بيسان

"هل سنعانق أبناءنا مجددًا؟" كابوس يطارد الصحفيين والصحفيات في غزة

المصدر تقارير
"هل سنعانق أبناءنا مجددًا؟" كابوس يطارد الصحفيين والصحفيات في غزة
دعاء شاهين

دعاء شاهين

صحافية من غزة

عبر شاشة الهاتف، ظهر الطفل غيث ملوّحًا لأمه الصحفية مريم أبو دقة دون أن يعلم أيٌّ منهما أن تلك اللحظة ستكون الوداع الأخير بينهما، إذ استُشهدت مريم مع أربعة صحفيين آخرين في قصف على مجمع ناصر الطبي، ليخلّف رحيلها كابوسًا في نفوس صحفيين آخرين أرسلوا أبناءهم خارج قطاع غزة على أمل منحهم حياة آمنة.

"استهداف الزملاء يخلق صدمة جماعية تمتد لكل من يشاركهم المهنة: فالصحفي يصبح شاهدًا على المأساة من جهة وضحية محتملة من جهة أخرى، ما يتركه في حالة تيقظ دائم وتوتر مستمر"

ويواجه الصحفيون في قطاع غزة احتمالات الموت كل يوم في الميدان، بينما يكبر أبناؤهم في الغربة بعيدًا عن أحضانهم، وإلى جانب ذلك يتعاظم السؤال في نفوسهم: هل سنعانق أطفالنا مجددًا؟ أم أن الوداع عبر الهاتف هو آخر ما تبقّى لنا؟

نور السويركي (37 عامًا)، صحفية وأم لطفلين: علياء (13 عامًا) وجمال (10 أعوام)، اضطرت لإجلائهما إلى مصر مع والديها خوفًا عليهما من القصف، لتبقى هي وزوجها –وكلاهما صحافيان– في الميدان.

تقول نور: "عندما ودّعت أولادي على معبر رفح قبل عامٍ ونصف، لم أكن أتصور أن يمر كل هذا الوقت دون أن ألتقيهم. توقعت أن يغيبوا شهرين أو ثلاثة على الأكثر، أو أن ألتحق أنا بهم، لكن المعبر أُغلق واجتاح الاحتلال رفح كاملة".

تستذكر نور، الشهيدة مريم كزميلة في الميدان وأم أيضًا، وتقول: "أول ما فكرت به هو ابنها غيث، وتساءلت: هل يمكن أن يعيش أولادي التجربة نفسها؟ هل سأرحل وأتركهم يكبرون بعيدًا عني؟".

وتضيف: "أنا ومريم كنا نتقاسم هموم الاشتياق للأبناء، كنت أسمع مكالماتها مع غيث وكأنها مكالماتي أنا مع علياء وجمال، عندما بكت مريم في حديثها معه، شعرت أني أبكي بدلًا عنها".

ولا تخفي نور خوفها الدائم من أن تكون هي الشهيدة القادمة في الاستهدافات الإسرائيلية للصحفيين، وتقول: "الفكرة التي تراودني باستمرار هي أن أكتب وصية لأولادي. أقول لنفسي: ربما لا أراهم ثانية، هل سأعانقهم مجددًا؟ هذا السؤال لا يفارقني".

وتتشارك الصحفية يافا أبو عكر خيط الألم ذاته مع صديقتها نور، فقد أُجبرت على إرسال طفلها أنس (6 أعوام) مع والدتها إلى الخارج، وكان ذلك منذ عام وثمانية شهور.

تقول يافا: "قبل الحرب كنت أترك أنس عند أمي كلما خرجت إلى العمل، وعندما اشتدت الحرب صار خوفي عليه لا يُحتمل، فقررت أن أرسله مع أمي إلى مصر، ورغم أن سفره منحني طمأنينة عليه لكن الخوف لا يغادرني من أن لا ألتقيه مرة أخرى".

ومنذ رحيل زميلتها مريم، بدأت يافا في تهيئة نفسها للاحتمال الأصعب، "فكل لحظة قد تكون الأخيرة، وكلنا نعيش هاجس أن ننعى بعضنا البعض، أما أمنياتنا التي لا تنتهي فهي أن تتوقف هذه الإبادة، وألتقي ابني" أضافت يافا، ثم تساءلت: "لماذا يحدث لنا هذا؟ نحن لا نفعل شيئًا سوى أننا ننقل حقيقة ما يحدث".

من جانبه، يعيش الصحفي ثائر أبو عون مأساة من نوع آخر، إذ اضطر لوداع ابنه الوحيد فارس (4 أعوام)، الذي سافر مع أمه، وهي صحفية أيضًا، للعلاج في الخارج من مرض يهدد سمعه، وكان ذلك قبل أن يُغلق معبر رفح بأيام، ليبقى ثائر محاصرًا في غزة.

يقول ثائر: "تعذبتُ كثيرًا في النزوح، خرجنا من بيتنا دون أي شيء، حتى الكلمة صارت ثقيلة على لساني.. مضى عام ونصف دون أن أعانق ابني. أشعر أني أعيش وجعًا مضاعفًا، فطفلي فارس يكبر بعيدًا عني، يتغير يومًا بعد يوم، بينما أنا عالق في مكان واحد".

عندما سافر فارس لم يكن يستطيع النطق أكثر من كلمتين، واليوم صار يتحدث ويعبر، وقد تغيّر كل ذلك بعيدًا عن والده ثائر، الذي يسمع صوته عبر الهاتف فقط. ويضيف ثائر: "في قلبي راحة لأنه بأمان مع أمه، بعيدًا عن المجازر والإبادة في غزة، لكن في الوقت نفسه ينهشني شعور أنني مجبر على الابتعاد عنه".

ويستذكر ثائر زميلته مريم "التي كانت تعدُّ الأيام والساعات لترى ابنها، بينما أنا أعدُّ اللحظات كي لا يضيع العمر بعيدًا عن فارس". يحاول أن يكتب وصيته بين الحين والآخر، لكنه يفشل، "فكلما أمسكت القلم، يعجز عقلي عن صياغة الكلمات. أريد أن أوصل رسالة واحدة لفارس، أنني أحبك جدًا ومشتاق لك كثيرًا" أضاف.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي فإن 247 صحفيًا وصحفية استُشهدوا منذ بداية حرب الإبادة حتى نهاية شهر آب/أغسطس 2025، الذي شهد وحده استشهاد 10 صحفيين.

وأمام هذه المعطيات أطلقت منظمة "مراسلون بلا حدود"، ومنظمة "آفاز"، حملة للتنديد بجرائم الاحتلال ضد الصحفيين، وأكدتا أنه "بالمعدل الذي يقتل فيه الجيش الإسرائيلي الصحافيين في غزة، لن يبقى قريبًا أحد لينقل ما يحدث".

ويوضح أخصائي الصحة النفسية سعيد محمد الكحلوت أن استهداف الزملاء يترك آثارًا لا تقتصر على الضحايا مباشرة، "فهو يخلق صدمة جماعية تمتد لكل من يشاركهم المهنة: فالصحفي يصبح شاهدًا على المأساة من جهة وضحية محتملة من جهة أخرى، ما يتركه في حالة تيقظ دائم وتوتر مستمر".

الصحفي الذي أرسل أبناءه إلى مكان آمن ويعمل في الميدان يعيش صراعًا داخليًا بين الواجب المهني وغريزة الأبوة أو الأمومة، وهذا يُسبب له إرهاقًا نفسيًا وقلقًا دائمًا، عدا عن شعور الذنب، الذي يمثل عبئًا إضافيًا

ويؤكد الكحلوت أن الصحفي الذي أرسل أبناءه إلى مكان آمن ويعمل في الميدان "يعيش صراعًا داخليًا بين الواجب المهني وغريزة الأبوة أو الأمومة، وهذا يُسبب له إرهاقًا نفسيًا وقلقًا دائمًا، عدا عن شعور الذنب، الذي يمثل عبئًا إضافيًا، فكثيرٌ من الآباء والأمهات يشعرون أنهم تخلّوا عن أطفالهم أو خانُوهم بالبقاء للعمل، ما يضعف القدرة على الصمود ويستنزف الضمير".

هكذا، يصبح الصحفي في غزة أمام معادلة شديدة الصعوبة والحساسية: فإما البقاء لنقل الحقيقة ومجابهة الموت كل يوم بعيدًا عن الأبناء، أو السفر إلى الخارج لضمان اللقاء بهم وترك الشعب بلا صوت يروي مأساته. وبين هذين الخيارين المريرين، يعيش عشرات الصحفيات والصحفيين بقلوب ممزقة بين اشتياق لا يُحتمل وواجب لا يُتنازل عنه، حاملين في ذاكرتهم كابوس مشهد غيث الذي ودّع أمه عبر شاشة الهاتف.