بين الحقائب المغلقة والأمل المعلّق، يعيش آلاف المغتربين الفلسطينيين من أبناء غزة أيامهم على نبض الانتظار. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة التي مزّقت قطاع غزة ودفعت بآلاف العائلات إلى النزوح أو المغادرة، وجد كثير من أبناء القطاع أنفسهم يقيمون اليوم في أصقاع شتّى، يتابعون الأخبار بقلوب معلّقة بالوطن. واليوم، بعد إعلان وقف إطلاق النار وتزايد الحديث عن قرب فتح معبر رفح البري، تجدد الأمل في عيونهم بالعودة إلى حضن الوطن وأرضهم التي لم تغادر ذاكرتهم يومًا بعد سنواتٍ من البُعد والحنين.
في زوايا المدن العربية والغربية، يتوزّع آلاف الفلسطينيين الذين اضطرّوا إلى مغادرة قطاع غزة مع اندلاع الحرب المدمّرة في تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، تلك الحرب التي قلبت موازين الحياة في القطاع رأسًا على عقب، ودفعت بعشرات الآلاف إلى النزوح داخل الوطن، وآخرين إلى الخروج خارجه بحثًا عن ملاذٍ آمن ولو مؤقت.
ودخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بين حماس وإسرائيل، برعاية أميركية مصرية قطرية، فجر الجمعة 10 تشرين الأول/أكتوبر 2025، وكان قد أُعلن فجر يوم الخميس 9 تشرين الأول/أكتوبر 2025 في مدينة شرم الشيخ المصرية عن التوصل إلى اتفاق بشأن المرحلة الأولى من خطة ترامب للسلام في قطاع غزة.
بين الحقائب المغلقة والأمل المعلّق، يعيش آلاف المغتربين الفلسطينيين من أبناء غزة أيامهم على نبض الانتظار
غربة لا تُطفئ الحنين
في شقة متواضعة في حي الزقازيق على أطراف القاهرة، تجلس عبير أبو يوسف (40 عامًا) أمام شاشة هاتفها الصغيرة تتابع الأخبار القادمة من غزة، حيث خرجت من القطاع في آذار/مارس 2024، بعد أن اشتدت وتيرة القصف على مدينة رفح التي كانت قد نزحت إليها من خانيونس.
تقول عبير، وهي تسترجع تلك اللحظات العاصفة: "لم يكن أمامنا خيار، حين أعلن جيش الاحتلال نيّته اجتياح رفح، أدركنا أننا سنكون هدفًا مباشرًا، جمعنا ما استطعنا من أمتعةٍ قليلة وغادرنا على عَجَل، أنا وزوجي وأبناؤنا الثلاثة، فيما بقي ابني الأكبر، أحمد، هناك بعد أن رُفض اسمه على معبر رفح، لم أستطع أن ألتفت خلفي، لأن النظر إلى الوراء كان يعني الانهيار".
منذ ذلك اليوم، لم يهدأ قلب عبير، بقيت روحها معلّقة في القطاع، حيث تركت ابنها وذكرياتها وبيت الطفولة، فبدأت محاولاتٍ مضنية لإخراجه من براثن الحرب، وبعد نحو شهرٍ ونصف من المعاناة والاتصالات المتكررة، نجحت في لمّ شمل أسرتها أخيرًا، لكن الجرح ظلّ مفتوحًا، إذ لا يزال أهلها وأقاربها داخل غزة يعيشون تحت القصف والحصار.
تقول عبير بصوتٍ تغلبه الحسرة: "لم نخرج طوعًا، بل حملتنا الحرب على أجنحتها القاسية، غادرنا بأجسادنا، لكن أرواحنا بقيت هناك بين الركام".
وتتابع: "الغربة لم تكن خلاصًا، بل امتدادًا للألم. كل مساءٍ أفتح صور غزة وأقول لأمي عبر الشاشة: لا تبكي، سأعود عندما يفتح المعبر، فالوطن ليس مجرد مكانٍ نسكنه، بل المكان الذي يسكننا".
فرحٌ بنكهة الغياب
ولأن الحياة لا تتوقف رغم الجراح، حاولت عبير أن تُعيد نبض الفرح إلى بيتها، فقررت تزويج ابنتها الكبرى مرام بعد أن طال الانتظار وتأجّل العُرس مرارًا بسبب الحرب. لم يكن القرار سهلًا، فالفلسطينيون اعتادوا أن تكون الأفراح مهرجانًا للدفء العائلي، يتقاسمها الأهل والجيران.
لكن هناك، في إحدى الصالات البسيطة بالقاهرة، جرى العُرس على نحوٍ مختلف. زُيّنت الجدران، وتعالت ضحكاتٌ خجولة بين الحضور، بينما اختلطت دموع الفرح بالحسرة. غابت العمّات والخالات، وغاب الإخوة والأقارب الذين اعتادوا أن يُحيوا الفرح على أنغام "الدحية" وزغاريد الصبر.
بوابة الأمل
حال عبير يعكس واقع آلاف الفلسطينيين الذين يعيشون اليوم في المنافي المؤقتة، يتابعون أخبار بيوتهم المدمّرة، وينتظرون لحظة العودة إلى وطنٍ يعرفون أنّهم سيجدونه ركامًا، لكنه يظلّ وطنهم مهما تغيّر وجهه.
ومع تزايد الأحاديث مؤخرًا عن احتمال إعادة فتح معبر رفح البري بين مصر وقطاع غزة، تجدد الأمل لدى عبير وعائلتها، كما لدى آلاف العائلات الفلسطينية في الخارج، بأن تقترب لحظة العودة. عودةٌ يعرفون أنها لن تكون إلى بيوتٍ عامرة، بل إلى ركامٍ وذاكرةٍ وأرضٍ لم تغب عن قلوبهم يومًا. وفي ملامح عبير ودموعها تختصر الحكاية بأكملها: "لن نرتاح إلا على تراب غزة... حتى وإن عدنا إليها بين الركام".
رحلة محمد بين النار والمنفى
على بُعد آلاف الكيلومترات، في العاصمة الماليزية كوالالمبور، يعيش الشاب محمد نافذ فروانة (34 عامًا) تجربة مشابهة، لكن في سياق مختلف.
لم يكن محمد يتخيل أن طريقه إلى إتمام دراسة الدكتوراه في الإعلام، التي بدأها عام 2021، سيمرّ عبر حربٍ طاحنة ونزوحٍ قاسٍ وغربةٍ لا تنطفئ حرارتها، بعدما اضطر إلى مغادرة غزة برفقة زوجته وأطفاله الثلاثة بعد أن أصبح القصف يطال كلّ مكان، بما في ذلك مدينة رفح حيث نزحت أسرته فيها مؤقتًا.
العودة إلى الذاكرة قبل المكان
يقول محمد: "عشنا أيامًا لا تُنسى. كانت الصواريخ تملأ الليل، ورائحة الدخان لا تفارق المكان. ظننت في إحدى الليالي أننا لن ننجو حين سقط صاروخ على المنزل المجاور لمكان نزوحنا".
بعد تلك الليلة التي كادت تنهي حياة أسرته، قرر محمد مغادرة غزة في أواخر نيسان/أبريل 2024 بحثًا عن الأمان، عبر معبر رفح إلى مصر، حيث أقام مع عائلته شهرًا واحدًا في إحدى ضواحي القاهرة، يقضي أيامه بين متابعة أخبار مدينته المدمّرة والتفكير في مصير أقاربه الذين بقوا تحت القصف والحصار.
لاحقًا، سافر إلى ماليزيا ليستأنف دراسة الدكتوراه التي توقفت بسبب الحرب، ورغم استقراره في بلدٍ آمن، فإن الغربة — كما يقول — "ليست راحة، بل وجعٌ دائم، لأن جسدي هنا، لكن قلبي هناك. أبحث كل يوم في الأخبار عن صورة أو شارعٍ يذكّرني بمدينتي".
اتصال يومي من قلب النار
يواظب محمد على التواصل مع عائلته في غزة، يتصل بهم يوميًا مطمئنًا إلى أحوالهم، ويقول: "أكثر ما يؤلمني أن أراهم يعانون الجوع والدمار، ولا أملك سوى الدعاء". ويستعيد بمرارة إحدى الليالي حين انقطع الاتصال بوالدته أثناء قصفٍ عنيف مجاور لمنزلهم في خانيونس، وظلّ قلبه معلّقًا حتى سمع صوتها في اليوم التالي.
زوجته أيضًا تشاركه الشوق ذاته؛ تقضي ساعاتٍ طويلة على الهاتف مع ما تبقى من عائلتها في غزة، فيما يتابع أطفاله الثلاثة أخبار مدينتهم الصغيرة على الإنترنت، يسألون والدهم: "متى نرجع إلى بيتنا يا أبي؟"، فيجيبهم بصوتٍ متماسك يخفي وراءه وجعًا كبيرًا: "قريبًا يا أحبّائي، عندما تُفتح بوابة رفح". ويختم محمد حديثه قائلًا: "قد نعود إلى بيوتٍ مهدّمة، لكننا سنعود، لأن العودة ليست إلى الجدران، بل إلى الذاكرة والكرامة".
رحلة علمٍ على حافة الألم
في شقة متواضعة بمدينة نصر في القاهرة، يجلس نضال يونس بين كتبه وأوراق بحثه في العلوم الاجتماعية، يحاول أن يركّز في أطروحته للدكتوراه، لكن أخبار غزة تقتحم عليه سكونه كل يوم.
كانت الحرب آنذاك في ذروتها، والقصف ينهال على المدن بلا توقف، فيما تغصّ المستشفيات بالجرحى والضحايا. وبين الخوف والدمار، سنحت أمام نضال فرصة نادرة حين أُعلنت مبادرة خاصة لإتاحة سفر الطلبة الفلسطينيين إلى الخارج لاستكمال دراستهم، فتمكّن مع عددٍ من زملائه من مغادرة القطاع عبر معبر رفح، حاملاً معه حلمه العلمي وهمَّ الفراق في آنٍ واحد.
منذ أن غادر القطاع في شباط/فبراير 2024، لم يهدأ حنينه إلى عائلته التي تركها خلفه في خانيونس: زوجته وأبناؤه الثلاثة، محمد، ورُبى، ووهيثم، الذين حالت الحرب دون مرافقتهم له. يقول نضال: "خرجتُ من غزة بجسدي، لكن قلبي بقي هناك. كل ما أكتبه عن الصمود أراه في وجوه عائلتي التي تصمد تحت القصف".
في غزة، تحاول زوجته إيمان أن تحمي أبناءها وسط الخوف ونقص الطعام والماء، تتنقل بهم بين مراكز الإيواء، ورغم ضعف الاتصال بالإنترنت، إلا أن تلك الدقائق القليلة التي يجتمعون فيها عبر مكالمة فيديو تُعيد له شيئًا من الحياة. وتقول بصوتٍ تختلط فيه القوة بالحسرة: "الحرب جعلت أبنائي يكبرون أكثر مما ينبغي، لكننا نحاول أن نتمسّك بالأمل".
حين يلوح الأمل من بوابة رفح
يحاول نضال من القاهرة أن يخفي ضعفه خلف جدارٍ من الصبر والعلم، لكنه يعترف: "كل سطرٍ أكتبه في بحثي عن الصمود، هو رسالةٌ لعائلتي. العلم بالنسبة إليّ ليس ترفًا، بل وسيلةٌ للبقاء، سلاحٌ أقاوم به العجز".
ومع تواتر الأنباء عن قرب فتح معبر رفح البري، تتجدّد الآمال في قلبه بأن يلتئم شمل العائلة من جديد. يقول: "كلّ حلمي أن أحتضن أطفالي على شاطئ غزة، وأن أقول لهم: عدنا رغم كل شيء".
رسائل الخوف والرجاء
لم يكن الشاب أحمد صالح، ابن الخامسة والعشرين، يتخيّل يومًا أن يغادر غزة دون أن يحمل معه دفء بيت العائلة أو نظرة وداع مطمئنة من والدته. غادر مع بداية العدوان على غزة، يحمل حقيبة صغيرة، فيما ترك خلفه والده ووالدته، وشقيقتين، واثنين من أشقائه، وكل ما أحبّ من تفاصيل الحياة التي يعرفها.
منذ اللحظة الأولى لمغادرته، ظلّ قلبه معلقًا هناك، في الأزقّة التي لم تهدأ فيها أصوات القصف، وفي وجوه أحبّته التي تلوّنت بالخوف والرجاء. لم يمرّ يوم إلا وسعى إلى الاطمئنان عليهم، عبر اتصالات متقطعة ورسائل متوترة، يختصر فيها شوقه بعبارة واحدة: "هل أنتم بخير؟"
كان أحمد يعيش جسدًا في أمانٍ نسبي، لكن روحه بقيت أسيرة الدمار والحصار، وأكثر ما كان يؤلمه أنّه لا يملك ما يقدّمه سوى الدعاء، وهو يشاهد صور البيوت المهدّمة والوجوه المنهكة لأهله وأصدقائه.
زفافٌ ناقص الحضور... مكتمل الوجع
قبل الحرب، كان أحمد قد عقد قرانه، وكان يحلم بزفاف بسيط في غزة بين أهله وأحبّته، غير أنّ الحرب فرّقت الجميع، فاضطرت خطيبته إلى السفر مع عائلتها إلى مصر. مرت الأسابيع ثقيلة، ثم تحوّلت إلى شهور طويلة، انتظر خلالها أحمد أن تنتهي الحرب ليعود ويحتفل بزفافه كما حلم.
لكن الحرب طالت، والعودة باتت حلمًا مؤجلًا. أمام هذا الواقع المرّ، قرر أحمد أن يمضي في طريقه، وأن يُتم زفافه رغم كل ما يحيط به من غيابٍ ووجع. أقام حفلًا بسيطًا في القاهرة، بعيدًا عن والدته التي كانت تحلم أن تزفّه بيديها، وعن والده الذي لطالما تمنّى أن يراه عريسًا. كان المشهد مزيجًا من الفرح والحزن، تتداخل فيه دموع الشوق مع ابتسامات الأمل.
يقول أحمد بصوتٍ متهدّج: "كان يومًا سعيدًا في ظاهره، لكنه كان ناقصًا. كنتُ أبتسم للكاميرا، لكن قلبي هناك، في غزة، عند والدتي التي كانت تتابع الحفل عبر الهاتف".
اللحظة الوحيدة التي خفّفت عنه مرارة الفقد كانت حضور شقيقه الأكبر الذي يقيم هو الآخر في مصر. يضيف أحمد: "وجوده بجانبي جعلني أشعر أن جزءًا من عائلتي معي، كأنني استعدت بعضًا من الدفء الذي فقدته".
رغم ما عاشه أحمد من فراقٍ وغربةٍ ووجع، بقي مؤمنًا بأنّ للمحنة نهاية، وللعودة موعدًا مهما تأخّر. فقد دمّر الاحتلال منزله في خانيونس، لكنّه لم يستطع أن يدمّر إيمانه، إذ يقول بصوتٍ يملؤه الإصرار: "ربما لم نعد نستطيع أن نعيش كما كنا، لكن الأمل هو الشيء الوحيد الذي لم يُقصف بعد؛ سأعود إلى غزة ولو بلا بيت، فترابها يكفيني شاهدًا على صمودنا وذاكرتنا التي لا تُمحى".