عبثًا يحاول محمد الصفدي إغلاق عينيه بعد أن كان يرقد مقابل النافذة المفتوحة ليعد الصواريخ التي سقطت خلال الخمس دقائق الأخيرة، وعندما سيطر النوم على جفونه مغلقًا إياها، استفاق مفزوعًا على صوت تفجير روبوت، بحث عن بعض الماء ليشربه مكملًا قضاء ليله على هذا النحو، ما بين دقائق معدودة من النوم وصحو لساعات، إلى أن بزغ الفجر.
ويروي: "لا أمتلك تكاليف النزوح جنوبًا، لم أنزح في المرة الأولى، ولا أمتلك حتى خيمة، لذلك فضلت أنا وأسرتي المكوث في المنزل وانتظار المجهول بغزة، التي يبدأ ليلها بالأحزمة النارية، ومن ثم تتقدم قنابل الإنارة لتضيء السماء بالكامل، تتبعها قذائف الدبابة وضربات المدفعية، وينتهي الأمر بتفجير الروبوتات، حينها نشعر بالفعل أننا فقدنا السمع والإحساس بالتوازن".
إلى جانب الخوف من الروبوتات والأحزمة النارية، فإن مدينة غزة شهدت على مدار الأيام الماضية تقدمًا متكررًا من قبل آليات الاحتلال
يمسك الصفدي الجزء الأعلى من رأسه ليصف، مع كل ضربة يشعر هو وأطفاله أن أحدهم جاء بالسيف وشطر هذا الجزء من جسدهم، يستغرق الأمر عدة دقائق حتى يستوعبوا ما يحدث، وقد تطول تلك المدة حينما يرمي الاحتلال روائح سامة مخترقة الجهاز التنفسي للصغار والكبار.
تلتقط السيدة عدلية عطالله الحديث من سابقها لتفيد، قبل عدة أيام، استيقظت لأداء صلاة الفجر، لكن خلع قلبها صوت القذائف، بالبداية حدث صوت صفير حاد، ومن ثم سيطر على الجو وكأنها وحش، محدثة دوي انفجار يخترق الجسد، لافتة إلى أن الأمر استمر لنصف ساعة كاملة، حينها التصق جسدها بالأريكة وتكومت ابنتها وأحفادها فوقها مرددين الشهادتين.
تردف السيدة السبعينية، أنه في بداية العدوان كانوا يقولون لنا إن القذيفة ربما تخرق حائطًا أو تفتعل حريقًا، بينما اليوم القذيفة كالصاروخ تفتت أجساد من بالمكان، مشيرة إلى أنها في اليوم التالي استيقظت وهي مريضة.
تحدثت عطالله، قائلة: "تأخذ قوات الاحتلال رفح وأكثر من نصف خانيونس، ماذا تبقى لنا لننزح إليه؟ كما أنها تكدس الخيام على المعبر وتمنع دخولها، وتترك نحو مليون ونصف إنسان كعلب السردين في مخيمات الوسط بدون أدنى خدمات"، متسائلة، "من أين لي بألف دولار ثمن خيمة، وألف مثلها لنقل الأمتعة، وألف أخرى لبناء الحمام ودفع إيجار الأرض؟ أليس الموت أرحم من هذا العذاب؟".
بدورها، لا تنكر رنا المصري أن الوضع في مدينة غزة بات لا يحتمل، فكل يوم يهتز المنزل بشكلٍ متكرر نتيجة الانفجارات المتتالية، وصرخات الأطفال تعلو شيئًا فشيئًا، ويخيم السواد على المدينة وعلى القلوب التي باتت ترى النازح صندوقًا متحركًا من المال، فلا رحمة ولا تعاطف مع أم لثلاثة أطفال فقدت زوجها في بداية العدوان ولا معيل لها.
تداعب رنا أطفالها حينما يبدأ تفجير الروبوتات، قائلة: "هيا بنا نلعب لعبة، حينما يشتد القصف سنركض إلى تلك الزاوية التي تطوقها الجدران، من ثم سنجلس خلف الطاولة الخشبية التي كنا نضعها في غرفة المعيشة، نغطي أنفسنا بالغطاء، وحينها سنكون بأمان ولن يحدث لنا شيء"، مكملة أن تلك الخطة نالت إعجاب الصغار وتوقفوا عن البكاء بالفعل.
بالأمس، أتى ساعي من أقصى الحي الذي تنزح به رنا، حي الصبرة، وأخبرها أن الاحتلال الإسرائيلي زرع في أطراف الحي روبوتًا متفجرًا، وعليها الاحتماء جيدًا هي وأطفالها وإلا ستموت بإحدى الشظايا، محاولة استيعاب الموقف، لكنها أدركت أنهم يبعدون عنها عدة كيلومترات، لذلك حصنت نفسها وعاشت هي وأطفالها على مدار الليلة أهوال "يوم القيامة"، على حد وصفها، وعندما سألناها هل ستنزح، أجابت: لا مكان فارغ بالجنوب.
القصص في المدينة لا تنتهي، فيخبرنا عمر سكيك: "إلى جانب الخوف من الروبوتات والأحزمة، أصبح هناك خوف آخر، فقبل عدة أيام كان بمنزله في حي الرمال وفجأة سمع صراخًا عارمًا، الكل يبكي ويركض، وعندما سأل ما الأمر أخبروه أن الدبابة في الشارع الخلفي للمنزل وهي تتقدم باتجاهه، لم يصدق، نزل ليتأكد فصوبت نحوه عدة طلقات جعلته يفر راكضًا بنفسه وأطفاله فقط".
يتساءل سكيك: "ما هذا التغير المفاجئ؟ بالسابق كانت تقدم قوات الاحتلال بالمدينة يلزم يومًا من التحضير، مع ضرب عدة أحزمة نارية، في ذلك الحين نجهز حقائب الطوارئ ونستعد لترك المكان، لكن اليوم كل شيء تغير، يبدو أن المدينة أصبحت ساحة مفتوحة لهم بالفعل، وينوون بشكل قطعي القضاء على كل مدني يعتزم البقاء".