يحاول التجار وأصحاب المهن في قطاع غزة ترميم مشاريعهم، وسط ظروف صعبة للغاية، فالكهرباء ما تزال غائبة، وفي الأحياء الشرقية للمدينة تكاد شبكات المياه تكون خارجة عن الخدمة تمامًا، أما الاتصالات فتعمل بقدرات محدودة، والطرقات الرئيسية مدمّرة أو غير صالحة للمرور.
يقول الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر إن ما يشهده قطاع غزة ليس اقتصادًا بالمعنى المتعارف عليه، بل منظومة دنيا تُبقي السكان على حدود البقاء، من دون أي أفق لعودة دورة إنتاجية حقيقية
وفي هذا المشهد المشحون بالمعاناة، تظهر محاولات النهوض بوصفها تحديًا يتجاوز المنطق. وفي سوق خان يونس، أحد أقدم وأكبر الأسواق الشعبية، المكان الذي كان نابضًا بالحركة يعود اليوم كظلّ لذاكرته: أبوابٌ مخلّعة، لافتاتٌ محترقة، وأكوامٌ من الحجارة والحديد الملتوي بعد أن طالت يد التدمير مساحات واسعة من المدينة، بما فيها المحال التجارية التي كانت مركزًا رئيسيًا لبيع الملابس والمواد الغذائية والأدوات المنزلية.
إعادة بناء متجر وسط الدمار
يقف تاجر الملابس محمد أبو رزق صاحب محل "محمد شوقي" أمام محله الذي طاله الدمار على مرحلتين، الأولى خلال الاجتياح الأول للمدينة في كانون الأول/ ديسمبر 2023، والثانية خلال العمليات الأخيرة التي امتدت إلى وسط المدينة، غير أنه استطاع بناء محله من جديد متكبدًا تكاليف باهظة.
يقول أبو رزق: "هذه ليست المرة الأولى التي أعيد فيها ترميم المحل، وكلّ إصلاح يكلّفني مبالغ ضخمة، لكنّي أتمسّك بالأمل، فنحن لا نملك رفاهية الانتظار، ومن يريد أن يحيا عليه أن يبدأ من جديد مهما كان الخراب حوله". وبينما كان يعيد تثبيت رفٍ متصدع، أضاف: "كل حجر أعيده إلى مكانه هو رسالة بأننا باقون. خسرت الكثير، لكن خسارة الأمل أثقل من أي خسارة مادية".
ولم يكن قرار العودة إلى المحل سهلاً على أبو رزق، فقد واجه تحديات كبيرة منذ اللحظة الأولى، بدءًا من إزالة الركام أمام متجره، وصولًا إلى جمع قطع البضائع المتناثرة التي لم يلتهمها الدمار. ورغم محدوديةُ الإمكانات، اختار أن يبدأ بما تيسّر، مستعينًا بما تبقى لديه من رأس مال بسيط، وما استطاع الحصول عليه من بضائع قليلة رغم الحصار واستمرار إغلاق المعابر.
يقول أبو رزق: "كنت من أوائل من عادوا لفتح محلاتهم بعد انسحاب الاحتلال. حينها كانت المدينة شبه خالية، لكن كان لا بدّ أن نبدأ، فلو لم نفتتح نحن، فلن تعود الحياة إلى السوق".
رحلة أبو رزق اليومية للبحث عن البضائع تمثل بحدِّ ذاتها معاناة، فالمعابر متوقفة أو تعمل ببطء شديد، والطرقات مدمّرة، وتكاليف النقل تضاعفت بشكل كبير، وهكذا فإن "إحضار صندوق بضائع بات أصعب من إدارة متجر كامل، والبضاعة قليلة، والمخاطر كبيرة، لكن لا بدّ من المحاولة" أضاف.
ورغم أنّ السوق ما يزال شبهَ خالٍ، ورائحة الدخان لا تزال عالقة في الهواء، إلا أن أبو رزق يدرك أنّ العودة اليومية إلى محله هي جزء من معركة أكبر يخوضها أهل غزة: معركة استعادة الحياة، ولو من بين الركام.
بداية من الصفر
وعلى بُعد أمتار قليلة من سوق خان يونس، يخوض تاجر المواد الغذائية مراد السقا معركة مشابهة. دكّانٌ صغير بلا نوافذ، رفوفٌ يابسة تعلوها طبقة من الغبار، وصمت يملأ المكان، وفي منتصف هذا الركن الخافت يكافح السقا لاستعادة بعض ملامح متجره الذي كان يعجّ بالحياة قبل الحرب.
يمرّر يده فوق الرفوف كما لو كان يوقظ ذاكرة المكان، ثم يقول: "فتحنا المحل كي نشعر أننا ما زلنا على قيد الحياة. لا كهرباء، ولا بضائع، ولا طرق سالكة لنقل أي شيء، الأمر أشبه ببدء تجارة جديدة من الصفر".
لكنّ الصفر، بالنسبة إلى السقا، ليس نقطة بداية فحسب، بل هُوةٌ اقتصادية تتسع يومًا بعد يوم، فالبضائع لم تعد تدخل بسهولة، والأسعار تضاعفت بسبب كلفة النقل وندرة السلع، ما دفع كثيرًا من الأهالي لشراء الحد الأدنى فقط من احتياجاتهم الغذائية.
يشرح السقا: "في السابق، كنا نتلقّى شاحنات من المواد الغذائية كل أسبوع. أما اليوم، فإحضار كيس أرز يحتاج رحلة طويلة، ويدفع التاجر ثمنًا مضاعفًا للنقل، هذا إن وجدنا البضاعة أصلًا"، مشيرًا إلى أنهم يدفعون لتأمين الطريق أكثر ما يدفعون ثمن البضاعة نفسها.
ولا يقف الأمر عند نقص السلع فحسب، فالكهرباء المقطوعة منذ أكثر من عامين أدّت إلى فساد كميات كبيرة من المواد الغذائية، خصوصًا الألبان والأغذية المجمدة، ما يشكّل خسارة إضافية للتجار الذين يعانون أصلًا من انهيار اقتصادي. ورغم هذا الواقع القاسي، يصرّ السقا على فتح متجره يوميًا ولو لساعة واحدة، "ليس طمعًا بالربح، بل حفاظًا على شيء من الاستمرارية في حياة فقدت كل ثوابتها".
ويضيف: "نحتاج لفتح الطرق ودخول البضائع وعودة الكهرباء. نحتاج للحياة نفسها، إذا لم يتحسن الوضع، لن تبقى تجارة غذاء في غزة أصلًا".
مهنة على المحك
وفي ورشةٍ على أطراف سوق خان يونس، يجلس الحرفيّ محمود عياد، صاحب ورشة لتصليح المواتير، بين بقايا أدواته التي نجا بعضها من تحت الركام بعد قصف منزله المجاور للورشة. ورغم أن الورشة لم تُصَب بصورة مباشرة، إلا أنّ موجة الانفجار دمّرت معظم معدّاته الدقيقة، وتسبّبت في تلف مواتير زبائنه التي كان يعمل على إصلاحها.
يقول عياد: "هذه الورشة ليست مصدر رزقي فقط، بل خلاصة عمري، عملت فيها على مدار عشرين عامًا، لكن القصف الأخير قلب كل شيء، فمنزلي دُمّر بالكامل، والورشة تضرّرت لدرجة جعلت العودة إلى العمل مغامرة يومية".
يعتمد عياد على الكهرباء في تشغيل أدوات القياس والتشغيل، ومع غياب الكهرباء فإن البديل هي المولدات، لكن هذه ليست حلاً، فالوقود الذي يشغلها نادرٌ وسعره مرتفع، مبينًا أن ورشته فقدت جزءًا كبيرًا من زبائنها الذين نزحت عائلاتهم أو فقدوا القدرة المالية على إصلاح ما لديهم من معدات.
ويضيف: "حتى لو توفّر الوقود، فالطريق إلى الورشة نفسها محفوف بالمخاطر بسبب الدمار والركام الذي يعيق الحركة. ومع ذلك، آتي كل صباح لأرتّب الأدوات وأتفقّد ما تبقّى، وأشعر أنّ مجرد بقائي هنا هو انتصار صغير".
ويشير عياد إلى صعوبة الحصول على قطع الغيار والمواد الأساسية اللازمة لإصلاح المواتير، إذ إن إغلاق المعابر وتدمير شبكة الطرق جعل وصول القطع المستوردة شبه مستحيل، كما أنّ الأسعار تضاعفت بسبب ندرة السلع، وهو ما انعكس مباشرة على حركة العمل داخل الورشة.
ويرى أنّ الحفاظ على الورشة مفتوحة اليوم هو "موقف معنوي أكثر منه اقتصادي"، مضيفًا: "لن أترك هذه المهنة مهما صار، فلو أغلقنا نحن الحرفيين ورشاتنا، فمن سيعيد تشغيل معدات الناس ومضخات المياه والمواتير التي يعتمد عليها كثيرون في حياتهم اليومية؟ نحن جزء من دورة الحياة في المدينة، وإن توقفنا توقفت أشياء كثيرة".
انهيار اقتصادي شامل
ويصف الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر الوضع الراهن في قطاع غزة بأنّه "منهكٌ إلى حدّ الانهيار"، في ظلّ غياب المقوّمات الأساسية للحياة الاقتصادية الطبيعية، مشيرًا إلى أنّ نحو 95% من السكان باتوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية التي توفرها المؤسسات الدولية والجمعيات الإغاثية، بعدما أدّت الحرب إلى تفكيك منظومة العمل والإنتاج، وتدمير المصانع والبنية التحتية، وشلل حركة التجارة بالكامل.
ويؤكد أبو قمر، في حديث لـ"الترا فلسطين"، أنّ الإغلاق المستمر للمعابر ومنع الاحتلال إدخال المواد الخام بحجّة “الاستخدام المزدوج” أسهما في خلق اقتصاد هشّ تحكمه السوق السوداء، بعدما جُرّدَ الاقتصاد من دوره الرسمي والمؤسسي، وأُفسح المجال لاقتصاد الظل كي يتحكم في حركة السلع والخدمات.
وقال: "ما يشهده قطاع غزة ليس اقتصادًا بالمعنى المتعارف عليه، بل منظومة دنيا تُبقي السكان على حدود البقاء، من دون أي أفق لعودة دورة إنتاجية حقيقية".
التعافي الجزئي ممكنٌ ولكن بشرط توافر متطلبات محورية، منها: فتح المعابر بشكل كامل ودائم، والسماح بدخول المواد الخام والسلع الأساسية بلا قيود، وتوفير التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة
ويوضح أبو قمر أنّ استمرار إغلاق المعابر التجارية، ودمار المصانع والمنشآت الإنتاجية، وتلف الشاحنات والمركبات التجارية، إلى جانب تهالك الطرق، وانقطاع الكهرباء، وتضرّرُ شبكات الاتصالات، كلها عوامل أسهمت مباشرة في شلل القطاع التجاري، ولم يعد ممكنًا الحديث عن تعافٍ طبيعي في ظل غياب البنية التحتية والتمويل والتدفق التجاري.
وبيَّن أن التعافي الجزئي ممكنٌ ولكن بشرط توافر متطلبات محورية، منها: فتح المعابر بشكل كامل ودائم، والسماح بدخول المواد الخام والسلع الأساسية بلا قيود، وتوفير التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة لتمكينها من استعادة نشاطها وتشغيل الأيدي العاملة، وإطلاق عملية إعادة إعمار شاملة دون فيتو إسرائيلي على إدخال مواد البناء واستخدامها.
ويشير أبو قمر إلى أن أصحابُ المهن والتجارُ يحتاجون إلى تعويضات عن الخسائر التي لحقت بهم، بما في ذلك تقديم تسهيلات مالية وإجرائية تساعدهم على استعادة نشاطهم، ورفع القيود أمام إعادة الاندماج في السوق وعدم فرض شروط تعجيزية، إضافة إلى دعم برامج التدريب وإعادة التأهيل المهني لضمان عودة القوى العاملة إلى سوق العمل.