في قلب الحرب التي تعصف بقطاع غزة، لا يقتصر الحصار على دويّ القذائف ورائحة الدخان، بل يتسلل ليخنق أدقّ تفاصيل الحياة اليومية. حتى أبسط الاحتياجات – كالملابس – أصبحت رفاهية بعيدة المنال؛ فالمعابر مغلقة، والمصانع والمتاجر مدمَّرة، وما بقي من معروضٍ شحيحٍ ارتفعت أسعاره إلى مستويات جنونية، لتغدو قطعة الملابس عبئًا مضاعفًا، وتتحول عملية الشراء إلى معركة يومية مرهقة.
وأمام هذا الواقع، لم تجد العائلات إلا حلولًا بديلة؛ فالإبرة والخيط عادا إلى الواجهة لترقيع القديم وإطالة عمره، فيما ازدحمت أسواق "البالة" بالباحثين عن ستر الجسد بأقل التكاليف، رغم أنّ هذه الأسواق نفسها شهدت ارتفاعًا نسبيًا في الأسعار بسبب تزايد الطلب وشُحّ المعروض.
مع استمرار إغلاق المعابر، تظل أزمة نقص الملابس الحادّة شاهدًا جديدًا على معاناة الغزّيّين اليومية، حيث تحولت أبسط متطلبات الحياة – كقميص أو بنطال – إلى معركة بقاء جديدة تُضاف إلى معركة الغذاء والمأوى والأمان
في بيوت كثيرة، تغيّرت المشاهد: الأطفال يرتدون ملابس إخوتهم الأكبر بعد تعديلها، والنساء يبتكرن طرقًا لإحياء ما بلي من الثياب، حتى باتت قطعة القماش تُعامَل ككنز ثمين، والإبرة والخيط أصبحا رفيقين دائمين في كل بيت.
أمام خيمتها الصغيرة في منطقة المواصي جنوب قطاع غزة، تجلس الثلاثينية أم علاء جودة منهمكة بخياطة ثياب أبنائها الممزقة، مستخدمة الإبرة والخيط في محاولة لإطالة عمر البنطال أو القميص قدر المستطاع.
تبتسم بمرارة وتقول لـ"الترا فلسطين": "لم يعد أمامي أي حلول سوى إعادة خياطة ثياب أبنائي القديمة الممزقة عدة مرات، المظهر مهم بالطبع، لكننا لم نعد نملك خيارًا آخر".
أسعار تفوق الخيال
أم علاء، هي أم لخمسة من الأبناء، فتؤكد أن شراء الملابس الجديدة أصبح من المستحيلات، حيث ارتفعت أسعارها بشكل كبير خلال الحرب لتصل إلى مستويات غير مسبوقة، خاصةً ملابس الأطفال إن وُجدت أصلًا، مشيرةً إلى أن ما يتوفر لديهم من أموال بالكاد يكفي للطعام في ظل هذا الارتفاع الجنوني للأسعار.
في الوقت الذي اهترأت فيه ثياب طفليها الصغيرين قرّرتْ التوجه إلى السوق لشراء ملابس جديدة لهما، وتلاحق بأعينها تلك الملابس الجديدة، تسأل البائعين عن الثمن، لكن سرعان ما اصطدمت بواقعٍ لم تتوقعه؛ أسعار خيالية لثياب أطفال لم يبلغوا بعد عامهم العاشر.
وتضيف: "صُعقتُ حين علمتُ أن سعر بجامة أطفال بسيطة مصنوعة من قماش رديء بلغ 70 شيكلًا (نحو 20 دولارًا)، بعدما كانت تُباع قبل الحرب بـ20 شيكلًا فقط. أسعار الفساتين والبناطيل والقمصان تضاعفت أيضًا، وحتى الملابس المستعملة ارتفعت أسعارها".
تتابع أم محمد بقولها: "واصلتُ البحث لعلّي أجد بائعًا لم تغيّره الحرب، لكن دون جدوى. الأسعار فلكية ولا نستطيع شراء ملابس جديدة لأطفالنا. في النهاية، قرّرتُ العودة إلى منزلي لترقيع ما تبقى من ثيابهم".
خسائر مضاعفة
أم علاء، التي نزحت من منزلها في وسط مدينة خان يونس تحت وابل القصف المدفعي والجويّ المكثف، لم تتمكن من أخذ سوى بعض الملابس البسيطة لها ولأطفالها، مشيرةً إلى أن ما زاد من حسرتها خلال نزوحها الأخير تهدّم منزلهم بشكل كامل خلال الاجتياح الأخير لمدينة خان يونس، وخسارتها معه كل ما يملكونه.
ابتكرت مع جاراتها عادة جديدة لمواجهة الأزمة، تضيف: "صرنا نتبادل قطع الملابس بيننا في المخيم، بحيث يحصل كل واحد على ما يناسب أطفاله، فمنذ أن فقد زوجي مصدر رزقه مع بداية الحرب، تراجع وضعنا الاقتصادي كثيرًا، وأصبح توفير الملابس أمرًا ثانويًا مقارنة بالطعام والدواء".
وتزداد معاناة أم علاء مع اقتراب ولادتها المرتقبة بعد ثلاثة أشهر، حيث تقول بقلق: "أنا بانتظار مولود جديد، لكن فكرة توفير ملابسه ومستلزماته تبدو شبه مستحيلة في ظل الحصار ومنع دخول الكثير من الاحتياجات إلى قطاع غزة".
رحلة بحث مضنية
بين أكوام الملابس المستعملة في شارع "النص" بمنطقة مواصي خان يونس، يزدحم الرجال والنساء والأطفال يقلبون بين القطع المعلقة على حوامل حديدية، بحثًا عن قميص صالح أو حذاء مناسب لهم أو لأبنائهم. ومع استمرار إغلاق المعابر، تظل أزمة نقص الملابس الحادّة شاهدًا جديدًا على معاناة الغزّيّين اليومية، حيث تحولت أبسط متطلبات الحياة – كقميص أو بنطال – إلى معركة بقاء جديدة تُضاف إلى معركة الغذاء والمأوى والأمان.
أم أحمد عياد، إحدى السيدات اللواتي يبحثن بين الأكوام عن ملابس تناسب طفليها، تقول بأسى: "لم أجد ما أريده في السوق بسبب ارتفاع أسعار البضائع القليلة ورداءة جودتها، فاضطررتُ للتوجّه إلى محالّ البالة (الملابس المستعملة) على أمل أن تكون أسعارها أقل، لكنني فوجئت أيضًا بأنها ارتفعت هي الأخرى بشكل مضاعف ولم تعد كما كانت سابقًا".
وتضيف لـ"الترا فلسطين": "أسعار الملابس الجديدة أصبحت فوق طاقة أيّ إنسان عادي؛ فثمن قميص أو بنطال يعادل نصف راتب موظف، لذلك لم يبقَ لنا خيارٌ سوى اللجوء إلى البالة، ورغم أنها مستعملة إلّا أننا نستطيع شراؤها على الأقل".
وتشير النازحة من مدينة رفح إلى أن عملية البحث بين الأكوام تستغرق وقتًا طويلًا، إذ قد يجدون القماش المناسب لكن بمقاسات غير ملائمة، أو العكس، وقد يُضطرون في النهاية إلى شراء بدائل أقرب ما تكون للمطلوب.
وبعد بحث طويل، عثرت أم أحمد على قميص قديم وبنطال في حالة سيئة لابنها البالغ عشر سنوات، وتقول: "المهم ألّا يبقى أطفالي بلا ملابس. كنا في السابق نشتري ملابس جديدة كل موسم، أمّا الآن فنفرح إذا وجدنا قميصًا مستعملًا بسعر مقبول".
وتؤكد أنها لم تتوقع يومًا أن تضطر لإلباس أسرتها ملابس مستعملة، لكن الظروف القاسية وانعدام البدائل دفعتها لذلك، خاصةً في ظل حرارة الصيف المرتفعة داخل الخيام التي تتحول إلى أفران خلال النهار.
وتضيف بقلق: "المشكلة الكبرى في هذه الملابس هي النظافة؛ فهي مليئة بغبار التخزين والجراثيم التي قد تسبب أمراضًا جلدية أو تنفسية للأطفال".
وتصف أم أحمد رحلة البحث بين الملابس المكدّسة على الأرصفة، ومفترقات الطرق، والأسواق، والجدران، بأنها أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش.
الخيار الوحيد للأهالي
وسط شارع طويل تتناثر على جانبيه خيام النازحين جنوب قطاع غزة، يجلس الشاب ناصر عوض أمام بسطته الصغيرة، عارضًا مجموعة من الملابس المستعملة والمهترئة، محاولًا لفت أنظار المارّة وإقناعهم بشراء ما يحتاجونه.
ناصر، الخريج الجامعي والنازح من مدينة رفح، وجد في بيع الملابس المستعملة مصدر رزق وحيد بعدما فقد عمله الأساسي بفعل العدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع. يقول لـ"الترا فلسطين": "بدأتُ هذا العمل منذ عام، بعد أن فقدتُ والدي شهيدًا في الأيام الأولى للحرب، ولم يكن أمامي خيارٌ آخر سوى محاولة إعالة والدتي وإخوتي الأربعة. لذلك لجأتُ إلى شراء الملابس المستعملة وإعادة فرزها وترتيبها على بسطة بسيطة لأبيعها بما أستطيع".
ويضيف: "صحيح أن أسعار الملابس المستعملة ارتفعت هي الأخرى، لكنها لا تُقارن بأسعار الملابس الجديدة التي تُباع بأثمان خيالية وجودة رديئة لا تناسب أجواء الصيف أو الشتاء. فحالة الغلاء تطال كل شيء، وزيادة الأسعار في (البالة) أمرٌ طبيعي أمام هذا الواقع، لكن يبقى الإقبال عليها كبيرًا، لأنها تظل الخيار الأرخص والمتاح للأهالي".
ويشير ناصر إلى أن الطلب الأكبر يتركّز على ملابس الأطفال، خاصةً المواليد والفئات العمرية الصغيرة حتى عمر السنتين، مضيفًا: "العديد من النازحين وصلوا إلى أماكن الإيواء دون أن يحملوا ما يكفي من الملابس، ومع تغيّر الفصول تزداد حاجتهم، فلا يجدون سوى البالة لتلبية احتياجاتهم".
ارتفاع غير مسبوق
في شارع "النص" بمنطقة مواصي خان يونس، يجلس التاجر كمال حرز الله داخل محلّه الصغير المصنوع من الصفيح، متحدثًا بمرارة عن الآثار الكارثية للحرب على قطاع الملابس في غزة.
يوضح حرز الله، صاحب محل "أطفالنا سنتر"، لـ"الترا فلسطين" أن العدوان الإسرائيلي أثّر بشكل مباشر على السوق، حيث ارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق وتراجعت وفرة الملابس في المواسم، نتيجة منع الاحتلال إدخال الملابس الجاهزة، إضافة إلى حظر إدخال المواد الخام من أقمشة وخيوط وكُلف، وارتفاع أجرة العمال، ما أدى إلى توقّف ما تبقّى من مصانع الخياطة المحلية.
ويشير إلى أن التجار تكبّدوا خسائر فادحة منذ بداية الحرب، بعد أن دُمّرت وأُحرقت مخازنهم ومحلاتهم، فضلًا عن الأسواق الشعبية، إلى جانب الارتفاع الكبير في تكاليف النقل والمواصلات.
ويبيّن حرز الله، الذي فقد ثلاث محالّ كبيرة في مدينة رفح جرّاء تدمير الاحتلال لها، أن قلّة المعروض مقابل ارتفاع الطلب تسبّبت في زيادة حادّة بالأسعار، حتى باتت الملابس خارج قدرة غالبية المواطنين الذين يضطرون لتقديم الغذاء والماء على شراء الكسوة.
ويؤكد حرز الله أن الأسواق تشهد حالة من الركود والعزوف عن الشراء، إلّا في حالات الضرورة القصوى، خاصةً النازحين الذين يعانون من شحّ في الملابس، وذلك بسبب نقص السيولة النقدية وتدهور الوضع الاقتصادي الذي جعل معظم العائلات عاجزة عن تلبية احتياجاتها الأساسية.
ويضيف: "أسعار الملابس ارتفعت إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف عمّا كانت عليه قبل الحرب رغم قلّة جودتها، الأمر الذي حرم النازحين والمواطنين من الحصول على أبسط احتياجاتهم، بل وحتى من حماية أجسادهم من حرارة الصيف اللاهبة".
أمّا عن الحلول، فيرى التاجر حرز الله أنه لا يمكن الحديث عن أي بدائل حقيقية في ظل إغلاق المعابر واستمرار شحّ البضائع، ما يجعل الأزمة مفتوحة على مزيد من المعاناة.
وتشير تقديرات منظمات إنسانية إلى أن آلاف الأسر في غزة باتت عاجزة عن تلبية احتياجاتها الأساسية، بما فيها الملابس، وهو ما يضيف عبئًا جديدًا إلى المعاناة اليومية لسكان القطاع.
وعمد جيش الاحتلال خلال حربه المتواصلة على قطاع غزة، إلى تدمير معظم المصانع والمنشآت الاقتصادية والتجارية، ما أدّى إلى توقّفٍ تام لعجلة الإنتاج المحليّة، والتي كانت تُغطي جزءًا من احتياجات المواطنين.
ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتشديد الحصار الإسرائيلي وإحكام إغلاق المعابر، يمنع جيش الاحتلال إدخال معظم السلع والبضائع إلى غزة، بما فيها الملابس الجاهزة والأحذية، ما فاقم معاناة المواطنين.