حوّلت حرب الإبادة الإسرائيلية حكايات الحمل والولادة في قطاع غزة إلى معركة تخوضها الأمهات وأجنتهن من أجل البقاء. فالقصف العنيف من جهة، وحرب التجويع من جهة أخرى، خلقت ظروفًا مريرة للأمهات بدءًا من لحظة الحمل حتى لحظة الوضع، بينما يؤكد أحدث تقرير للمكتب الإعلامي الحكومي، نُشر في 18 تموز/يوليو، تسجيل أكثر من 3500 حالة إجهاض بسبب نقص العناصر الغذائية الضرورية.
سوء التغذية أثناء الحمل ينعكس مباشرة على صحة الجنين ووزنه؛ فغياب الفيتامينات الضرورية، خاصة حمض الفوليك، قد يؤدي إلى إصابة المولود بتشوّه خلقي في العمود الفقري يُعرف بـ"السنسنة المشقوقة"
هبة الملفوح، نازحة في شرق غزة، تصف حملها بأنه كان نقيض ما تحلم به أي أم، إذ تزامنت شهوره الأولى مع اشتداد المجاعة في القطاع، فيما كان زوجها يبذل ما بوسعه لتأمين لقيمات صالحة لها كامرأة حامل، لكن عامين من سوء التغذية تركا أثرًا عميقًا على جسدها، فتراجع وزنها من 60 إلى 50 كيلوغرامًا خلال أشهر الحمل.
كانت هبة الملفوح تقيم في منطقة النفق شرق غزة، حيث لا تهدأ أصوات الانفجارات ليلًا. تتذكر يوم اقتحمت طائرة مسيّرة من نوع "كواد كابتر" منزلها أثناء غياب زوجها، وكيف كاد قلبها يتوقف من شدة الذعر وهي تبكي وحيدة. ومع تصاعد الخطر، اضطرت للنزوح مجددًا وقد أصيبت بنزيف أخذ يتفاقم يومًا بعد يوم.
تقول هبة: "كنا بجوار امرأة تخبز للنازحين باستخدام النايلون والأوراق، فامتلأت رئتاي برائحة البلاستيك المحترق ودخان الحطب، إضافة إلى رائحة البارود التي لا تفارق المكان". وعندما راجعت الطبيب، أبلغها أن كيس الحمل أكبر من حجم الجنين بكثير، وأنه لا ينمو، لتفقد بذلك طفلها الأول قبل أن يبصر نور الحياة.
أما الشابة علا خالد فتؤكد أن حملها بدأ طبيعيًا، لكنه كان مثقلًا بالتعب والإرهاق المضاعفين. ومع تقدم الشهور، تدهورت أوضاعها الصحية والنفسية بفعل الحرب، خصوصًا بعد أن تعرضت منطقتها للقصف واضطرت للنزوح خمس مرات متتالية، ما أدى إلى إصابتها بارتفاع ضغط الدم وشد عضلي حاد.
وزادت معاناة علا حين شاهدت مشاهد تعذيب الأسرى، وهي تعلم أن عددًا من أقاربها خلف القضبان، الأمر الذي "هزها نفسيًا بشدة" كما تقول، مؤكدة أن هذه الصدمات، إلى جانب القصف الذي وقع قرب منزلها ليلة الإجهاض، كانت السبب الرئيس في فقدان جنينها، خاصة بعد أن ارتفع ضغط دمها بشكل حاد في تلك الليلة.
وعانت علا خلال أشهر الحمل من ضيق تنفس دائم، وترجّح أن سببه ضعف الدم وسوء التغذية. لكن الطبيب أكد لها أن السبب المباشر للإجهاض كان الخوف الشديد والحزن العميق اللذان أحاطا بها طوال فترة الحمل.
فيما توضح الشابة رنين صيام أن طفلتها وُلدت بوزن 2 كغم و800 غرام، ورغم ذلك صُنّفت حالتها منذ اللحظة الأولى كسوء تغذية. تقول: "طوال الحمل لم أجد أي مغذيات أو مدعمات أو طعامًا صحيًا، كنت أشتري البيض بأسعار مرتفعة جدًا فقط لأحصل على بعض البروتينات، بينما كان وزني منخفضًا للغاية".
وتشير إلى أن القلق والخوف والتوتر، إلى جانب التفكير المستمر والنزوح المتكرر، كانت عوامل تنهك صحتها يومًا بعد يوم. وتضيف: "نزحت في الشهر السابع إلى منزل محترق أعيش فيه حتى الآن، والوضع كان صعبًا للغاية بسبب التعرض للنار والمشي لمسافات طويلة للوصول إلى عملي، وكل ذلك ترك أثرًا سلبيًا على صحتي".
وتصف رنين لحظة الولادة قائلة: "جاء المخاض وقت الفجر، ولم تكن هناك أي سيارة لنقلي إلى المستشفى بسبب خطورة الوضع وظلام الليل. استغرق الأمر جهدًا كبيرًا واتصالات ووساطات متعددة حتى وصلت سيارة الإسعاف".
وفي اللحظة التي دخلت فيها المستشفى، كانت هناك حالة أخرى لامرأة فقدت جنينها في رحمها بعد تأخر وصول الإسعاف إليها. تضيف رنين: "حتى في المستشفى، لم يكن الوضع أفضل، فالازدحام كان خانقًا، وعدد الأسرّة أقل بكثير من عدد الحالات التي تحتاج إلى الرعاية".
حرب على الأرحام
وتوضح الطبيبة غادة عوض، في حديث لـ"الترا فلسطين"، أن من أبرز أسباب حالات الإجهاض المبكر في غزة غياب المتابعة الطبية المنتظمة للحامل، إلى جانب سوء التغذية ونقص الفيتامينات الأساسية، وعلى رأسها حمض الفوليك، مشيرة إلى أن نقص وزن الجنين أو ما يُعرف طبيًا بـ"تأخر النمو داخل الرحم" يُعد أحد العوامل الرئيسة التي تزيد من احتمالية الولادة المبكرة.
وتؤكد أن سوء التغذية أثناء الحمل ينعكس مباشرة على صحة الجنين ووزنه؛ فغياب الفيتامينات الضرورية، خاصة حمض الفوليك، قد يؤدي إلى إصابة المولود بتشوّه خلقي في العمود الفقري يُعرف بـ"السنسنة المشقوقة"، وهي حالة لا يكتمل فيها نمو العمود الفقري بشكل طبيعي، وقد تمتد آثارها إلى الحبل الشوكي والأعصاب، مسببة مشاكل دائمة في الحركة أو التحكم بالإخراج.
وتبين غادة عوض أن نقص فيتامين D قد يؤدي إلى إصابة المواليد باليرقان المستمر، إضافة إلى تأخر في النمو الجسدي والتطور الحركي، وتأخر بزوغ الأسنان.
وتشير عوض إلى أن غياب الرعاية الطبية أو ضعفها، مثل عدم إجراء فحوصات الدم أو قياس ضغط الدم ونسبة السكر، يزيد من خطر المضاعفات في حال إصابة الحامل بأمراض مزمنة كالضغط أو السكري أو فقر الدم، ما قد يهدد حياة الأم والجنين معًا.
وتحذر من أن نقص الحاضنات في مستشفيات القطاع يقلل من فرص إنقاذ المواليد الذين يحتاجون إليها، خاصة في زمن الحرب، حيث تزايدت الولادات المبكرة وولادات الأطفال منخفضي الوزن. وتضيف: "غالبًا ما تكون جميع الحاضنات ممتلئة، فيما يولد أطفال جدد بحاجة ماسة إلى الرعاية الفورية، ما يهدد حياتهم ويرفع معدلات الوفاة".
ولا تقف المعاناة عند هذا الحد، فالأمهات يعانين من نقص الحليب الطبيعي بسبب سوء التغذية، إضافة إلى شح الحليب الصناعي الذي يمثل الغذاء الوحيد للرضع في أشهرهم الأولى، ما يضاعف المخاطر الصحية.
وصفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" الوضع في غزة بأنه "ولادة طفل إلى الجحيم"، بسبب نقص الخدمات والرعاية
وتصف عوض مشاهداتها قائلة: "ثلاثة أرباع المواليد الذين أعاينهم مصابون بأمراض جلدية بسبب الحر الشديد وظروف الخيام ونقص النظافة والاستحمام. حتى أن الجرب أصاب أطفالًا لم تتجاوز أعمارهم ثلاثة أو أربعة أشهر".
وبحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن عدد الولادات في النصف الأول من عام 2025 بلغ 17 ألف حالة، مع 220 حالة ولادة ميتة، وهي نسبة تفوق بـ20 مرة مثيلتها قبل الحرب، مؤكدًا أن 33% من الولادات مهددة بسبب الخداج أو نقص الوزن أو الحاجة إلى العناية المركزة.
من هنا، وصفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" الوضع في غزة بأنه "ولادة طفل إلى الجحيم"، بسبب نقص الخدمات والرعاية.