"شقة للبيع" مفرغة بدون جدران، محروقة، بأعمدة مائلة، في برج قصفت طوابقه العلوية، هي عروض لبيع العقارات في غزة. حيث يشهد هذا السوق حركة "جيدة" كما يصفها السماسرة، نجمت عن الحاجة الملحة للمأوى في ظل تدمير أكثر من 90% من منازل السكان في مدينة غزة، والمسح الكلي لمدن أخرى مثل رفح أو بيت حانون وجباليا وغيرها.
ما قد يبدو غريبًا، أن تلك العروض تحظى بطلب كبير لانخفاض سعرها بما يتناسب مع جيوب الغزيين المنهكة اقتصاديًا. فالشخص الذي يملك مبلغًا محددًا، ومن المفترض أن يخاف من استثمار كل ما يملك في شقة، يقدم على "مغامرة محسوبة" من أجل النجاة بمأوى ملكًا لا يضطر بعده لدفع إيجار باهظ. وهناك البائع الذي يريد أن يبيع من أجل أن يقتات أو يسافر ويخشى بيع عقاره الذي سيرتفع سعره في حال وقعت الهدنة. ورغم هذا وذاك، تبقى حركة بيع العقارات مستمرة في ظل الحرب.
خلقت الحرب تفضيلات لمناطق سكنية بعينها في غزة، المشترك بين هذه الأماكن أنها بعيدة عن الاجتياح الإسرائيلي وأوامر النزوح إلى حد ما
عندما يصبح الركام حلمًا
في صفحات متعددة، تشترك في كونها تخص تجارة العقارات، نشر المواطن الأربعيني أحمد أبو شعبان إعلانًا لبيع شقته الكائنة في حي تل الهوى، غرب غزة. اللافت في الصور المرفقة مع إعلان البيع أنها تعرضت للقصف ويوجد بها أضرار من الحرب.
يقول أحمد، الذي يتلقى ما يقارب العشرة اتصالات يوميًا، إنه حرص على أن يكون واضحًا في إعلان البيع تجنبًا لأي خداع مع المشترين. في هذه اللحظة يقترب أبو شعبان من بيع شقته، لكنه يخبرنا أن عملية البيع واجهت معضلة أساسية تتعلق بآلية الدفع، إذ تتضمن أغلب الطلبات الدفع عبر التطبيق البنكي وجزءًا من المبلغ نقدًا. لكن أكثر ما كان يستفز أبو شعبان هو التبخيس الكبير في الثمن، يقول: "تأتي الطلبات بأسعار أقل بكثير من السعر المطلوب والطبيعي. قد تكون تكلفة بناء الشقة 40 أو 45 ألف دولار، فيُعرض عليّ 20 ألفًا أو 13 ألفًا أو 17 ألفًا، مما يضعني في دوامة صعبة".
يحدثنا أبو شعبان عن دوافع بيع شقته التي لا يملك غيرها، فيقول إنه وصل إلى وضع اقتصادي صعب جدًا، وقد قرر وعائلته البيع في ظل هذا الغلاء الفاحش وارتفاع أسعار السلع الأساسية في غزة. وواصل الحديث: "قررت بيع المنزل لأن ظروف المعيشة أصبحت لا تُطاق. أفضل أن أعيش في خيمة وأمتلك مالًا أؤمّن به طعامي وشرابي، على أن أبقى في بيتي ولا أجد ما آكله".
رهان على الحياة
خلال الشهر الأول من الحرب، اضطرت السيدة ريما (35 عامًا) للنزوح مع عائلتها من غزة نحو جنوب القطاع، وهناك تلقت خبر تدمير شقتها الواقعة في برج العودة بمنطقة تل الهوى، وكان الخبر صادمًا ومأسويًا. لكنها استسلمت للقضاء.
عادت ريما إلى مدينة غزة في يناير/كانون الثاني الماضي، عندما سمح اتفاق وقف إطلاق النار بعودة أهل الشمال، سكنت في بيت أهلها حتى تدبر أمور أسرتها الصغيرة. بيد أنه قبل نحو الشهر، اضطرت ريما للنزوح مع أهلها من بيتهم في حي التفاح، شرق غزة، حيث قررت قوات الاحتلال اجتياح الحي، وسرعان ما كان منزل العائلة ضمن المنازل التي دُمرت كليًا في هذا الحي.
في هذه اللحظات، تعيش ريما حالة قاسية مع مجموعة من عائلات الأقارب، حال جعلها تفكر بشراء شقة متواضعة للخلاص من هذا الوضع. تقول ريما: "أملك ثمن شقة متواضعة، لكني متخوفة من الإقدام على خطوة، وكل من حولي ينصح زوجي أن ننتظر حتى تتوقف الحرب".
في النهاية، كانت ريما ضمن من قرر الشراء هربًا من الإيجارات المرتفعة جدًا، إذ قد يصل إيجار شقة متواضعة إلى 600 دولار كاش و1000 دولار عبر التطبيق، تقول ريما: "نصحت زوجي بدلًا من دفع هذه المبالغ في الإيجار دون الشعور بالاستقرار، لنتوكل على الله ونشترِ بيتًا ملكًا لنا، وليحدث ما يحدث".
استثمارات تتحدى المستحيل
قبل الحرب، كانت السيدة هيا يونس تعمل في مجال التسويق الإلكتروني، لكنها انتقلت خلال الحرب للعمل كوسيط إلكتروني في تجارة العقارات، وهي تصف قرارها بأنه جيد وحققت فيه نجاحًا لم تتوقعه.
في لحظات حوارنا معها، كانت يونس تنتظر أن تتم صفقة بيع شقة بالقرب من "كيرفور" الشهير بغزة، ومن مميزاتها أنها بسعر 35 ألف دولار، وأصحابها يقبلون الدفع "بالتطبيق البنكي". المشتري هذه المرة هو تاجر، فحسب ما تخبرنا هيا، أن التجار هم الفئة الأكبر من المشترين حاليًا.
توضح هيا أن دوافع التجار لشراء العقارات الآن تتعلق باقتناص الفرص من أجل تحقيق عائد ربح أكبر من السابق، فأي تاجر يشتري شقة "لقطة" بسعر منخفض، لنقل 60 ألف دولار، هو يتوقع بمجرد أن تحدث هدنة أن يبيعها بسعر لا يقل عن 70 ألفًا.
بطبيعة الحال، خلقت الحرب تفضيلات لمناطق سكنية بعينها في غزة، المشترك بين هذه الأماكن أنها بعيدة عن الاجتياح الإسرائيلي وأوامر النزوح إلى حد ما. وعلى هذا تؤكد تجربة هيا التي قالت لـ"الترا فلسطين": "هناك مناطق مرغوبة أكثر من غيرها، مثل بداية شارع الجلاء ومنطقة السرايا والرمال. الطلب على هذه المناطق كبير. ومؤخرًا، بدأ الناس يهتمون بالشراء في حي تل الهوى".
لدي المشترين تفضيلات أخرى مرتبطة أيضًا بظروف الحرب، فهم يفضلون المناطق التي لم تتعرض لدمار كبير. فكما تقول هيا: "المشتري يسأل دائمًا: 'هل محيط الشقة مدمر؟' الغالبية لا تفضل السكن بجوار الدمار، وكذلك لا يحبذون الطوابق المرتفعة حيث لا توجد مصاعد تعمل بسبب أزمة الوقود، وكذلك الشقق التي تتواجد في أبراج بعض طوابقها مدمرة، كون المشتري يشعر بالخوف". وأردفت: "رغم هذا الوضع، يخلق صعوبة كبيرة في البيع، إلا أنه قد يغري محدودي الدخل للشراء بسبب انخفاض السعر عن السوق".
أما عن صعوبات بيع العقارات، فتكشف يونس أنها تتعلق بما يعرف بـ"الشقق العظم"، وهي شقق تباع لكن بصعوبة وبسعر منخفض جدًا، "بتراب الفلوس" كما تقول. وتضيف: "الناس قد يشترونها ليقيموا فيها بشكل مؤقت بدلًا من الخيام، خاصة إذا كانت في موقع جيد، لكن بيعها يتطلب وقتًا وجهدًا".
شقق محروقة تجد مشترين
تحدثنا إلى سمسار العقارات "أبو رامز"، الذي يملك "مكتب الأمل للعقارات" في حي الرمال وسط مدينة غزة، يعدد أسباب وجود طلب وعرض على سوق العقارات بغزة. فيقول إن أول الأسباب تتعلق برغبة البائع بالسفر، ثم تأتي التجارة في المرتبة الثانية، إذ أن العديد من التجار يشترون الآن بهدف بيع العقار لاحقًا بربح أعلى، وكذلك هناك من يشتري للحصول على مأوى بعد فقدان منزله، فأي مأوى أفضل من الخيام والظروف الصعبة فيها.
ويقول أبو رامز: "الناس يعتبرون أن سقف باطون أفضل من سقف الخيمة، يشترون شققًا متضررة من القصف بأسعار أرخص، ثم يقومون بتغطيتها بألواح 'الزينكو' أو الشوادر لتسيير أمورهم، وعلى أمل الحصول على تعويض بعد الحرب".
قارن أبو رامز بين أسعار العقارات قبل وبعد الحرب، فقال إنه قبل الحرب كانت الأسعار "نار"، ولم يكن أحد يتوقع أن تنخفض الآن مع الحرب بأكثر من 30-35%. ويوضح: "الأسعار حاليًا تعتمد على عدة عوامل، أهمها الموقع، جودة البناء، حالة العقار (سواء به أضرار أم لا)، مستوى التشطيب، وهل يحتوي على أثاث أم لا". ويواصل الحديث: "الناس تفضل المواقع داخل المدينة، مثل منطقة النصر، والمناطق التي تعتبر بعيدة عن مناطق التوغل والعمليات العسكرية". وحول آلية الدفع، علق أبو رامز أن السائد هو "التطبيق البنكي"، الذي تتم به أغلب الصفقات مع جزء صغير فقط من النقد (كاش).
يخبرنا أبو رامز أن أغلب الشقق المتوفرة الآن على قائمة البيع لديه هي شقق جديدة ومفرغة، أما الشقق القديمة فالطلب عليها قليل جدًا. واستأنف: "الطلب على الشقق القديمة قليل لأنها تحتاج إلى تكاليف ترميم باهظة، خاصة مع الارتفاع الجنوني في أسعار مواد البناء. على سبيل المثال، سعر 'البلوك' الواحد يصل إلى 20 شيكلًا، والجدار الصغير قد يحتاج إلى 1000 'بلوك' على الأقل".