لم يعد النزوح مجرد رحلة هروب من القصف والموت، بل أصبح حياة كاملة تُخاض، كمعركة بقاء، يومًا بيوم وسط الخيام المتناثرة في مواصي خان يونس ورفح ومخيمات وسط القطاع. هنا، يعيش مئات الآلاف من المواطنين مأساة متواصلة: عطش ينهك الأجساد، جوع يحاصر المعدة، ومرض يتفشى بلا علاج.
سيدة نازحة: "أطفالي يتناوبون على المرض. أقضي الليل متنقلة بين هذا وذاك، بلا نوم ولا راحة، حتى المسكنات لم تعد موجودة، وأحيانًا أضطر لمشاركة جارة لي حبة دواء واحدة بين طفلين"
يعاني سكان غزة عمومًا من أزمات إنسانية عديدة، من بينه نقص حاد في المياه جراء قطع الاحتلال الإسرائيلي إمدادات الماء والوقود، واستهداف مرافق المياه والآبار في العديد من المناطق، ضمن حربه المدمّرة التي انطلقت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. أمام هذا الواقع، لا سيما بعد موجة النزوح الأخيرة إلى مواصي خان يونس، أصبح النازحون يعتمدون على صهاريج قليلة تأتي على فترات متباعدة، أو يلجؤون لآبار سطحية مالحة لا تصلح للشرب.
طابور المياه: ساعات انتظارٍ بلا ارتواء
أمام محطة تحلية صغيرة تقع بالقرب من جامعة الأقصى غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، يقف أحمد أبو عامر يوميًا تحت الشمس الحارقة قرب محطة تحلية خان يونس، في طابور طويل بحثًا عن القليل من الماء العذب.
يقول أحمد، وهو يمسح العرق عن وجهه المتعب، لـ"الترا فلسطين": "أقف ساعات طويلة، لكن في أغلب الأحيان لا أحصل على شيء. نعود أحيانًا خاليي الوفاض، فنضطر لإعطاء الأطفال ماءً مالحًا لا يصلح للشرب في أحيان كثيرة".
منذ أن نزح أحمد من شمال القطاع في أيلول/ سبتمبر الماضي، يعيش داخل خيمة متواضعة في أحد المخيمات بمنطقة المواصي غرب خان يونس، ضمن آلاف النازحين الذين يتقاسمون المعاناة ذاتها. يقطع يوميًا أكثر من كيلومترٍ واحدٍ مشيًا على الأقدام للوصول إلى أقرب مصدر للمياه، في ظل غياب سيارات التوزيع المجانية والتجارية التي كانت تصل إلى مخيمهم في السابق.
"كنا نحصل سابقًا على شاحنات مياه مجانية ثلاث مرات أسبوعيًا، فننظم استهلاكنا على مواعيدها، لكن مع موجة النزوح الأخيرة وتكدّس الناس في منطقة المواصي الضيقة، بات قدومها نادرًا ولا موعد له"، يقول أحمد بأسى، مضيفًا: "نحن عائلة من 15 فردًا، والاحتياج يتضاعف يومًا بعد يوم".
عبء إضافي
يكمل والتعب أنهك ملامحه: "تمرّ علينا ساعات طويلة دون أن نجد قطرة ماء واحدة". ارتفع سعر غالون المياه العذبة (سعة 18 لترًا) إلى 3 شواكل بعد أن كان لا يتجاوز شيكلًا واحدًا، أي ما يعادل تقريبًا 0.8 دولار أميركي، في وقتٍ باتت فيه فرص الحصول على المياه المجانية محدودة للغاية.
أما المياه المالحة التي تُستخدم للنظافة الشخصية والمنزلية، فقد أصبحت عبئًا إضافيًا بعد تعطّل البئر المجاني الذي كان يعتمد عليه سكان المخيم، فيضطر أحمد الآن إلى شراء "كوب ونصف" من المياه المالحة بتكلفة 150 شيكلًا أسبوعيًا (نحو 40 دولارًا)، أو اللجوء إلى مياه البحر التي تبعد مسافة تتراوح بين 600 و800 متر، ينقلها باستخدام عربة يدوية بدائية لغسل الأواني والملابس.
ويضيف: "لكن هذه المياه تتسبب بالأمراض الجلدية وتُتلف الملابس… ومع ذلك، لا خيار آخر أمامنا".
الازدحام داخل الخيام، وغياب المياه النظيفة والمراكز الصحية الكافية، ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، جعل الأمراض الجلدية والتنفسية تتفشى بسرعة بين النازحين، بينما المستشفيات المتهالكة غير قادرة على استيعاب أعداد المرضى.
بيئة خصبة للأوبئة
في خيمة مهترئة ليست بعيدة عن خيمة أحمد، تحتضن سعاد منصور طفلها "فادي" الذي لم يتجاوز عامه الثاني، جسده النحيل يرتجف من الحمى، ووجهه الشاحب يفضح صراعًا مريرًا يخوضه مع المرض.
نازح مسن: "أحيانًا أشعر أن المرض يغلبني قبل أن أتمكن من الوصول لأي علاج".
تقول الأم بصوت مبحوح لـ"الترا فلسطين"، وهي تحاول تهدئة صغيرها: "جسده بات ضعيفًا وكأنه لم يتجاوز بضعة أشهر. منذ ثلاثة أيام لم يدخل إلى فمه سوى قطرات قليلة من الماء، وكلما شرب يتقيأ. في الليل أضعه على صدري وأبكي معه، أخشى أن يرحل بين يديّ وأنا عاجزة عن إنقاذه".
فادي ليس حالة فردية؛ بل صورة متكررة لعشرات الأطفال داخل مخيمات النزوح في خان يونس، في كل خيمة تقريبًا هناك طفل يصارع الإسهال أو التهابات الجلد أو الحمى الناتجة عن العدوى السريعة الانتقال بين الأجساد الصغيرة.
تضيف سعاد وهي تذرف دموعها: "أطفالي يتناوبون على المرض. أقضي الليل متنقلة بين هذا وذاك، بلا نوم ولا راحة، حتى المسكنات لم تعد موجودة، وأحيانًا أضطر لمشاركة جارة لي حبة دواء واحدة بين طفلين".
وتتابع: "أحيانًا نغلي الماء قبل أن نعطيه للأطفال، لكن ذلك لا يكفي. أحد أبنائي أصيب بطفح جلدي شديد، والطبيب قال إنه بسبب المياه الملوثة".
لم تستطع العائلة نقل فادي إلى مستشفى بعيد بسبب نقص المواصلات وارتفاع تكاليفها، فاكتفت بزيارة خيمة صغيرة تحولت إلى عيادة مؤقتة يشرف عليها طبيب متطوع.
مرضى بلا دواء
في الطرف الآخر من مخيمات النزوح، وتحديدًا شمال غرب مدينة خان يونس، يجلس الحاج جمعة عليان، رجل في السبعين من عمره أنهكه المرض والنزوح معًا. يضع يده على صدره وهو يئنّ من ضيق التنفس، ومنذ نزوحه مع عائلته من شمال القطاع لم يعد قادرًا على متابعة علاج مرض القلب الذي يعانيه منذ سنوات.
يروي الحاج عليان: "أحتاج يوميًا لأدوية القلب وضغط الدم، لكن المراكز الصحية في المنطقة مزدحمة، وغالبًا لا تتوفر الأدوية. أشعر أن المرض يزداد سوءًا كل يوم، وكل نزعة ألم تجعلني أخاف على حياتي".
ويضيف لـ"الترا فلسطين": "الألم، قلة النوم، وعدم القدرة على متابعة الدواء يجعل جسدي ينهار أسرع. أحيانًا أشعر أن المرض يغلبني قبل أن أتمكن من الوصول لأي علاج".
الحصار سلاح للقتل البطيء
داخل خيام صغيرة تحوّلت إلى مستشفى ميداني في مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، جلست السيدة نجلاء حماد إلى جوار طفلتها "ميرا"، ذات العام والنصف، ولم يتجاوز وزنها خمسة كيلوغرامات، تتنفس بصعوبة خلف أنبوب أكسجين، بعدما بدأ الجوع والمرض يفتك بجسدها جراء الحصار الإسرائيلي، متشبثةً بأملٍ ضئيل بأن تتحسن حالتها الصحية.
تضرّرت أكثر من 90% من شبكة المياه النظامية، ما يجعل إعادة ضخ المياه إلى الأحياء السكنية مستحيلًا حتى في حال توافر الوقود أو حدوث هدنة مؤقتة.
وجه الطفلة الشاحب، وجسدها الضامر، وصدرها الذي يعلو ويهبط بأنفاسٍ متقطعة، جميعها مشاهد تلخص مأساة آلاف الأطفال في غزة الذين يعانون سوء التغذية والأمراض المزمنة في ظل حصار خانق يمنع الغذاء والدواء.
تقول نجلاء بصوتٍ متعب لـ"الترا فلسطين": "وُلدت ميرا خلال الحرب، ومنذ ذلك اليوم وهي تعاني، سوء التغذية ومشكلات في الجهاز التنفسي أنهكتها، وتحتاج إلى مسكّنات وعلاجات أساسية غير متاحة في المستشفيات بسبب الحصار الإسرائيلي".
وتضيف الأم أن طفلتها بحاجة ماسّة إلى العلاج خارج القطاع: "حاولت مرارًا أن أُسجّلها للعلاج في الخارج، لكن الحصار يحول دون سفرها".
نجلاء، التي فقدت زوجها خلال الحرب، تتابع وهي تضم طفلتها إلى صدرها الهزيل: "كل يوم أموت معها، أنا المعيلة الوحيدة لها، وأتمنى أن أراها تلعب مثل باقي الأطفال. أحيانًا أحلم فقط برؤيتها تأكل وجبةً كاملة أو تتلقى دواءً بسيطًا".
ومنذ الثاني من آذار/ مارس الماضي، تغلق سلطات الاحتلال المعابر المؤدية إلى غزة، مانعةً أي مواد غذائية أو مساعدات إنسانية، مما أدخل القطاع في مجاعة رغم تكدس شاحنات الإغاثة على حدوده.
ووفق آخر إحصائية صادرة عن وزارة الصحة في قطاع غزة، ارتفع إجمالي عدد ضحايا سياسة التجويع الإسرائيلي الممنهج منذ بدء الحرب إلى 460 شهيدًا، من بينهم 154 طفلًا.
وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فإن أكثر من 5200 طفل بحاجة إلى إجلاء طبي عاجل لإنقاذ حياتهم.
الاحتلال يعمّق أزمة العطش
يؤكد مسؤول دائرة المياه في بلدية خان يونس، المهندس سلامة شراب، أنّ الاحتلال الإسرائيلي يساهم بصورة مباشرة في تعميق أزمة التعطيش التي يعانيها السكان، ولا سيما في منطقة المواصي التي تحتضن أكثر من 800 ألف نازح يعيشون أوضاعًا إنسانية غاية في القسوة، في ظل انعدام شبه تام للمياه الصالحة للشرب وتدهور الخدمات الأساسية.
ويقول شراب، لـ"الترا فلسطين"، إنّ "أكثر من 90% من آبار المياه في خان يونس خرجت عن الخدمة بفعل القصف أو التجريف الإسرائيلي المتعمّد، أو أنها تقع في مناطق تُصنَّف "حمراء" ويُمنع الوصول إليها من قبل الاحتلال، ما يُفاقم من حدّة الأزمة المائية التي تضرب المدينة ومخيمات النزوح المنتشرة في منطقة المواصي".
تدمير ممنهج
ويضيف: "لا تعمل في خان يونس سوى 4 آبار فقط من أصل 40، بقدرة إنتاجية لا تتجاوز ألف متر مكعب يوميًا في أفضل الظروف، وغالبًا ما تقلّ الكمية بسبب قصر ساعات التشغيل التي تتراوح بين أربع إلى ست ساعات يوميًا، نتيجة نقص الوقود وتهالك المولدات الكهربائية".
وأشار إلى أنّ تشغيل بئر واحد لعشر ساعات يوميًا يحتاج إلى ما بين 150 و180 لترًا من الوقود، وهي كميات يصعب تأمينها في ظل الحصار الخانق وشحّ الإمدادات.
ويبيّن أنّ البنية التحتية للمياه تعرّضت لدمار شبه كامل، إذ تضرّرت أكثر من 90% من شبكة المياه النظامية، بما في ذلك خطوط النقل الرئيسية الممتدة عبر شارعي جمال عبد الناصر وصلاح الدين ومناطق الكتيبة وقيزان أبو رشوان، ما يجعل إعادة ضخ المياه إلى الأحياء السكنية مستحيلًا حتى في حال توافر الوقود أو حدوث هدنة مؤقتة.
وأشار كذلك إلى أنّ جزءًا كبيرًا من الأزمة يعود إلى الاعتماد الكامل على مياه شركة "مكوروت" الإسرائيلية، التي تُغذّي بعض مناطق خان يونس بكمية محدودة لا تكفي إلا لتأمين احتياجات الشرب الأساسية، إلا أنّ هذه الخطوط تتعرّض لأعطال متكرّرة تمتد لأيام أو أسابيع، بسبب اشتراط موافقة الاحتلال على تنفيذ الإصلاحات، إضافة إلى منع إدخال قطع الغيار اللازمة لإعادة تشغيلها.
وفي ظل هذا الواقع، تلجأ البلدية إلى استخدام ما تبقّى من الشبكة الداخلية المتضرّرة، وإلى صهاريج نقل المياه كحلّ إسعافي، رغم محدودية فعاليتها وعجزها عن تلبية احتياجات مئات الآلاف من السكان.
ويلفت المسؤول إلى أنّ بلدية خان يونس تواجه صعوبات غير مسبوقة في صيانة المرافق الخدماتية بسبب نقص المواد الأساسية مثل المواسير والمحابس وقطع الغيار، ويضيف: "حتى في المناطق التي سُمح بالعودة إليها جزئيًا، مثل حي الأمل وبطن السمين، تعجز طواقم البلدية عن إصلاح الأضرار نتيجة غياب المعدات والمستلزمات، كما أن جميع الآليات الثقيلة المخصّصة لأعمال الصيانة قد دُمّرت خلال الأشهر الأولى من الحرب، ما اضطر البلدية إلى استئجار معدات بديلة بتكاليف باهظة تُرهق ميزانيتها المحدودة".
ويشدد على أنّ استمرار هذا الوضع يعني تفجّر كارثة إنسانية وبيئية في خان يونس، داعيًا إلى تدخّل عاجل من المؤسسات الدولية لتوفير الوقود والمعدات ومواد الصيانة، والسماح بإصلاح الشبكات والآبار المتضرّرة، قبل أن تتحوّل الأزمة إلى انقطاع شامل لمياه الشرب في جنوب قطاع غزة.