ما زالت عائلاتٌ كثيرة من غزة عالقة في جنوب القطاع، رغم اقتراب وقف إطلاق النار من إتمام أسبوعه الثاني. فمن جهة، أرهقها النزوح المتكرر نفسيًا وجسديًا، ومن جهة أخرى لم يعد لدى كثيرٍ منها ما يكفي من المال لدفع أجور الشاحنات، ولا ممتلكات تبيعها لتأمين ثمن "النقلة" من الجنوب إلى الشمال، التي يبدأ سعرها من ألف دولار.
يبلغ ثمن نقلة واحدة من الجنوب إلى الشمال ألف دولار على الأقل، وبعض العائلات دفعت هذا المبلغ قبل أيام أو أسابيع فقط، عندما نزحت من الشمال إلى الجنوب هربًا من عملية احتلال غزة
يقول عادل خليفة إنه هرب من غزة خوفًا على أطفاله عندما وصلت شظايا صواريخ الاحتلال إلى خيمة العائلة ومزقتها. يتساءل: "فماذا ستفعل قطعة قماش في وجه قطع حديدٍ ساخنة؟". ويشير إلى أنه دفع ألف دولار لنقل ما تبقّى من أمتعة العائلة إلى الجنوب، "بعد عناء طويل وحجز استمر عدة أيام، حتى وصل دوري في طابور الانتظار الطويل"، وفق قوله.
يوضح خليفة أنه في ليلة إعلان وقف إطلاق النار قرر مع زوجته جمع أغراضهما والعودة إلى المدينة، لكنها رفضت بحجة أنها تعيش هنا في خيمة، وستعود هناك إلى خيمة أيضًا، بعدما دمر جيش الاحتلال منزلهما في حي الزيتون. كما أنها لم تسترح بعد من ترتيب الحاجيات في المكان المخصص لها، وهو أمرٌ استغرق أسبوعين كاملين.
يضيف خليفة: "لا أحد يرغب في البقاء خارج بيته ومدينته، لكننا في غزة نعيش كمقامرين، نتابع أخبار وقف إطلاق النار ونرى العراقيل التي تظهر خلال تنفيذه. فهل سنعود إلى المدينة بذات التكلفة؟ وإن انهار الاتفاق فجأة، فمن أين لنا تكلفة النزوح إلى الجنوب مرة أخرى؟". ويشير إلى أنه باع كل ما استطاع إنقاذه من أثاث المنزل قبل نسفه، حتى لم يعد يملك ما يبيعه، ولا يملك اليوم سوى قوت أطفاله.
وجاء اتفاق وقف إطلاق النار بينما كان جيش الاحتلال قد بدأ توغله في بعض أحياء مدينة غزة ضمن خطته المعلنة لاحتلالها. وفي لحظة إعلان الاتفاق، كان أكثر من نصف مليون شخص قد نزحوا من المدينة حديثًا، ولم يكونوا قد استقروا بعد في أماكن نزوحهم.
واحد من هؤلاء، محمد كحيل، الذي لم يكن ينوي الرحيل جنوبًا بالمطلق، لكنه في إحدى ليالي أيلول/سبتمبر الأخير، استفاق على صوت جرافة تجر شيئًا ما. وعندما اقتربت الجرافة، تبيّن له أنها تجر "روبوتًا مفخخًا"، فما كان منه سوى أن أخرج عائلته من المخرج الخلفي للعمارة وركضوا في عتمة الليل. وفي اليوم التالي، عندما تفقد المنزل، وجده قد انفجر، فاستأجر شاحنة وفرّغ جميع محتوياته.
كانت تكلفة النقل، بعد أن أُغلق الطريق وأصبح في اتجاه واحد فقط من الشمال إلى الجنوب، ثلاثة آلاف دولار، دفعها كحيل لمالك الشاحنة حتى يقله مع عائلته إلى الجنوب، قبل أن يُفاجأ بعد أيام بخطة ترامب لوقف إطلاق النار. يتساءل: "أين كان ذلك المقترح قبل الجحيم الذي فُتح على المدينة من قتل وتشريد ونزوح؟".
وما إن أعاد الاحتلال فتح طريق العودة إلى غزة وبدأ "موسم العودة إلى الشمال"، هرول كحيل إلى حي التفاح لتفقد منزله، فوجده أنقاضًا لا تصلح حتى للترميم، بينما فصل الشتاء على الأبواب. يقول: "لم يعد البيت صالحًا للسكن، وحتى لو أردت العودة، من أين آتي بتكاليف الرحلة، بعدما لم يبق لدينا شيء يمكن بيعه؟".
يوضح كحيل أنه عمل طوال الحرب في أشغال مختلفة، وباع من أثاث منزله ليتمكن من دفع أجرة الشاحنة التي نقلته إلى الجنوب، واليوم بالكاد يستطيع تدبير طعام أطفاله، الذي ما يزال ثمنه مرتفعًا. "فرغم الهدنة المزعومة، لا لحوم ولا خضار بما يتناسب مع الحاجة، ومبلغ النقل إلى الشمال سيزيد الطين بلة. لذلك لا حل سوى أن أسكن أنا في منزلي، وأترك عائلتي في الخيمة حتى أتدبر الأمر"، يضيف.
أما غادة الشوا فمعاناتها أشد. فهي أرملة تكفّل والدها بجميع ما يلزم لنقلها وأطفالها من حي الصحابة وسط مدينة غزة إلى مدينة حمد في خان يونس جنوبًا. وعلى الرغم من أن منزلها ما يزال سليمًا و"شامخًا"، كما تقول، إلا أنها لا تستطيع أن تطلب من والدها تحمّل التكلفة مرة أخرى في الشهر ذاته، وستنتظر حتى يتمكن والدها أو أحد إخوتها من تدبر المبلغ والعودة إلى بيتها.
تقول غادة: "لدي بعض المصاغ لم أبعها بعد، وأفكر في بيعها للعودة إلى بيتي، خاصة أن البرد قارسٌ يلسع أجسادنا في الخيام، وأخشى على أطفالي من المرض". وتضيف أنها لم تدرك كم هي عزيزة مدينتها على قلبها، وكذلك بيتها، إلا بعد أن أُبعِدت عنهما قسرًا، معربة عن أملها بألا تضطر إلى تكرار التجربة القاسية مرة أخرى.
ويُعزى ارتفاع أسعار النقل إلى أزمة المواصلات التي تتفاقم مع استمرار حرب الإبادة. وهي أزمة يرجعها المختصون إلى منع إدخال الوقود، وتدمير الاحتلال للمركبات المدنية، الخاصة والحكومية على حد سواء، فضلًا عن الدمار الذي طال نحو 90% من الطرقات والبنية التحتية.