لم يكن الصمت يومًا خيارًا لأبناء غزة، لكنه فُرض عليهم قسرًا تحت وابل القنابل والانفجارات. ففي لحظة خاطفة يتحوّل الصوت من دويّ يصمّ الآذان إلى فراغٍ أبديّ يسكن أرواح الناجين؛ هناك حيث لا تلتقط العين سوى الركام. تخلّف الحرب جراحًا لا تُرى، فآلاف المحرومين من نعمة السمع أصبحوا أسرى عزلة قاسية لا يعرفون فيها ضحكة طفلٍ ولا نداء أمٍّ. هي مأساة إنسانية تتجاوز لغة الأرقام لتكشف عن جرح خفيّ ينهش تفاصيل الحياة اليومية في ظل نظام صحيّ مثقلٍ بالعجز.
في أحد زوايا الحياة المدمّرة في غزة، نابَ انفجارٌ عنيف حياة عائلةٍ بأكملها. بيتٌ كان عامرًا بالضحكات تحوّل في ثوانٍ إلى ركام، وأسرة متماسكة أصبحت جرحًا نازفًا. في تلك الليلة فقدت الأسرة معيلها وعددًا من أقربائها، فيما نجت الأم مع أطفالها الثلاثة، غير أن الطفلين مصطفى (8 أعوام) وأدهم (5 أعوام) خرجا من تحت الركام وقد صمتت أذناهما إلى الأبد.
يؤكد مختص السمعيات في قطاع غزة رمضان حسين أن قطاع غزة يشهد ارتفاعًا ملموسًا في أعداد المصابين بفقدان السمع، سواء بشكل مؤقت أو دائم، خصوصًا بين الأطفال وكبار السن
اليوم، في خيمة متواضعة في دير البلح وسط قطاع غزة، يجلس الصغيران محدّقان في شفتي والدتهما ياسمين أبو الحصين (28 عامًا)، يحاولان قراءة كلماتها ليفهما ما تقول. منذ استهداف المنزل الذي نزحت إليه العائلة من رفح انقلب عالم الطفلين إلى صمتٍ ثقيل؛ لم يعودا يسمعان صوت أمهما وهي تناديهما، ولا ضحكات شقيقهما الأكبر يحيى.
مصطفى وأدهم ليسا استثناءً؛ فالحرب خلّفت عشرات الأطفال والشباب وكبار السن في غزة محرومين من السمع نتيجة القصف المتواصل والانفجارات التي تمزّق البيوت والأحلام. حياة كاملة سقطت في عزلة لا تكسرها سوى لغة الإشارات ونظرات محمّلة بالدموع.
اكتشاف الصمت القاسي
في الثاني والعشرين من آذار/مارس الماضي، وعند الساعة الواحدة والنصف ليلًا، استهدفت طائرات الاحتلال منزل العائلة بصواريخ من طراز F16، فدمّرته بالكامل. استشهد والد الطفلين على الفور، فيما أصيبت الأم بجراح خطيرة. نُقل مصطفى إلى المستشفى الأمريكي في الزوايدة بجوار والدته في ذات الغرفة؛ كان أول ما اكتشفته أنه لم يعد يسمع صوتها، رغم جراحه البالغة التي استدعت تركيب صفائح معدنية (بلاتين) في قدميه وفقدانه النظر لأيام. أمّا أدهم الذي كان يمكث مع خاله في مستشفى يافا بدير البلح، فقد اكتشف هو الآخر أنه فقد السمع نهائيًا.
تتحدث الأم وعيناها مغرورقتان بالدموع لـ"الترا فلسطين": "بعد انتشالي من تحت الركام ظلّ صراخ مصطفى وأدهم يتردّد في أذني. حاولت التواصل معهما، لكنهما لم يكونا يستجيبان لصوتي ولا لنداء أطقم الإسعاف والدفاع المدني. كنت أصرخ بأسمائهما، لكنهما كانا ينظران إليّ بدهشة، كأنّ بيننا جدارًا من الصمت. ظننت الأمر صدمة عابرة، لكن الأيام أثبتت أن السمع قد خُطف منهما فعلًا".
رحلة علاج مسدودة الأفق
لم تقف مأساة العائلة عند استشهاد المعيل، بل بدأت رحلة علاج شبه مستحيلة في ظل عجز المراكز الطبية بغزة وتوقف معظمها عن العمل. تؤكد الأم أنها طرقت أبواب المستشفيات بلا جدوى؛ فالأجهزة معطلة والسماعات مفقودة، والحل الوحيد هو العلاج في الخارج، وهو ما تعجز الأسرة عن تحمّله.
وقد كشفت الفحوصات أن الطفلين يعانيان من تهتكٍ في العصب السمعي وفقدان شبه كلي للسمع، ومع مرور الوقت يزداد الخطر بسبب عدم تركيب السماعات، ما يهدد بفقدان السمع الكامل وفق تقدير الأطباء، بحسب الأم.
اليوم يقضي مصطفى وأدهم معظم وقتهما في عزلة؛ يتواصلان بلغة الإشارة البسيطة، ويحاولان فهم الآخرين من حركة الشفاه. أمّهما تخشى أن تسمح لهما بالخروج من الخيمة، فهي لا تستطيع منادتهما إذا حلّ الخطر. تقول بصوت مثقلٍ بالرجاء: "كانا مرحَين، صوتهما يملأ البيت… الآن أصبحا أسيري الصمت، ولم يعدا يسمعان أصوات ألعابهما ولا نداء شقيقهما يحيى. أحلم فقط أن أقول لهما 'أحبكما' فيسمعانني، لا أن يقرآها على شفتيّ".
فقد الصغيران السمع وفقدا مع والدهما الأمان، أما الأم فوجدت نفسها وحيدة في معركة لا تُحتمل: معركة إنقاذ طفولةٍ من الصمت والموت البطيء.

ضحكةٌ خَطَفها الانفجار
لم يكن عادل البردويل يتخيّل أن ضحكة طفله الصغير رحيم (5 أعوام) التي كانت تملأ منزلهم المتواضع في مخيم النصيرات ستخفت يومًا، وأن الحياة ستسرق منه أهم ما يربطه بالعالم من حوله: حاسة السمع. بيدَ أن انفجارًا عنيفًا بدد تلك الطمأنينة وترك وراءه جرحًا لا يُرى، حفر في أعماق الأسرة إلى الأبد.
يروي عادل بصوت مخنوق تفاصيل تلك اللحظة لـ"الترا فلسطين": "كان رحيم نائمًا في سريره حين دوّى انفجار هائل في المنزل الملاصق لنا. سقط على الأرض، لم يجرح ولم ينزف، وظننا أننا نجونا… لم نكن نعلم أن الصوت، ذلك الوحش الخفيّ، سرق سمعه وأضعف نطقه".
بعد أسبوعين فقط بدأت والدته تلاحظ التغيير: لم يعد رحيم يلتفت للأصوات، لم يبكِ عند صخب الانفجارات كما كان يفعل، صار يحدّق في حركة الشفاه ليُدرك المعنى. حينها بدأت رحلة العلاج بين المستشفيات والمراكز الطبية، لتُظهر الفحوصات أن الضغط الهائل الناتج عن الانفجار ألحق ضررًا دائمًا بالعصب السمعي.
على مدى أكثر من ستة أشهر خاض الصغير معركة صامتة انتهت بتركيب سماعات تساعده على التواصل مجددًا مع محيطه، لكن العناء لم يتوقف: البطاريات تنفد بسرعة، الأعطال تتكرر، والمتابعة الطبية أصبحت عبئًا دائمًا. إلى جانب ذلك ظلّ رحيم يعاني من ضعف النطق، يتردد بين الحين والآخر إلى مراكز العلاج محاولًا استعادة صوته المسلوب.
في منزلهم المتهالك جراء القصف يمشي رحيم اليوم بخطوات مترددة؛ يلتفت بعينيه أكثر مما يصغي بأذنيه. خمسة أعوام فقط من العمر، لكنها بدت أثقل مما يتحمل طفلٌ كان يملأ البيت ضحكًا ومرحًا، قبل أن تقذفه الحرب إلى عالمٍ صامت.
طفولة مثقلة بالرعب
يقول والده بأسى: "إصابة رحيم لم تكن في جسده فقط، بل في روحه. بات يضع يديه على أذنيه كلما سمع صوت الطائرات؛ يهرب، يبكي بحرقة، يدخل في نوبة رعب متكررة. الصدمة تسكنه ولا تفارقه".
في ظل هذا الواقع يعيش رحيم عزلة قاسية: لا يسمع أصوات ألعابه، ولا نداء والده حين يعود مثقلًا من رحلة البحث عن الطعام. حتى ضجيج الحرب الذي يملأ سماء غزة ليلًا ونهارًا صار بالنسبة له فراغًا صامتًا يزيد غربته داخل عالمٍ يُفترض أن يضجّ بالحياة. ويفتقر قطاع غزة في ظل الحصار وانهيار النظام الصحي إلى الإمكانيات اللازمة لعلاج هذه الحالات. عمليات زراعة القوقعة أو توفير سماعات طبية متطورة تكاد تكون معدومة، فيما يواجه الأطباء نقصًا حادًا في الأجهزة والإمكانات.
ارتفاع ملحوظ
يؤكد مختص السمعيات في قطاع غزة رمضان حسين أن قطاع غزة يشهد ارتفاعًا ملموسًا في أعداد المصابين بفقدان السمع، سواء بشكل مؤقت أو دائم، خصوصًا بين الأطفال وكبار السن. يوضح أن ما يقارب 60 ألف شخصًا من مجمل الإصابات البالغة 166 ألف إصابة جراء الحرب في قطاع غزة — أي نحو 33% — يعانون من مشاكل في السمع نتيجة الانفجارات المتكررة التي تهز القطاع يوميًا.
ويضيف الدكتور حسين لـ"الترا فلسطين" أن المراكز الطبية والعيادات والمستشفيات تسجّل توافدًا مضاعفًا لحالات فقدان السمع مقارنة بما قبل الحرب، مرجعًا السبب إلى شدة الانفجارات وقربها من المناطق السكنية، إضافة إلى الاستهداف المباشر الذي يخلّف إصابات خطيرة في العصب السمعي.
نقص في الكوادر والمعدات
يشير الأخصائي إلى أن قطاع غزة يفتقر بشدة إلى الكوادر والأجهزة الطبية المتخصصة، إذ تضررت معظم مراكز التأهيل؛ لم يبقَ سوى مركزين يعملان من أصل ستة. هذا النقص الحاد حرم آلاف المرضى، خصوصًا الأطفال، من فرص العلاج وإعادة التأهيل، بينما تفرض الحرب على الأسر أولويات أخرى كالنزوح وتأمين الغذاء على حساب الرعاية الصحية.
حلول شبه غائبة
يوضح حسين أن الانفجارات تُحدث نوعين من الإصابات السمعية: مباشرة، مثل تمزّق غشاء الطبلة أو تضرر العصب السمعي وقد تستدعي زراعة قوقعة؛ وغير مباشرة نتيجة التعرّض المتكرر للأصوات المرتفعة حيث يبقى السمع جزئيًا ويحتاج المريض إلى سماعات طبية. ويشير الأخصائي إلى محدودية الحلول في غزة؛ فعمليات زراعة القوقعة التي تُعد من أنجع الوسائل لعلاج حالات الفقدان الحاد غير متوفرة، رغم أن نحو 12 ألف شخص بحاجة إليها أو إلى تركيب سماعات، بينما المستفيدون لا يتجاوزون أعدادًا ضئيلة جدًا.
أرقام كبيرة
يؤكد مدير جمعية "أطفالنا للصم" وخبير المتابعة والتقييم فادي عابد أن الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة خلّفت آثارًا بالغة القسوة على فئة الصم، موضحًا أن نتائج التقييم الذي أُجري بين عام 2023 ومنتصف 2025 تشير إلى أن ما يقارب 35 ألف طفل وبالغ مهددون بفقدان السمع بشكل دائم أو مؤقت، حيث ارتفعت معدلات الإصابة إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب.
ويشدّد عابد لـ"الترا فلسطين" على أن الأطفال دون سن الخامسة هم الأكثر عرضة للخطر، إذ تُعدّ حاسة السمع في هذه المرحلة أساسًا لتطور النطق واكتساب اللغة، وأي خلل فيها قد يقود إلى إعاقة دائمة في التواصل والنمو اللغوي، فضلًا عن انعكاساتها السلبية على النمو النفسي والعقلي والاجتماعي.
من الأسباب التي فاقمت أوضاع فئة الصم في غزة، حسب عابد، تدمير البنية التحتية التأهيلية والعلاجية لهم التي باتت شبه متوقفة، وهو ما منع العديد من هذه الفئة من الوصول إلى مراكز العلاج والتأهيل وفقدان الأجهزة المساعدة مثل السماعات وأجهزة النطق، خاصة الذين نزحوا من منازلهم. إلى جانب غياب برامج الدعم النفسي المنظم، حيث يعاني أكثر من 89% من الأطفال من صدمات نفسية تتجلى في مظاهر كالبكاء الليلي والتبول اللا إرادي.
أضرار جسيمة ونقص حاد
ويشير عابد إلى أن جمعيته تكبّدت أضرارًا جسيمة أسوة بالعديد من مراكز التأهيل جراء عمليات القصف الإسرائيلي، ما أدى إلى توقف خدمات التعليم والتأهيل والنطق، ونتيجة لذلك تُرك آلاف الأطفال بلا دعم أساسي.
وكشف أن هناك نقصًا حادًا في الأجهزة المساعدة مثل السماعات الطبية والقواقع وقطع الغيار، وحتى البطاريات التي أصبحت نادرة وباهظة الثمن وغير متوفرة بسبب القيود الإسرائيلية التي تمنع دخولها، ما يضاعف من معاناة المصابين ويجعلهم أمام عزلة قسرية. كما يعجز المصابون عن الوصول إلى المراكز الصحية بسبب النزوح المتكرر.
رغم التحديات يؤكد عابد أن جمعيته تسعى ضمن إمكاناتها المحدودة لتخفيف معاناة المرضى، داعيًا إلى حملات ضغط لفتح المعابر وتمكين دخول الأجهزة الطبية، ومشدّدًا على ضرورة توفير السماعات بشكل عاجل، وإنشاء وحدات متنقلة لفحص سمع الأطفال حديثي الولادة في مناطق النزوح، إضافة إلى دعم مراكز التأهيل السمعي والنطقي لضمان الرعاية النفسية والتربوية.
تشير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان إلى أن 8% من الفلسطينيين فوق سن 18 في غزة يعانون إعاقات بفعل الحروب والحصار، فيما خلّف عام 2023 وحده أكثر من 12 ألف إصابة جديدة، بينها حالات صمم جزئي أو كلي. وتوضح الهيئة أن الصم في غزة يواجهون انقطاع الخدمات الطبية وغياب الدعم النفسي، إلى جانب خطورة فقدان حياتهم لعدم قدرتهم على سماع التحذيرات قبل القصف.
ويواجه آلاف الأطفال المصير ذاته الذي عرفه مصطفى وأدهم ورحيم؛ بعضهم فقد السمع كليًا، وآخرون ينتظرون أجهزة قد لا تصل أبدًا. ورغم ذلك تبقى ابتساماتهم الصامتة شاهدًا على صمود يصرّ على الأمل وسط الركام.