صداع تنهيه حبة مسكن للألم، ومرض وراثي تتوقف أعراضه بالالتزام بالدواء مدى الحياة، وعارض صحي يحتاج عملية جراحية، وأمراض كثيرة لا يترك العلاج لها أثرًا… يحدث هذا في الحياة بشكلها الطبيعي، كان هكذا في قطاع غزة قبل الحرب، لكنه لم يعد كذلك. فأبسط مشكلة قد تتفاقم لكارثة: جرح صغير في قدم مريض السكري قد يؤدي لبترها، وتأخر علاج مريض الضغط يزيد فرص إصابته بالجلطات، وأنين المرضى يعلو بلا مسكن.
هذا كله يرجع إلى انقطاع كثير من الأدوية بسبب الحصار وتراجع تقديم الخدمات الصحية وتوقف الكثير منها. فإحصائيات وزارة الصحة تقول إن رصيد أكثر من نصف الأدوية الأساسية صفر، وكذلك حال ما يزيد عن 65% من المستهلكات الطبية، وخرجت عن الخدمة 22 مستشفى من أصل 38، ويعمل من غرف العمليات 50 فقط، وتجاوزت نسبة إشغال الأسرّة 106%. ويمتد هذا الوضع الكارثي ليشمل كل تفاصيل الخدمات الصحية والرعاية الطبية.
تتسبب في تدهور الحالة الصحية للمرضى لأسباب مختلفة أفرزتها الظروف الصعبة، من أهمها تدمير البنية التحتية للمستشفيات والمرافق الصحية
تضرر بفعل هذا الواقع كل المحتاجين للعلاج، سواء مرضى أو جرحى حرب. والحديث هنا ليس عمن يعانون أمراضًا خطيرة، بل عن أصحاب الأمراض البسيطة والتي يمكن التخلص منها أو التعايش معها في الظروف الطبيعية. من أمثلة ذلك معاناة مرضى "جلوكوما"، الذي يسبب تلف العصب البصري. لا علاج له، ولكن يمكن وقف تقدمه للحيلولة دون فقد البصر، لكن في غزة، وخلال سنتي الإبادة، فقد أكثر من 500 مريض بصرهم بسبب انقطاع أدويتهم.
فشل كلوي وفقدان حياة
بعد سبع سنوات من العناء، وجدت رنا زكريا طبيبًا يخبرها بحقيقة مرضها، حمى البحر الأبيض المتوسط، وهو مرض وراثي يسبب نوبات من الألم الشديد، ومضاعفات قد تصل إلى حد الفشل الكلوي الذي من شأنه أن يؤدي للوفاة. يتناول المصابون به عقار "كولشيسين" مدى الحياة، فيتعايشون مع مرضهم بلا خطر وبألم أقلّ.
بدد الطبيب مخاوف رنا حين أكّد لها أن الدواء يحميها من أي مضاعفات ويقلل الآلام بدرجة كبيرة، وقد ينهيها تمامًا، محذرًا إياها من التهاون في تناوله، لأن ذلك قد يسبب مشاكل صحية تصل إلى الفشل الكلوي ومن ثم الوفاة.
التزمت رنا بتوصيات طبيبها لثلاثة أعوام، وفور اندلاع الحرب كان من أول ما فكرت فيه تخزين دواءها، فاشترت كمية تكفيها ثلاثة أشهر. تقول: "في الشهر الأول كنت أجد الكولشيسين بصعوبة في الصيدليات، وفي نهاية الشهر الثاني اضطررت للبدء في استهلاك المخزون، وخفّضت الجرعة لأزيد مدة الدواء، وحين انتهى لم أعثر عليه في الصيدليات، فعادت نوبات الألم تهاجمني".
وتضيف: "حين توفّر مجددًا كان من إنتاج مصنع آخر، فلم أتأقلم معه، زاد آلامي بدل تخفيفها فامتنعت عن تناوله، ثم عثرت على المنتج الذي اعتدت عليه مطلع العام الحالي، لكن ثمنه كان مرتفعًا، فتكلفة الجرعة اليومية دولارين تقريبًا، ومؤخرًا زادت أكثر، وهذا يفوق قدرتي المادية، فأن أوفر الطعام لأطفالي أهم من علاجي".
لم تتناول رنا الدواء منذ سنة ونصف تقريبًا، فواجهت آلامًا شديدة، خاصة أن مرضها يتأثر بمقدار التعب النفسي والجسدي، وهما كبيران في ظروف الحرب. زادت مخاوفها بسبب تلوث المياه وطبيعة التغذية، واعتمادها على المعلبات، فهذه من مسببات الضرر للكلى.
ألم يُذهب العقل
كسابقتها، قضت سناء غالي سنوات في التنقل بين الأطباء بحثًا عن سبب آلامها الشديدة، لكن التشخيص كان مختلفًا، إنه "فايبرومايلجيا" الذي لا شفاء منه.
"فايبرومايلجيا" أو متلازمة الألم العضلي الليفي، مرض لم يجد الطب تفسيرًا مؤكّدًا له بعد، يعاني المصابون به من آلام شديدة ومستمرة مع عشرات الأعراض الأخرى مثل الأرق والصداع. رغم صعوبة الألم، إلا أنه لا يؤدي لمشاكل عضوية، ويحتاج المصابون به لمسكنات ألم قوية، وأحيانًا يتناولون أدوية مهدئة ومضادة للاكتئاب.
نصح الطبيب سناء بالالتزام بدواء مضاد للاكتئاب، لكنها ترددت كثيرًا لما سمعته عن تجارب الآخرين، إذ تؤدي هذه الأدوية لخمول ونعاس ودوار وأعراض أخرى صعبة، ولا تتناسب مع شخصيتها ولا مع مسؤولياتها، فهي موظفة وأم لأربعة أطفال.
تقول: "اعتمدت على مسكنات الألم، حتى أجبرني المرض على الاستقالة، ولعدم ارتباطي بوظيفة تشجعت على خوض التجربة، وبدأت بتناول الأدوية، فتحققت مخاوفي إذ انعدمت طاقتي تمامًا وسيطر علي النعاس، فاستعنت بسيدة تساعدني في أعمال المنزل لأتمكن من الاستمرار في التجربة".
وتضيف: "بعد شهرين، اندلعت الحرب، ونزحت من بيتي في أيامها الأولى، وصار لزامًا عليّ أن أستعيد طاقتي لأعيل أسرتي وأشارك في أعمال المنزل الذي نزحت إليه، فكان لا بد من التوقف".
تتابع: "ساعدني على اتخاذ القرار خوفي من عدم قدرتي على توفير الدواء، ومعلوم أن الأدوية النفسية يجب أن يتم إيقافها تدريجيًا لتلافي أعراضها الانسحابية".
لم تتمكن سناء من إكمال تجربة الدواء، وعادت للاكتفاء بالمسكنات مجددًا، لكن الحصول عليها لم يعد سهلاً، وإن توفر فسعره مرتفع للغاية.
المشكلة لا تقف عند انقطاع الدواء وقلّة المسكنات، فحياة الغزي حاليًا فيها من الصعوبة ما يسبب أمراضًا جديدة للأصحاء، فكيف بمن يعاني أساسًا.
توضح: "في السنة الأولى من الحرب، نزحت في بيوت بعض الأقارب، تحملت فيها أعباء كبيرة تفوق مسؤولية أسرتي، فالنازح يفعل الكثير ليخفف ثقله على أصحاب البيت، مثل الطهي والتنظيف".
وتبين: "حاليًا، أسكن في خيمة، حيث كل شيء متعب، ومن أبسط أمثلة التعب أن يكون النوم والجلوس على فراش أرضي".
بين النزوحين عادت سناء لبيتها، لكنها لم تجد فرصة للراحة لصعوبة الحياة حاليًا، ومن ذلك أنها تطهو على الحطب، وتحمل المياه، وتقطع مسافات طويلة مشيًا كلما خرجت من بيتها لأي مكان.
تقول عن وضعها الصحي حاليًا: "نمط الحياة الحالي لا يناسب مريض فايبرومايلجيا أبداً، فتزيد الأوجاع وتتدهور الحالة النفسية"، مضيفة: "عدم تأثير المرض على الأعضاء لا يعني عدم تراجع صحة المريض، فالألم يصل مستويات أشعر معها أنني سأفقد عقلي، ويمنعني من النوم ليالي طويلة، ما يجعلني أخشى على نفسي من الأمراض العصبية والنفسية".
مُسببات التدهور
يقول طبيب الأمراض الباطنية محمد عبد المنعم، إن الحرب تتسبب في تدهور الحالة الصحية للمرضى لأسباب مختلفة أفرزتها الظروف الصعبة، من أهمها تدمير البنية التحتية للمستشفيات والمرافق الصحية، وإخراج نسبة كبيرة منها من الخدمة، وتعطل الخدمات الجراحية والطبية، وتوقف غرف العمليات، ونقص الكوادر، وصعوبة إجراء الجراحات الطارئة أو المتابعة بعد العمليات.
ويضيف أن النقص الحاد في الأدوية له دور في هذا التدهور، وكذلك انقطاع الإمدادات الطبية بسبب الحصار وإغلاق المعابر، مثل الأدوات الطبية وتجهيزات المستشفيات من غرف عمليات وأجهزة تصوير وأدوات التعقيم وأجهزة المختبرات بكل أنواعها، وغيرها من الأجهزة الرئيسية للمستشفيات التي دمّر الاحتلال معظمها. ويتابع: "أدى النقص الحاد في الأدوية إلى زيادة الوفيات بين المرضى، وخاصة المصابين بأمراض مزمنة".
ويشير إلى أن صعوبة الحياة في القطاع حاليًا تساهم في تراجع صحة المرضى، ومن ذلك سوء التغذية، ونقص مياه الشرب النقية، وتلوث الهواء، والازدحام بين النازحين، مما يزيد العدوى التنفسية والجلدية بصورة كبيرة، إلى جانب الضغط النفسي الشديد والأرق.
ولجرحى الحرب نصيب من هذه المعاناة، أيا كان نوع الإصابة، بتر أو جروح أو حروق أو غير ذلك، إذ يقول عبد المنعم إن الألم المزمن بعد البتر شائع جدًا، وغياب الأدوية المسكنة والأطراف الصناعية يؤدي إلى تدهور نفسي ووظيفي، عدا عن خطر العدوى وتعفن الجرح بسبب نقص النظافة والمضادات الحيوية.
بعض الأمراض تتوقف آثارها عند الآلام الشديدة دون ضرر جسدي، يحتاج المصابون بها أدوية مسكنة للألم وأحيانًا مهدئات ومضادات للاكتئاب، لكن في الحرب يتغير كل شيء، فغياب المسكنات والمهدئات يعني استمرار الألم وزيادته، ما يؤثر على الوضع الصحي للمريض، بحسب عبد المنعم.
ويبين أن "استمرار الألم دون تناول مسكنات يؤدي إلى تفاقم الألم والإجهاد العصبي، وزيادة فرط الحس العصبي المركزي، أي زيادة نشاط مراكز الألم في الدماغ والنخاع، واضطراب النوم المزمن والاكتئاب، مما يخلق دائرة مفرغة من الألم والتوتر، وتزيد الأعراض بشدة خاصة مع البرد والخوف والجوع وقلة النوم، ما يجعل المريض غير قادر على القيام بأنشطته اليومية، وقد يتطور الوضع إلى اكتئاب حاد أو انهيار نفسي دون ضرر عضوي واضح".
ومن المعلوم أن للجانب النفسي تأثير كبير على المشاكل الجسدية، وللحرب تبعات نفسية صعبة، وعن هذا الأمر يقول عبد المنعم إن التوتر المستمر يرفع هرمونات الكورتيزول والأدرينالين، مما يزيد الألم ويقلل تحمل الجسم، ويدخل المرضى فيما يُعرف بـ"حالة استنفار دائم" تسبب ضعفًا في الجهاز العصبي على المدى الطويل.
ويوضح أن الأكثر تأثرًا بهذا الواقع الصحي هم كبار السن، والأطفال، والحوامل، ومرضى الأمراض المزمنة والألم المزمن، مبينًا أن التدهور عندهم يكون غالبًا وظيفيًا أو نفسيًا أو التهابيًا أكثر منه عضويًا مباشرًا، لكنه يؤدي في النهاية إلى إعاقة أو عجز صحي جزئي أو دائم إن لم تتوفر الرعاية المناسبة.