في أحد المخيمات المكتظة وسط مدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، يعيش الحاج عادل عوّاد (66 عامًا) على وقع ألمٍ دائم في فكه العلوي، بعد أن تحطّم طقم أسنانه جرّاء إصابته بشظية خلال قصف في نيسان/أبريل الماضي. ومنذ ذلك اليوم، لم يتمكن من إصلاحه أو استبداله، وسط ارتفاع جنوني في الأسعار وشحّ شديد في المواد اللازمة لصناعة الأسنان.
يقول الحاج عادل لـ"الترا فلسطين": "زرت خلال الفترة الماضية خمس عيادات أسنان في مدينة خانيونس… في كل مرة نفس الجواب: ما في مواد، ما في قالب، وحتى لو توفّر شيء فسعره خيالي وجنوني". ,تكلفة تركيب خمسة أسنان حاليًا تصل إلى نحو 3000 شيكل (حوالي 1000 دولار)، وهو مبلغ يعجز عن دفعه في ظل الظروف المعيشية القاسية التي يعاني منها سكان غزة.
الطفلة صبا أبو ندى، ذات التسعة أعوام، تعيش في خيمة متواضعة بمنطقة المواصي في خانيونس، تحتضن خدّها المتورّم بكفّ مرتجفة، تحاول كتم أنينها، لكن دموعها تسبقها، فيما يضرب ألم ضرسها المسوّس كطبول الحرب في رأسها
لم يعد الحاج عادل قادرًا اليوم على مضغ الخبز أو شرب الشاي الساخن. يقتصر غذاؤه على الطعام المهروس، وكلامه بات يخرج بصعوبة. أمّا الضحك، فقد غادر ملامحه، وأصبح ترفًا بعيد المنال. يقول بأسى: "من يوم ما انكسرت أسناني، والدنيا سكّرت بوجهي... ما ضل غير الألم والصبر".
مثل الحاج عادل، يعاني مئات المرضى من تسوّس حاد، أو أسنان مكسورة، أو لثة ملتهبة، أو أطقم مفقودة، لكنهم لا يجدون علاجًا بسبب شحّ المواد اللازمة لصناعة الأسنان، نتيجة منع الاحتلال إدخال المواد الأساسية لصناعة الأسنان منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تحت ذريعة "الاستخدام المزدوج"، وارتفاع أسعار ما تبقى منها في السوق السوداء، وتوقف معامل صناعة الأسنان بشكل شبه كامل.
صرخات بلا صوت
قصة الطفلة صبا أبو ندى، ذات التسعة أعوام، لا تقلّ ألمًا. في خيمة متواضعة بمنطقة المواصي في خانيونس، تحتضن خدّها المتورّم بكفّ مرتجفة، تحاول كتم أنينها، لكن دموعها تسبقها، فيما يضرب ألم ضرسها المسوّس كطبول الحرب في رأسها. صبا تعاني من تسوّس حاد في أحد أضراسها، يمنعها من النوم والأكل، ويزيده الليل قسوةً ووحشة. لا تنام صبا، ولا ينام معها قلب أمها. يسمع الجيران صراخها من خلف قماش خيمتها، لكن لا أحد يملك شيئًا سوى التعاطف.
أما أمها تبحث يوميًا عن عيادة مفتوحة، أو عن مسكّن بسيط، أو حتى وصفة شعبية تخفّف الألم، ولكن انقطاع المواد الطبية الأساسية، والارتفاع الجنوني في الأسعار بسبب الحصار والحرب، جعلا من العلاج أمنية صعبة المنال. "كل مرة كنا نأجّل علاجها لبعد الهدوء... واليوم لا بنج، لا حشوة، ولا أدوات. حتى الأطباء مش قادرين يشتغلوا"، تقول الأم. واضطرت العائلة أخيرًا إلى دفع مبلغ مرتفع مقابل حشوة مؤقتة بجودة متدنية، فقط لتتمكّن الطفلة من تناول الطعام دون بكاء.
صناعة تتآكل
تامر المصري، فني أسنان وصاحب معمل "النجمة للأسنان"، يؤكد أن قطاع صناعة الأسنان في غزة يواجه شللاً شبه كامل، نتيجة الحرب المستمرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023. يقول المصري لـ"الترا فلسطين": "نواجه نقصًا حادًا في المواد الخام مثل الأكريليك، والزيركون، والشمع، والجبس. الأجهزة متوقفة، المعامل دُمّرت، والكهرباء مقطوعة باستمرار"، مشيرًا إلى أن الاحتلال يمنع إدخال المواد الأساسية لصناعة الأسنان بذريعة "الاستخدام المزدوج"، ما تسبب بارتفاع أسعارها إلى 3-4 أضعاف، في حين لا توجد بدائل محلية آمنة.
يشدد على أن المواد التي تنفد من السوق لا يمكن تعويضها ولا تتوفر بدائل لها، كما أُجبر الفنيون على استخدام مواد مؤقتة لحشو الأسنان، فقط لتخفيف الألم. ويشرح أن عمل معامل الأسنان يعتمد على أجهزة حساسة تتطلب طاقة كهربائية عالية، مثل أفران الصهر، وأجهزة التعقيم، والتلميع، والطباعة الدقيقة، والضغط الحراري، حيث أصبحت غير قابلة للاستخدام المنتظم، بسبب انقطاع الكهرباء وندرة الوقود والغاز. "تحولنا للطاقة الشمسية، لكنها لا تغطي احتياجات الأجهزة الثقيلة، خاصة في الشتاء. تتعطل باستمرار"، يضيف المصري.

ويؤكد المصري أن صناعة الأسنان تمر بسلسلة من المراحل الدقيقة، تبدأ بأخذ الطبعة باستخدام مادة الألجينات، ثم الانتقال إلى مراحل الجبس، والشمع، والمعادن أو الأكريليك، وصولًا إلى الصب والتلميع. وتتطلب كل مرحلة منها بيئة منفصلة لضمان دقة وجودة التركيبات السنية، إلا أن ضيق المساحة في المعامل المؤقتة يعيق تحقيق ذلك، خاصة بعد اضطراره إلى مغادرة معمله السابق القريب من مستشفى ناصر في مدينة خانيونس، وافتتاح معمل جديد في خيمة صغيرة بمنطقة المواصي، مشيرًا إلى أنه لجأ إلى تقسيم العمل في الأقسام المختلفة وفق جدول زمني محدد، تفاديًا لتداخل المهام وتأثير بعضها على بعض.
قبل الحرب، كانت تكلفة تاج البورسلان 250 شيكلًا، أما اليوم فوصلت إلى 450 شيكلًا، بينما تضاعفت تكلفة السن المؤقت من 50 إلى 100 شيكل، وسن الزيركون من 400 إلى 650 شيكلًا، وفق المصري. يوضح المصري أن المعامل تعاني من نقص حاد في الكوادر الفنية بسبب النزوح والسفر، مما تسبب بتراجع الإنتاج وازدياد الضغط على من تبقى من الفنيين، في وقت يشهد فيه القطاع طلبًا متزايدًا بشكل لافت على التركيبات السنية والأطقم الصناعية بفعل الاستهداف المباشر والممنهج من قبل الاحتلال الإسرائيلي للأجزاء العلوية من جسم الإنسان، لا سيما الوجه والفك والرأس، على الرغم من شح المواد المستخدمة وارتفاع أسعارها.
تواجه معامل الأسنان في قطاع غزة أزمة غير مسبوقة نتيجة الحرب المتواصلة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والتي تسببت في شلل شبه تام للبنية التحتية الصحية، وتزايد الطلب على الخدمات الطبية للأسنان، خاصة بعد أن دُمّرت عشرات العيادات ومعامل الأسنان، في وقت تقلّص فيه إمداد المعامل بالمستلزمات الحيوية إلى الصفر تقريبًا، ومع غياب البدائل، اضطر عدد من المعامل لإغلاق أبوابها بشكل جزئي أو كلي، تاركين المرضى بلا رعاية، والمعدات بلا جدوى.
شبح الحرب يخيم على المهنة
في أحد معامل صناعة الأسنان في مواصي مدينة خانيونس جنوب القطاع، يجلس أحمد السطري حول طاولة مليئة بقوالب أسنان غير مكتملة، يحاول فني الأسنان استكمال العمل، لكن فرن الصهر متوقف عن العمل، بسبب عطل في جهاز الطاقة البديلة، الذي أصبح بديلًا عن الكهرباء المقطوعة منذ عامين في قطاع غزة، في مشهد يلخّص حجم المعاناة التي يعيشها قطاع معامل الأسنان في غزة مع اشتداد الحرب.
ويقول لـ"الترا فلسطين" بنبرة يغلب عليها القهر، بعد أن استأنف معمله العمل قبل شهرين فقط، عقب توقف دام نحو عامين: "في كثير من الأحيان، نتوقف عن العمل بسبب الأعطال المتكررة في الأجهزة والمعدات، نظرًا لحساسيتها الشديدة، فضلًا عن الأعطال التي تطال أنظمة الطاقة البديلة، والتي لم تعد قادرة على تشغيل المعدات الأساسية كأجهزة التعقيم، وأدوات الحفر والطباعة السنية. كما أن شح المواد المستخدمة في صناعة الأسنان يؤثر بشكل مباشر على جودة وكفاءة العمل".

يُبيّن السطري أن وضعهم لا يختلف عن بقية المعامل، إذ يواجهون المعيقات نفسها؛ فالمواد الأساسية اللازمة للإنتاج لم تعد تصل، ولا تتوفر بدائل محلية يمكن الاعتماد عليها. حتى أدوات التلميع، والسنفرة، ولاصق المعادن، وأصباغ اللثة والأسنان، بل وحتى القطن المعقّم، جميعها أصبحت نادرة أو معدومة.
ويشير إلى أن سعر كيلو غاز الطهي، وهو عنصر أساسي في مراحل تصنيع الأسنان، قد بلغ 450 شيكلًا (نحو 130 دولارًا)، في حين أن غاز الأوكسجين المستخدم في صهر الشمع وصب المعادن لم يعد متاحًا، حتى في المستشفيات. يقول فني الأسنان السطري: "كان لدينا معمل يخدم يوميًا عشرات المرضى، كنا نصنع التركيبات والجسور والأسنان الصناعية بجودة عالية وفي وقت مناسب... أمّا اليوم، فقد تغيّر كل شيء، بالكاد نتمكن من إنجاز طقم واحد يوميًا".
ويضيف: "نعيش حالة من الشلل المهني الحقيقي... نضطر للاعتذار من المرضى لأننا ببساطة لا نملك المواد اللازمة. تكلفة التركيبات ارتفعت بنسبة 300%، ما دفع كثيرين إلى التوقف عن العلاج تمامًا". ويشير السطري إلى أنهم يعملون حاليًا بالإمكانات المتاحة، ويبذلون جهدهم للحفاظ على الابتسامات رغم أجواء الحرب، لكنه يؤكد في الوقت ذاته الحاجة الملحّة لإدخال المواد الأساسية، وتوفير الدعم للقطاع الطبي عمومًا، ولطب الأسنان على وجه الخصوص.