بحسرة شديدة، ينظر المزارع محمد التلباني إلى أراضي قريته "المصدر" وسط قطاع غزة، فعلى مدّ بصره لا يرى إلا أنقاضًا فوق أرض جرداء كانت خضرتها دومًا تُسرّ قلبه. مئات الآلاف من الدونمات كانت مزروعة بالزيتون والحمضيات والخضروات الموسمية دمّرها جيش الاحتلال بالقصف والتجريف، بينما اضطر الأهالي تحت وطأة الحصار إلى استخدام ما تبقّى حطبًا للوقود.
حجم التدمير الذي طال الإنتاج النباتي في غزة بلغ ما لا يقل عن 85% مما كان قبل الحرب، إذ أنَّ مساحات كبيرة من البساتين الشجرية، مثل الزيتون والحمضيات والنخيل، تعرّضت للتجريف من قبل الاحتلال
"زعلت على الشجر أكثر ما زعلت على داري لما راحت"، يقول محمد التلباني الذي لا يعرف من المهن سوى الزراعة وتربية النحل. ويضيف: "البيت بيتعمر في شهور، أما أشجار الليمون والزيتون والعنب فتحتاج 20 عامًا لتطرح".
ويؤكد التلباني أن "الحياة بالنسبة له انتهت مع التصحر ونهاية الغطاء النباتي في غزة"، ويقول: "كانت الناس تقطع الشجر الأخضر، فأجتهد لإقناعهم بالتوقف عن ذلك كونه لا يشتعل، ولكن دون جدوى، فقد كانوا يأخذون كل نبات لإشعال النار وطهي الطعام".
من جانبه، فقد السبعيني أحمد أبو يحيى خمسة دونمات كانت مزروعة بالزيتون المعمّر منذ مئات السنين. يقول: "حاولت كثيرًا منع الناس من قطع الأشجار التي نجت من غارات الاحتلال وعمليات التجريف، لكنهم كانوا يردّون: ماذا نفعل؟ لا يوجد وقود ولا كهرباء. سنموت من البرد ونريد أن نتدفأ".
يتحسّر أبو يحيى على الغطاء النباتي الذي طاله الدمار في الأماكن العامة والمتنزهات والمستوطنات "المُحرَّرة" سابقًا، مبينًا أن هذه "المُحرَّرات" كانت تحتوي على بيارات ضخمة من الزيتون والمانجو والحمضيات، عدا عن بيارات العنب في الشيخ عجلين، وكلها كانت هدفًا لعمليات التجريف، بينما اضطر الناس إلى قطع ما تبقّى فيها من أشجار لإشعال النار بهدف الطهي والتدفئة.
تغيير طبوغرافي
يوضح رئيس قسم البستنة الشجرية في وزارة الزراعة بغزة، المهندس محمد أبو عودة، أن حجم التدمير الذي طال الإنتاج النباتي في غزة بلغ ما لا يقل عن 85% مما كان قبل الحرب، مبينًا أن المساحة المتبقية هي التي نرى بعض منتجاتها في الأسواق، مثل الخضروات التي تتوفر بكميات محدودة وأسعار مرتفعة جدًا.
ويُبين أبو عودة أن مساحات كبيرة من البساتين الشجرية، مثل الزيتون والحمضيات والنخيل، تعرّضت للتجريف من قبل الاحتلال، "وبالتالي نرى كميات محدودة للغاية من منتجات مثل العنب والزيتون والتين، وأسعارها مرتفعة جدًا بالفعل".
ويؤكد أبو عودة أن تغييرًا طبوغرافيًا كبيرًا طرأ على الأراضي الزراعية في قطاع غزة نتيجة القصف والتجريف ومنع الزراعة فيها لمدة عامين، حيث فقدت هذه الأراضي طبيعتها الخصبة، وأدّى استخدام الجرافات والآليات الثقيلة إلى موت الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة.
ويصف أبو عودة ما تعرّضت له الأراضي الزراعية في غزة بأنه "كارثة بيئية بامتياز"، مشيرًا إلى العجز حتى عن أخذ عينات من التربة لفحصها في المختبرات بسبب الدمار الكبير الذي لحق بالمختبرات في غزة.
وعندما سُئل أبو عودة: هل وصلنا إلى نقطة اللاعودة؟ أجاب: "لن تجدي الطرق التقليدية مع هذا الحال، علينا أن نلجأ إلى طرق مبتكرة ومختلفة عمّا سبق، مثل الزراعة الحضرية أو جلب أشجار كبيرة في العمر تكون قادرة على المقاومة".
آثار بعيدة المدى
وقبل إطلاق "إسرائيل" حرب الإبادة على غزة، كانت المساحات الزراعية تبلغ حوالي 180 ألف دونم، غير أن آخر إحصائية لمنظمة الأغذية والزراعة "الفاو" تشير إلى أن المناطق التي يمكن الوصول إليها الآن لا تتجاوز 5 إلى 6% من مجمل الأراضي الزراعية، أما الأراضي المتبقية فإما أنها دُمّرت بالكامل أو لا يمكن الوصول إليها.
وتؤكد "الفاو" أن الأراضي التي لم تُدمّر بشكل مباشر جفّت تمامًا، مثل بساتين الحمضيات في جباليا شمال القطاع، وفي حي الزيتون جنوب مدينة غزة، وفي المنطقة الشرقية من المدينة.
يقول استشاري التنمية الزراعية المستدامة نبيل أبو شمالة إن ما يقارب نصف هذه المناطق كان مزروعًا بأشجار الزيتون والحمضيات، لكنها جفّت تمامًا إن لم تكن دُمّرت، حيث تُظهر الخرائط الجوية أن الغطاء النباتي في هذه المناطق لم يعد له وجود.
ويضيف أبو شمالة: "بالإضافة إلى ذلك، معظم المناطق التي كانت زراعية، مثل مناطق المواصي في خانيونس ودير البلح، نزح إليها الناس واستقروا فيها، مما قلّل بشكل كبير من مساحتها، سواء كانت بساتين شجرية أو أراضٍ مفتوحة، ولم يتبقَّ سوى القليل من الدفيئات الزراعية".
وتحدث أبو شمالة عن 94% من الأراضي التي يمكن القول إنها أراضٍ غير صالحة للزراعة ولا يمكن الوصول إليها، يمكن اعتبارها ضمن مناطق التصحر الجديدة التي تخلو غالبًا من الغطاء النباتي، وهذا أمر خطير جدًا لم يسبق لفلسطين أن عاشته في تاريخه"، وفقًا له.
ويشير إلى أن الموارد المائية أيضًا شهدت تدهورًا شديدًا، لأن معظم سكان غزة تركزوا في الجنوب، وبالتالي زادت حاجتهم للشرب، "وبما أن المياه التي كانت تأتي من "إسرائيل" أو من محطة التحلية في دير البلح تقلّصت بشكل كبير، فقد عمد الناس إلى استهلاك مياه الشرب عبر تحلية المياه الجوفية".
ويوضح أبو شمالة أن تحلية المياه الجوفية تعني أن 40 أو 50% من المياه ستُستخدم للشرب، والباقي تتخلّص منه بعض المحطات كونه شديد الملوحة إلى الخزان الجوفي، وبعضه الآخر يُلقى في التربة، ما يؤدي إلى زيادة الملوحة في التربة والخزان الجوفي.
وقال: "قبل الحرب كانت الملوحة حوالي 800 جزء في المليون، واليوم هي فوق 1500 جزء في المليون. وبالتالي، سنعاني لفترة طويلة بعد هذه الحرب من أزمة في جودة المياه الجوفية ونوعيتها وكمياتها".
طرأ تغييرٌ طبوغرافيٌ كبيرٌ على الأراضي الزراعية في قطاع غزة نتيجة القصف والتجريف ومنع الزراعة فيها لمدة عامين، حيث فقدت هذه الأراضي طبيعتها الخصبة
كما تحدث أبو شمالة عن تدمير محطات معالجة مياه الصرف الصحي من أجل إعادة استخدامها في الزراعة، فقال: "خسرنا موردًا مهمًا جدًا كان يمكن أن يوفر لنا حوالي 10 ملايين متر مكعب في الشمال، و15 مليون متر مكعب في الوسطى، وحوالي 12 إلى 16 مليون متر مكعب من محطة صرف رفح".
ويؤكد نبيل أبو شمالة أن آثار التصحر على البيئة "بعيدة المدى"، إذ سيستغرق تعويض خواصها البيولوجية عقدًا من الزمان أو أكثر. ويضيف: "كما أننا لا نعرف إن كان هناك أي تلوثات إشعاعية بفعل استخدام الاحتلال لمصادر متعددة من الأسلحة. هذا طبعًا يتطلب إجراء تحاليل لأنواع التربة للتأكد من وجود إشعاعات أو نظائر مشعة أو مواد سامة".