لم تكن نتائج الثانوية العامة هذا العام في غزة مجرّد مناسبةٍ للفرح، بل لحظةً موجعة تختلط فيها الدموع بالتهاني؛ جيلٌ كامل كافح وسط الدمار ليحصل على معدّلٍ عالٍ، لكنه وجد نفسه أمام واقعٍ يُغلق أبواب الجامعات والمعابر، ويحوّل الحلم إلى سؤالٍ كبير: ماذا بعد النجاح؟
الطلبة المتفوقون الذين اجتازوا عامهم الدراسي وسط القصف والنزوح، كانوا على أعتاب مستقبلٍ رسموه بجهدٍ وسهرٍ طويلين؛ بعضهم حلم بدراسة الطب، وآخر بالهندسة أو بالسفر لإكمال دراسته في الخارج. غير أن الحرب التي اجتاحت قطاع غزة بدّدت أحلامهم وجعلت فرحتهم منقوصة، وقطعت الطريق أمامهم، لتتحول طموحات التفوق إلى معركةٍ من أجل البقاء.
وأعلنت وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية، يوم الثلاثاء 14 تشرين الأول/أكتوبر 2025، نتائج امتحان الثانوية العامة دورة 2025 لطلبة قطاع غزة مواليد 2006، بعد دورةٍ استثنائية جرت إلكترونيًا بسبب الظروف الميدانية.
الحرب التي اجتاحت قطاع غزة بدّدت أحلام طلبة التوجيهي في قطاع غزة وجعلت فرحتهم منقوصة، وقطعت الطريق أمامهم، لتتحول طموحات التفوق إلى معركةٍ من أجل البقاء
ووفقًا لبيانات الوزارة، بلغ عدد الناجحين نحو 24 ألف طالبٍ وطالبة، إلا أنّ أكثر من نصفهم لم يتمكنوا من التسجيل الجامعي حتى الآن، نتيجة تدمير مقرات الجامعات وصعوبة الحركة والسفر.
,بحسب وزارة التربية والتعليم في غزة، تضررت أكثر من 300 مدرسةٍ وجامعة جزئيًا أو كليًا منذ بداية الحرب، فيما فُقدت آلاف الشهادات والسجلات الأكاديمية، ما حرم مئات الطلبة من استكمال إجراءات الالتحاق بالجامعات.
وتعرّضت جامعة الأزهر، والجامعة الإسلامية، وجامعة الأقصى، وغيرها من المؤسسات الأكاديمية الكبرى في القطاع، لأضرارٍ جسيمة في مبانيها وقاعاتها ومختبراتها، ما أوقف الدراسة فيها وجاهيًا إلى أجلٍ غير مسمّى.
طبيبة المستقبل تنتظر المعبر
منذ أن أُعلنت نتائج الثانوية العامة في غزة، لم تهدأ تالا أبو جامع يومًا عن مطاردة حلمها الكبير في دراسة الطب. تجلس ساعاتٍ طويلة أمام شاشة هاتفها المحمول داخل خيمتها الصغيرة في منطقة المواصي غرب خانيونس، تتنقّل بين مواقع الجامعات وبرامج المنح الدولية، ترسل عشرات الطلبات ورسائل الأمل إلى مؤسساتٍ عربيةٍ وأجنبية، علّ أحدها يفتح بابًا نحو الحلم المؤجَّل خلف المعابر المغلقة.
تالا، صاحبة المعدّل 92.9% في الفرع العلمي، تقبض على ورقة نتيجتها كما لو كانت جواز سفرٍ لم يُفعَّل بعد، حيث كانت تطمح إلى معدّلٍ أعلى مما حققته، إذ كانت تتوقع أن تتجاوز نسبة 97%، غير أن ظروف الحرب تركت بصمتها الثقيلة على مسيرتها الدراسية؛ فالقصف المتواصل والنزوح المتكرر من مكانٍ إلى آخر، إضافة إلى انقطاع الكهرباء وضعف شبكة الإنترنت، جعلت الدراسة في كثيرٍ من الأيام مهمةً شبه مستحيلة.
وتقول تالا بأسى ممزوجٍ بالعزيمة لـ"الترا فلسطين": "كنتُ أريد أن أحصل على معدّلٍ يؤهلني مباشرةً لمنحة تفوق، لكنّ الحرب سرقت منّي التركيز والهدوء، ومع ذلك أشعر بالفخر لأنني لم أستسلم".
وتضيف بصوتٍ تملؤه الإرادة رغم التعب: "كل صباح أبدأ البحث عن منحٍ جديدة، أقرأ الشروط وأُحضّر الأوراق، لكن المشكلة ليست في القبول... بل في الوصول، فالمعبر مغلق، والسفر حلمٌ مؤجَّل لا يعرف موعده".
تحلم تالا أن تصبح طبيبةً تعالج الأطفال الذين أنهكتهم الحرب، غير أنّ الطريق إلى الكلية الطبية بات أطول مما تصوّرت. تبتسم ابتسامةً يختلط فيها الأمل بالحزن وتكمل: "كنتُ أقول لأمي: بعد النتائج سنسافر... اليوم أقول لها: المهم أن نبقى أحياء".
تعيش تالا اليوم مع أسرتها في خيمةٍ في مواصي خانيونس، نُصبت بعد أن تهدّم منزلهم في بلدة بني سهيلا شرق خانيونس جرّاء القصف. على طاولةٍ صغيرةٍ تتناثر كتب الأحياء والكيمياء، تقضي ساعاتٍ من الليل تتابع محاضراتٍ تعليمية إلكترونية في علوم الطب الحيوي، محافظةً على خيطٍ من الحلم الأبيض الذي يخفق في صدرها منذ طفولتها، حين كانت ترافق والدها إلى المستشفى وتراقب الأطباء بإعجاب.
واقع أقسى من الحلم
ورغم إصرار تالا على دراسة الطب، إلا أنّ الواقع الاقتصادي في قطاع غزة يقف عائقًا أمامها، فتكاليف هذا التخصّص تُعدّ من الأعلى في الجامعات المحلية، ورسومه تفوق قدرة أسرتها التي فقدت منزلها ومصدر دخلها خلال الحرب. ومع انعدام المنح الداخلية الكافية وصعوبة السفر للخارج، تجد تالا نفسها عالقةً بين حلمٍ كبيرٍ وإمكاناتٍ محدودة، تترقب أي فرصةٍ دراسيةٍ تمنحها طريقًا نحو المستقبل الذي تنتظره بشغف.
تقول والدتها وهي تنظر إلى ابنتها بعينين دامعتين: "تالا كانت تدرس في ظروفٍ صعبةٍ للغاية، ومع ذلك لم تيأس يومًا، كنا نؤمن أنّ تفوقها سيكون طريقها إلى المنحة، لكن الواقع أقسى من الأحلام".
رغم كل شيء، ما تزال تالا متيقنةً أنها ستحصل على منحةٍ خارجية، وسيفتح معبر رفح، لذلك ستُبقي حقيبتها الصغيرة جاهزة، بداخلها شهادة التفوق، وبعض الكتب، وصورة العائلة.
حلم توقف عند الحدود
وفي خيمته المتواضعة في أطراف مدينة خانيونس، يجلس محمد شعت (18 عامًا) يُقلّب أوراق شهادته الثانوية بعناية، وكأنّه يخشى أن تفقد بريقها الأخير تحت غبار الحرب. معدّله 91.3% في الفرع العلمي كان كفيلًا بأن يفتح له أبواب كلية الطب، لولا أنّ أبواب الواقع أوصدت قبله بسنوات.
بعد إعلان النتائج، شعر محمد أن الحلم اقترب، وحصل آنذاك على قبولٍ جامعي من إحدى الجامعات المصرية لدراسة الطب البشري هناك، لكنه صُدم باستمرار إغلاق معبر رفح، الذي حال دون إكمال حلمه بأن يصبح طبيبًا.
يقول محمد لـ"الترا فلسطين"، وهو يحدّق في الأفق الرمادي الممتد خلف الخيمة: "كنتُ أحلم منذ طفولتي أن أصبح طبيبًا، عندما كنت أرى الأطباء في المستشفى يعالجون الجرحى، كنت أقول في نفسي: يومًا ما سأكون مثلهم".
يتابع: "لم أكن أريد المعدّل لنفسي فقط، كنت أريد أن أرفع رأس والدي ووالدتي اللذين تعبا من أجلي... اليوم حلمي أصبح متوقفًا على بوابة المعبر، أنا متفوق، لكنني أشعر بالعجز، كأن النتيجة شهادةٌ مجمّدة بلا مستقبل".
لكن حين بدأ يبحث محمد في تكاليف دراسة الطب في قطاع غزة، أدرك أنّ الطريق ليس مفروشًا بالأمل؛ الرسوم الجامعية الباهظة داخل غزة، وانسداد أفق المعبر بسبب الحصار، جعلاه يعيد التفكير في مستقبله.
محمد يرفض أن يموت الحلم
يقول بصوتٍ منخفضٍ كأنّه يعتذر لحلمه القديم: "قررتُ أن أدرس التمريض، لا أستطيع تحمّل تكاليف الطب، لكن التمريض يُبقيني قريبًا من الناس، من المرضى، من فكرة العلاج نفسها".
رغم الخيبة، لم يُطفئ محمد شعلة الطموح؛ التحق مؤخرًا بدوراتٍ تدريبيةٍ على الإسعاف الأولي والعمل الميداني مع الفرق الطبية التطوعية في خانيونس، يحمل حقيبته الصغيرة ويخرج كل صباحٍ لمساعدة المسعفين في نقل الجرحى.
مرّ محمد أثناء دراسته بظروفٍ صعبةٍ وقاسيةٍ وفقدانِه إحدى عمّاته خلال الحرب، لكنه واصل دراسته بين أصوات القصف وانقطاع الكهرباء، وتفاصيل الحياة الصعبة التي فرضتها حالة النزوح.
في الأشهر الأخيرة من العام الدراسي، لم يكن لمحمد مكانٌ ثابتٌ للدراسة، كان يتنقّل بين زوايا البيت قبل أن يُقصف، ثم بين الخيم بعد النزوح. لكن محمد لا يزال يتمسّك بدفتر ملاحظاته وقلمه الأزرق، يكتب عليه بخطٍ صغيرٍ في نهاية كل صفحة: "الطبيب محمد شعت – قريبًا إن شاء الله". في كل مساء، يضع شهادته المدرسية تحت وسادته، كما لو كانت وعدًا مؤجّلًا لا يريد أن يُفرّط به.
إصرار في مواجهة ركام الحلم
بين أزقّةٍ غارقةٍ في الغبار والظلام والأنقاض، تسير نور عيادة (18 عامًا) وهي تحمل في يدها دفترًا كبيرًا غطّاه الرماد. طالبةُ الفرع العلمي، التي حصلت على معدل 89.4% في الثانوية العامة، كانت تحلم أن تبدأ عامها الجامعي الأول في كلية الهندسة المعمارية بالجامعة الإسلامية في غزة، لترسم بخطوطها الأولى ملامح مدينةٍ تنهض من تحت الركام.
لكنّ الاحتلال دمّر الجامعة التي احتضنت أحلامها، ليجد الحلم نفسه بين ركام الأبنية، مؤجّلًا إلى موعدٍ لم يُكتب بعد. تقول نور بصوتٍ خافتٍ يحمل مزيجًا من الفخر والحسرة لـ"الترا فلسطين": "يوم إعلان النتيجة كان يومًا سعيدًا لعائلتي، لكنني كنتُ أعلم في داخلي أن فرحتي ناقصة... فالحلم الذي بنيتُه طوال سنوات الدراسة صار مؤجّلًا بفعل الظروف الصعبة التي نعيشها".
المهندسة الصغيرة تنتظر البداية
منذ صغرها، كانت نور تُحب رسم البيوت بأقلام الألوان، وتخطّ في دفاترها تصاميم لبيوتٍ تتّسع للجميع، وتضيف مبتسمةً: "كنت أقول لوالدي دائمًا إنني سأساهم في بناء غزة من جديد، بيتًا بيتًا، وسأعيد رسمها أجمل مما كانت".
لكنّ الواقع اليوم مختلف؛ فبعد تدمير الاحتلال للجامعات في قطاع غزة، وسوء الظروف الاقتصادية التي تعاني منها معظم الأسر الغزية بفعل تداعيات الحرب، تحوّل حلم الهندسة إلى مسودةٍ مؤقتةٍ في دفترها، تفتحه أحيانًا لتستعيد بعض الأمل. تقول: "في كل مرةٍ أتخيل نفسي في الجامعة، أسمع في الخلفية أصوات الانفجارات، كأن الحرب لا تريد أن تتركني أبدأ حياتي".
لم تقف نور مكتوفة الأيدي أمام هذا الواقع، فبدل أن تبكي حلمها المؤجّل، قرّرت أن تُساعد أسرتها في مواجهة الضيق المعيشي، فبدأت بإعطاء دروسٍ خصوصيةٍ لطلاب المرحلة الأساسية في الرياضيات والعلوم.
"كنتُ أريد أن أبقى قريبةً من التعليم حتى لو لم أستطع دخول الجامعة بعد"، تقول نور وهي تُرتّب دفاتر طلابها بابتسامةٍ خجولةٍ لا تخلو من الأمل. ورغم أنّ حلمها الأكاديمي في الهندسة مؤجّلٌ إلى إشعارٍ آخر، فإن نور لا تزال ترى في كل ركامٍ مشروعَ بناءٍ جديد.
تختم حديثها بعبارةٍ تحمل نضجًا يفوق عمرها: "ربما تأجّل حلمي، لكنه لم يمت، الحرب دمّرت الجدران، لكنها لم تمسّ الإصرار الذي فينا، سأبني غزة يومًا ما، ولو بدأت من خيمتنا الصغيرة".
حلم الصيدلة المؤجَّل
على أحد أرصفة مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يقف أحمد عبد العال (18 عامًا) خلف واجهةٍ صغيرةٍ لمحلٍّ لبيع الملابس، يُرتّب القمصان على عجلٍ، فيما يرفع عينيه نحو الشارع المزدحم، كأنّه يبحث بين المارّة عن ملامحٍ من حياةٍ أخرى تركها خلفه. بين طيات الأقمشة، تمرّ في ذهنه صورٌ متلاحقة: مقعده الدراسي داخل مركز الإيواء، دفاتره وكتبه، ووجه والده الذي فقده قبل أشهرٍ في قصفٍ دمّر منزلهم وسط المخيم.
أحمد، الحاصل على معدل 88.5% في الثانوية العامة خلال الحرب، كان يحلم أن يدرس تخصّص الصيدلة في جامعة الأزهر بغزة، ليصبح يومًا ما صيدليًّا يصنع الدواء الذي يُخفّف آلام الناس. لكن الحرب، التي سرقت منه والده وأحد زملائه، سرقت أيضًا طريقه إلى الجامعة.
يقول بصوتٍ مبحوحٍ، وقد حفرت التجاعيد المبكرة ملامح وجهه لـ"الترا فلسطين": "أصدقائي يتحدثون عن التخصصات والجامعات، وأنا أفكر فقط في كيفية شراء الدواء لأمي المريضة والطعام لإخوتي الصغار".
مسؤولية تفوق العمر
منذ استشهاد والده، أصبح أحمد المعيل الوحيد لعائلته المكوّنة من سبعة أفراد: أمٌّ مريضة تحتاج إلى علاجٍ شهريٍّ باهظ، وأربعة إخوةٍ صغار ينتظرون عودته كل مساءٍ بما تيسّر من القوت. يعمل اليوم ساعاتٍ طويلة في محلٍّ للملابس بسوق النصيرات، مقابل أجرٍ متواضعٍ لا يكفي سوى لتغطية أبسط احتياجات العائلة.
يقول بحزنٍ متماسك: "كنتُ في السابق أستيقظ لأذهب إلى المدرسة، اليوم أستيقظ لألحق بالعمل، أُخفي شهادتي في حقيبتي... أحيانًا أخرجها ليلًا وأتذكر أنني كنتُ متفوقًا".
قبل الحرب، كان أحمد يقضي لياليه بين صفحات كتب الكيمياء والأحياء، يقرأ عن التفاعلات الدوائية بشغفٍ لا ينتهي. أمّا اليوم، فبات يُتقن فنّ طيّ القمصان وحساب الخصومات أكثر من معادلات العناصر. يعيش مع أسرته في مركز إيواء داخل مدرسةٍ حكومية، حيث تتقاسم أربع عائلاتٍ غرفةً واحدةً ضيّقة بلا كهرباء ولا خصوصية.
ورغم قتامة المشهد، لم يُغلق أحمد صفحة الحلم بالكامل؛ في لحظاتٍ نادرةٍ من الهدوء، يجلس قرب نافذة المدرسة ويقرأ على ضوء هاتفٍ قديم مقالاتٍ علميةً عن الأدوية النباتية، محاولًا الحفاظ على خيطٍ رفيعٍ من الأمل.
اليوم، يُبقي أحمد شهادته الثانوية في كيسٍ بلاستيكي داخل حقيبته، يحميها كما لو كانت كنزًا، ويختتم حديثه بابتسامةٍ خفيفةٍ تخفي ألمًا عميقًا: "ربما لن أدرس الصيدلة قريبًا، ولكن سأعود إلى مقاعد الدراسة... وسأحقق حلمي في الصيدلة، لا لأبيع الدواء، بل لأصنعه".
وفي الوقت الذي يحلم فيه طلبة العالم ببداية عامٍ جامعيٍ جديد، يعيش طلاب غزة تحت سقف الانتظار، يحفظون شهاداتهم كما يحفظون الأمل، لعلّ المستقبل يفتح لهم طريقًا نحو الحياة والتعليم من جديد.