بيسان

سعال لا يتوقف: كيف تحولت الإنفلونزا إلى وباء صامت يفتك بالنازحين في غزة؟

المصدر تقارير
سعال لا يتوقف: كيف تحولت الإنفلونزا إلى وباء صامت يفتك بالنازحين في غزة؟
ميرفت عوف

ميرفت عوف

صحفية من فلسطين

على ناصية شارع "الزهارنة" الشهير وسط مدينة غزة، وقفت لينا شرف (23 عامًا) حاملةً رضيعها هيثم ذو الأشهر الستة، تحاول إيقاف سيارة أجرة كي تنقلها إلى مستشفى الرنتيسي التخصصي للأطفال. بعد مرور نصف ساعة دون جدوى، قررت هذه الأم المذعورة أن تهرع إلى المستشفى مشيًا على الأقدام، في محاولة مروعة لإنقاذ طفلها الذي تسببت حرارة الشمس في ارتفاع درجة حرارته إثر إصابته بفيروس تقول وزارة الصحة الفلسطينية في غزة إنه لا يمكن معرفة نوعه لكنها تشبه أعراضه أعراض فيروس كورونا (كوفيد-19).

وفيما تؤكد المصادر الطبية بغزة أن الإصابات تتضاعف بالمشاهدة اليومية إلى ثلاثة أضعاف، وخاصة بين الأطفال داخل المستشفيات والمراكز الطبية، يهاجم الفيروس الغامض أجسادًا منهكةً ومنظومةً صحيةً تحتضر، ففي الوقت الذي تكافح فيه المنظومة الصحية المنهارة في قطاع غزة للبقاء، ظهر عدو جديد لا يُرى بالعين المجردة، مهددًا بتحويل الأزمة الإنسانية إلى كارثة وبائية.

منذ أكثر من ثلاثة أسابيع بدأ فيروس تنفسي غامض يشبه في أعراضه الإنفلونزا بالانتشار بسرعة قياسية في غزة، مستهدفًا أجسادًا أضعفها الجوع والحرب

فيروس ينهك أجساد ضعيفة

عند وصول لينا شرف إلى المستشفى، اقتصر ما حصل عليه طفلها على "تبخيرة" بسيطة، وطُلِب من الأم خفض حرارة جسده بالماء نظرًا لعدم وجود متسع لإبقائه تحت الرقابة الطبية بسبب سوء الأوضاع. تروي لنا لينا ما حدث فتقول: "بدأت حرارة هيثم بالارتفاع قبل أسبوعين، ثم أصيب بإسهال ورشح مستمر، وتطور لاحقًا إلى سعال شديد. حاولت معه كل الوسائل المعتادة، وقدمت بصعوبة الأكامول السائل للأطفال، لكن الحرارة لم تنخفض، وكان ضيق أنفاسه يقترب من الاختناق".

بعد ثلاثة أيام من إصابة الرضيع، أصيبت الأم لينا بنفس الأعراض، وكذلك زوجها، لتصبح العائلة كلها تحت ضغط صحي مستمر. تقول لينا: "لأسبوعين كاملين ظلّت هذه الأعراض تحاصرنا، دون أي استجابة للعلاج. كانت أشبه بالإنفلونزا الحادة؛ كنا جميعًا متعبين، ضعفاء، وقليل من النوم يمنحنا أي راحة".

من جهة أخرى، تخوض دينا شيخة (28 عامًا) منذ ما يقارب الشهر رحلة بحث عن أدوية لعلاج تبعات الفيروس التي أصابتها وعائلتها الصغيرة. الآن ستذهب من بيتها الكائن في حي النصر إلى صيدلية في حي تل الهوى سمعت من الأقارب أنه يوجد فيها دواء للسعال الذي ينغص ليلها الطويل. 

تحكي لنا دينا عن رحلتها في البحث عن دواء في غزة والتي تبوء بالفشل أو بدواء منتهي الصلاحية، فتقول: "ذهبت إلى نقاط طبية مؤقتة، وكان الأمر ينتهي بالفحص فقط، فحتى الأكامول تفتقر إليها هذه النقاط". تصمت قليلًا ثم تواصل: "حرمنا حتى البصل والثوم الذي يزيد من المناعة، كل ما استطعت فعله شراء كمية قليلة من الزهورات لكن لا فائدة منها مع مناعة ضعيفة نعاني منها جميعًا". 

ثالث من تحدثنا إليه عن هذا الفيروس كانت سيدة تقيم في مواصى خانيونس؛ استطاعت هذه السيدة الحديث إلينا بعد تخطيها لبعض الوقت نكسة صحية اعتادت عليها منذ أسبوع. تقول مي أبو فخر: "تُصيبني قشعريرة شديدة مع ارتفاع درجة الحرارة، ورغم شدة الحر في الخيمة التي أقطنها، إلا أنني أطلب منهم تغطيتي بأغطية الشتاء". 

نُقلت العدوى إلى مي من زوجها الذي يعمل على بسطة لبيع الفلافل في منتصف شارع "النص" المكتظ بالنازحين، حيث تعاني هذه العائلة من الإصابة في ظل ظروف معيشية صعبة تختصرها مي بحاجتها إلى الحمام. وتقول: "عندما أحتاج للذهاب إلى الحمام، تسندني ابنتي وقريبتي حتى الوصول إلى الحمام المشترك البعيد عن خيمتي، ويمثل هذا المشوار رحلة عذاب لِكونه مقامًا على الرمال ويفتقر إلى كل المقومات".

المريض يدخل المعركة بلا سلاح

منذ أكثر من ثلاثة أسابيع بدأ فيروس تنفسي غامض يشبه في أعراضه الإنفلونزا بالانتشار بسرعة قياسية في غزة، مستهدفًا أجسادًا أضعفها الجوع والحرب. يقول مدير قسم الأطفال والولادة في مجمع ناصر الطبي أحمد الفرا إن هذا الفيروس، وهو "خارج الموسم"، يضرب في الخاصرة الرخوة للصحة العامة في غزة. 

ويقول لـ"الترا فلسطين": "لقد حضر الفيروس باكرًا في أوج الصيف، على عكس المتوقع في الشتاء، ليجد أمامه بيئة مثالية للانتشار: أجسام منهكة تعاني من نقص حاد في المناعة والفيتامينات بسبب انعدام الأمن الغذائي". وفيما تتفاقم خطورة الوضع في ظل الاكتظاظ الشديد الذي حوّل المستشفيات ومخيمات النزوح إلى بؤر للعدوى، فقد أصبحت المشاهد داخل المستشفيات سريالية، حيث ينام المرضى في الممرات، ويتشارك ما يصل إلى سبعة أطفال جهاز استنشاق (تبخير) واحد. 

يصف الفرا الوضع، بقوله: "المريض يدخل المعركة بلا سلاح، فالأدوية الطبية الأساسية لمواجهة هذا الهجوم الفيروسي مفقودة تمامًا. الأدوية المضادة للفيروسات، وبخاخات الاستنشاق الحيوية مثل "بالميكورت"، ومقويات المناعة، كلها أصبحت من الكماليات في قطاع يفتقر حتى إلى البصل والثوم والزنجبيل، وهي أبسط خطوط الدفاع الطبيعية." وتزداد المعضلة تعقيدًا خارج أسوار المستشفيات، حيث يمنع انقطاع الكهرباء الأهالي من تشغيل أجهزة التبخير المنزلية، مما يجبرهم على نقل أطفالهم إلى المستشفيات المكتظة أصلًا لتجنب خطر الاختناق. 

ويحذر الفرا من أن الخطر الأكبر يمس الفئات الأكثر ضعفًا مثل الأطفال دون سن ستة أشهر، وكبار السن، وذوي الأمراض المزمنة كالسكري والضغط والربو. ويقول الفرا: "الخطر الأكبر يكمن في الأطفال داخل مخيمات النزوح، الذين يصلون غالبًا إلى المستشفى في مراحل متقدمة من المرض". 

ويخلص الفرا إلى حقيقة مُرّة تتمثل في أننا "سنظل نعاني من الأوبئة طالما استمرت الحرب وأُغلقت المعابر. فسوء التغذية يدمر قدرة الجسم على إنتاج البروتينات اللازمة لتكوين خلايا الدم البيضاء، وهي جيش الدفاع الأول ضد الأمراض. ببساطة، لقد تم تجريد أجسادنا من قدرتها على المقاومة".

توقعات "كارثية" للشتاء

يحذر بسام زقوت، مدير جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية في قطاع غزة، من تفشي فيروس تنفسي سريع العدوى يضع المنظومة الصحية المنهارة على حافة كارثة وبائية وشيكة، خاصة مع اقتراب فصل الشتاء. 

وفي حديثه لـ"الترا فلسطين"، كشف بسام زقوت أن الحالات التي تصل إلى المراكز الطبية تعاني من أعراض تنفسية وهضمية حادة، تشبه إلى حد كبير أعراض فيروس كورونا. ويضيف: "الحالات تأتي بأعراض في الجهاز التنفسي أو في الجهاز الهضمي. هناك اشتباه في أنه شيء شبيه بالكورونا أو متحور من متحورات الكورونا"، إلا أنه أكد على "استحالة تأكيد طبيعة الفيروس بسبب انعدام القدرة التشخيصية في القطاع". 

ويوضح زقوت أن خطورة الوضع لا تكمن في الفيروس بحد ذاته بقدر ما تكمن في الظروف التي ينتشر فيها. وقال: "رغم أن معظم الحالات تبدو بسيطة في بدايتها، إلا أن سوء التغذية المنتشر والأجسام المنهكة يجعلان المصابين عرضة لمضاعفات خطيرة قد تصل إلى الهزال العام والاختناق". 

وأشار إلى أن "أي عدوى فيروسية في ظل هذه الظروف تعتبر خطيرة، وقد تؤدي إلى فشل في أعضاء الجسم والوفاة". وتتفاقم الأزمة بسبب النقص الحاد في الأدوية، حيث أكد زقوت أن "المضادات الفيروسية غير موجودة، وقوة الأجسام المناعية لدى السكان في أضعف حالاتها"، مما يجعل المصابين يخوضون المعركة ضد المرض "بلا سلاح". 

وعند سؤاله عن النصائح الوقائية، وصف زقوت الوضع بالمأساوي، قائلًا: "من الصعب أن نقدم نصائح وقائية؛ نضحك على أنفسنا إذا فعلنا ذلك، كيف ننصح بالنظافة والتعقيم والناس لا يملكون مياهًا نظيفة؟ وكيف ننصح بعدم الاختلاط وهم مكدسون في مخيمات النزوح؟". 

واختتم زقوت بتحذير قاتم بشأن المستقبل القريب، مؤكداً أن التوقعات لفصل الشتاء "أسوأ من أي سنة سابقة". وأضاف: "هذه المرة، يتزامن انتشار الفيروس مع مناعة منهارة لدى السكان. نحن نتوقع كوارث حقيقية. القصة ستكون أكبر من مجرد موجة برد، ستكون هناك أمراض ووفيات".