في أهداف عسكرية فقط. وبسبب طبيعتها، تصيب هذه الروبوتات المدنيين بشكل مباشر، أو تستهدفهم إلى جانب الأعيان المدنية دون تمييز.

وطالب المرصد الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بالتدخل العاجل لإنقاذ مئات الآلاف من المدنيين شمال غزة، ووقف مجازر الإبادة التي ترتكبها إسرائيل للعام الثاني على التوالي، إلى جانب فرض حظر شامل على تصدير الأسلحة لها، ومساءلتها قانونيًا، واتخاذ إجراءات عملية لحماية المدنيين الفلسطينيين.

من خردة الاحتلال إلى روبوت قاتل

الروبوتات المفخخة هي آليات عسكرية إسرائيلية، تُحمّل ببراميل تحوي أطنانًا من المتفجرات، وتتحرك بين المنازل والمربعات السكنية، ويجري التحكم بها عن بُعد، ليُصار إلى تفجيرها في التوقيت الذي يحدده الجيش.

ويعود استخدام هذا النوع من الروبوتات إلى عام 2021، حين أعلنت شركة "ريبوتيم" الإسرائيلية إطلاق الجيل الثاني من الروبوت المقاتل "رووك 6×6". وقد صُمم ليقوم بمهام متعددة في ميدان الحرب، منها المراقبة، والتقدم، والهجوم، وحتى نقل الجثث والمعدات.

وتشير تقارير إلى أن جيش الاحتلال يستخدم عربات M113 القديمة، التي أُخرجت من الخدمة، بعد تحويلها إلى مركبات مفخخة تُشحن بالمتفجرات وتُوجّه عن بعد.

"أجساد تبخّرت"... شهادات من تحت الركام

يقول محمود أبو وردة، الذي حوصر في منطقة أبو شرخ شمال غزة، إن الانفجارات التي وقعت هناك كانت أشبه بـ"قنبلة نووية مصغّرة" بفعل القوة التدميرية الهائلة التي أحدثتها.

ويضيف في حديثه لـ"الترا فلسطين": "تفجيرات الروبوتات أذابت أجساد المحاصرين بالكامل. نعلم أنهم كانوا هناك، لكن لم يبقَ أي أثر يدل على وجودهم".

محمود أبو وردة: حين يكون الروبوت في محيطك، تشعر وكأنك تعيش بجوار الموت مباشرة. تنتظر لحظة التفجير التي قد تأتي بعد يوم أو أسبوع، فيما تخوض حربًا نفسية طاحنة لا يمكن وصفها

ويتابع: "حين يكون الروبوت في محيطك، تشعر وكأنك تعيش بجوار الموت مباشرة. تنتظر لحظة التفجير التي قد تأتي بعد يوم أو أسبوع، فيما تخوض حربًا نفسية طاحنة لا يمكن وصفها".

ويصف لحظة الانفجار قائلًا: "كنا نيامًا حين انفجر. أجسادنا تجمّدت في أماكنها، وانقطعت أنفاسنا للحظات. لا نزال غير مصدقين أننا نجونا. ما حدث كان أشبه بتسونامي اجتاح كل شيء حولنا".

استبدال الجنود بالآلات: استراتيجية الجيش الإسرائيلي

يقول المختصُّ في الشأن الإسرائيلي، محمد هلسة، إن تفجير الروبوتات المفخخة يسبق عادةً العمليات البرية، بهدف التمهيد بالنار، وتوسيع نطاق القتل والدمار، إذ تُحدث هذه الانفجارات أصواتًا تفوق قنابل الطائرات في شدتها.

ويشير إلى أن اعتماد جيش الاحتلال على هذا النوع من الروبوتات جاء نتيجة الخسائر التي تكبّدها في المواجهات المباشرة، وقدرة المقاومة على إيقاع إصابات في صفوف الجنود رغم الاحتياطات المشددة. لذلك، لجأ الجيش إلى حلول تكنولوجية تقلل من الاحتكاك البشري، وتعتمد على التفوق في تقنيات القتل عن بُعد.

محمد هلسة: استخدام الروبوتات يقلل من التكلفة المادية مقارنة بالقصف الجوي، ويُجنّب الجنود مخاطر التعرض لكمائن المقاومة 

ويضيف هلسة في حديثه لـ"ألترا فلسطين" أن استخدام الروبوتات يقلل من التكلفة المادية مقارنة بالقصف الجوي، ويُجنّب الجنود مخاطر التعرض لكمائن المقاومة، أو السقوط في أرض المعركة.

كما يلفت إلى غياب أي تناول إعلامي أو سياسي إسرائيلي للأثر التدميري الذي تسببه هذه الروبوتات في المناطق الفلسطينية، لأن المجتمع الإسرائيلي بات يعتبر ما يحدث "حربًا مبررة" ضد عدو يجب القضاء عليه، مهما كانت الأدوات.

ويختتم هلسة بالقول إن ما يهم الحكومة والمجتمع الإسرائيلي اليوم ليس كيفية خوض الحرب، بل ضمان عدم سقوط قتلى في صفوف الجنود، بأي وسيلة كانت.

ومنذ استئناف "إسرائيل" لحرب الإبادة على غزة فجر 18 آذار/ مارس 2025، استُشهد أكثر من 2,985 فلسطينيًا، وأصيب ما يزيد عن 8,173 آخرين، بعدما تنصّلت من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، الذي استمر 58 يومًا بوساطة قطرية ومصرية وبدعم أميركي.

وبحسب أحدث الإحصاءات، فإن حصيلة العدوان الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قاربت 55,000 شهيد و120,000 جريح، إضافة إلى أكثر من 14 ألف مفقود، معظمهم تحت الأنقاض أو مجهولي المصير.