بيسان

ولادة على حافة الموت: النساء الحوامل في غزة ضحايا التجويع ونقص الرعاية

المصدر تقارير
ولادة على حافة الموت: النساء الحوامل في غزة ضحايا التجويع ونقص الرعاية
سفيان نايف الشوربجي

سفيان نايف الشوربجي

صحفي فلسطيني مستقل من قطاع غزة، مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي، حاصل على درجة...

في قلب قطاع غزة المحاصر، تخوض آلاف النساء الحوامل معركة صامتة من أجل الحياة، تتقاسم فيها الأمهات القلق والحسرة يوميًا. فقد حوّل الحصار ونقص الغذاء والدواء حلم الولادة الآمنة إلى أمنية بعيدة المنال؛ فهناك من فقدت جنينها جوعًا، وأخرى تخشى فقدانه في أي لحظة بفعل غياب الرعاية الطبية الأساسية وصمت الثلاجات الفارغة من الأدوية.

وبين جدران البيوت وأروقة المستشفيات، تتوالى قصص الفقد: أجنّة لم ترَ النور، ومواليد انتُزعت أنفاسهم الأولى قبل أن تبدأ حياتهم، بينما تتساقط أحلام الأمهات على عتبة واقع يزداد قسوة يومًا بعد آخر.

مدير مستشفى الأطفال في مجمع ناصر الطبي، أحمد الفرا، لـ"الترا فلسطين": الأشهر الأخيرة شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات وفيات الأجنة والمواليد نتيجة ضعف التغذية أو التأخر في الوصول إلى المستشفيات

في خيمة صغيرة وسط مخيمات الإيواء المكتظة في منطقة المواصي جنوب قطاع غزة، تجلس ريهام عياد، واضعة يدها المرتجفة على بطنها الخالي، بعد أن فقدت جنينها في شهرها الثامن نتيجة الحصار الخانق ونقص الرعاية الطبية، في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

تقول الأم، التي لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، بصوت يختنق بالدموع والألم: "كنت أحلم بطفل أضمه إلى صدري، ليملأ علينا حياتنا فرحًا، ويكون سندًا لشقيقته الصغيرة مي بعد أن فقدنا كل شيء… لكن الحرب حرمتني حتى من أن أسمع صرخته الأولى".

تمسح ريهام بقايا دموعها بيد نحيلة، وتتابع: "وجباتي اليومية لم تكن تتعدى الخبز والماء، وأحيانًا القليل من الأرز إن وُجد؛ لا حليب، لا فيتامينات، لا شيء… جسدي كان يضعف يومًا بعد يوم".

موت بطيء

في زاوية الخيمة تحتفظ ريهام بعلبة "فولك أسد" منتهية الصلاحية منذ أشهر، شاهدة على موت بطيء في زمن الحصار. ومع غياب الرعاية الطبية اللازمة وازدحام المستشفيات بالجرحى، كانت مواعيد متابعة الحمل تُؤجَّل لأيام وأسابيع، فيما ظل الأمل يتآكل بصمت.

ورغم أن المؤشرات الطبية بدت مطمئنة في بداية الحمل، إلا أن الصدمة الكبرى وقعت قبل دخول ريهام شهرها التاسع بخمسة أيام، حين أبلغها الأطباء بتوقف نبض الطفل في أحشائها.

قبل أسبوع من الفاجعة كانت تشعر بدوخة متكررة، وهبوطًا حادًا في ضغط الدم، وآلام بطن لا تتوقف. حاول زوجها إدخالها إلى عيادة متنقلة، لكن الأطباء اكتفوا بالقول: "ليس لدينا مكملات غذائية أو محاليل أو أدوية للحمل، فقط الراحة".

وفي ليلة هادئة على غير العادة استيقظت ريهام على نزيف حاد وانخفاض خطير في ضغط الدم. حاول زوجها نقلها إلى المستشفى، لكن تأخر الوقت وانعدام وسائل المواصلات واشتداد الألم حالوا دون ذلك. وبعد ساعات طويلة من المعاناة أسقطت جنينها في المنزل، بلا طبيب ولا قابلة؛ فقط الألم والدم والخذلان، وهي تعاني من سوء تغذية حاد، محرومة من أي علاج أو رعاية منذ أسابيع.

لم يمت الجنين بسبب قصف مباشر، بل نتيجة حصار متعمد ونظام صحي منهك ونقص الدواء والكوادر، وجسد أنهكه الجوع حتى عجز عن حمل الحياة. تنظر ريهام إلى الفراغ بعينين غائرتين، تحتضن دفترًا صغيرًا كتبت فيه أسماء محتملة لطفلها المنتظر… لكنها تدرك أن الطفل لن يأتي.

تقول بحرقة: "ما زالت ملابس طفلي مرتبة كما هي، في انتظار من لن يأتي. كنت أتمنى أن أسمع صوت حياة جديدة، في مكان لا يعلو فيه سوى صوت القصف والموت".

خوف وترقب مصير مجهول

في مدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء غرب خانيونس تجلس دعاء مسلم، الحامل في شهرها السابع، ويدها على بطنها تحاول حماية جنينها من خطر الموت نتيجة نقص الفيتامينات والحديد وسوء التغذية في ظل غياب الغذاء الصحي والدواء.

وجهها شاحب ونظراتها شاردة، وتقول بصوت مرتجف: "كل ليلة أنام خائفة ألا يستيقظ معي… أن يتوقف قلبه من الجوع. مع الفجر أتحسّس بطني لأطمئن أنه ما زال حيًّا. خوفي الأكبر أن أفقده في أي لحظة".

منذ بداية حملها وجدت دعاء نفسها في ظروف قاسية، لكنها تقاوم لحماية نفسها وجنينها. تقول: "معركتي اليومية هي تأمين الطعام، لكن ما نحصل عليه لا يكفي الحامل. غالبًا يضطر زوجي للسير مسافات طويلة بحثًا عن فيتامين أو طعام مغذٍّ، لكنه يعود خالي اليدين، إما لعدم توفره أو لعدم قدرتنا على شرائه. أحيانًا نأكل معلبات غير صحية، ونستنشق هواءً ملوثًا بالقصف، ما يزيد مخاطر المرض".

تضيف: "أحتاج للطعام لأتمكن من الحركة، لكنني أشعر بالوهن. سوء التغذية يهدد حياتي وحياة الجنين، وقد يؤدي إلى الإجهاض. منذ أكثر من خمسة أشهر لم أتناول الحليب أو البيض أو الخضار أو الفواكه. أجرت فحوصات للاطمئنان على الجنين، لكن القلق لا يفارقني بسبب إصابتي بفقر الدم".

وتكمل: "أخشى أن يولد طفلي مريضًا أو ناقص النمو. أشعر بالذنب وكأني ظلمت جنيني. لحظة الولادة ترعبني؛ لا حضانات ولا أدوية ولا مستلزمات أساسية كالحليب أو الحفاضات".

إحدى الليالي كانت الأسوأ، حين توقفت حركة الجنين لساعات. بكت واتصلت بالإسعاف، فجاء الرد: "السيارات لا تصل لمراكز الإيواء… والمستشفيات مكتظة أو مغلقة بسبب القصف".

تحاول دعاء يوميًا التواصل مع جنينها وتهمس: "أرجوك اصمد… ما لي غيرك." لكن صوت الطائرات غالبًا ما يغطي همساتها. دعاء واحدة من آلاف الحوامل في غزة اللواتي يخضن رحلة الحمل وسط حصار خانق ونزوح وسوء تغذية وانهيار صحي كامل.

تشير تقارير طبية إلى أنّ معدلات فقر الدم بين الحوامل في غزة تجاوزت 70%، فيما تفتقر المستشفيات إلى المكملات الغذائية والأدوية الأساسية اللازمة لإنقاذ حياة الأمهات وأطفالهن.

بحسب بيانات وزارة الصحة في غزة أكثر من 60% من النساء الحوامل في القطاع لا يحصلن على الرعاية الأساسية، وسط توقف معظم أقسام الولادة ونقص حاد في الأدوية والمكملات. كما تفيد منظمات إنسانية بأن حالات الإجهاض والولادة المبكرة ارتفعت بنسبة غير مسبوقة منذ بدء الحرب.

ارتفاع ملحوظ

يؤكد مدير مستشفى الأطفال في مجمع ناصر الطبي، الدكتور أحمد الفرا، أن معظم النساء الحوامل في قطاع غزة يعانين من سوء التغذية ونقص الغذاء المناسب، مشيرًا إلى أن العديد منهن يصلن إلى المستشفى في حالة إعياء شديد نتيجة نقص الفيتامينات والبروتينات، وأن الطواقم الطبية تتعامل يوميًا مع حالات تحتاج إلى رعاية عاجلة في ظل إمكانيات صحية شديدة المحدودية.

ويقول الفرا لـ"الترا فلسطين"، إن الأشهر الأخيرة شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات وفيات الأجنة والمواليد نتيجة ضعف التغذية أو التأخر في الوصول إلى المستشفيات، مبينًا أن بعض الأجنة تفقد حياتها في رحم الأم، بينما يموت بعض المواليد خلال الساعات الأولى من حياتهم لعدم توفر الحضانات أو الأدوية المنقذة للحياة. ويضيف: "من بين الحالات المسجلة أيضًا الإجهاض المبكر، وولادة أطفال قبل الأوان بوزن منخفض أو بوجود تشوهات خلقية".

ويلفت إلى أن الوزن الطبيعي للمواليد قبل الحرب كان يتراوح بين 5.2 إلى 5.3 كيلوجرام، أما اليوم فأصبح الوزن بين 5.1 إلى 5.2 كيلوجرام فقط.

ويشير إلى أن معاناة الأم تبدأ منذ لحظة الحمل، إذ غالبًا ما تفتقر إلى التغذية السليمة والمكملات الأساسية، مما يؤدي بمرور الوقت إلى ضعف عام وهزال وصداع مزمن، مؤكدًا أن النقص الشديد في هذه المكملات، وبخاصة حمض الفوليك ومكملات الحديد، انعكس سلبًا على تكوين الجهاز العصبي للجنين، متسببًا في ارتفاع ملحوظ بمعدلات التشوهات الدماغية خلال الفترة الأخيرة.

ويبيّن الفرا أن الأطفال الخُدّج، أو المولودين بوزن منخفض، يعانون أيضًا من نقص في المناعة وعدم اكتمال الجهاز التنفسي، ما يجعلهم أكثر عرضة لمشكلات صحية خطيرة مثل ضعف النمو وزيادة خطر الإصابة بالعدوى والتهابات الدم واضطرابات هضمية قد تتطور إلى التهابات شديدة في الأمعاء، خاصة في ظل انعدام توفر الحليب الطبي المخصص لهم.

وأضاف أن عمل حضانات الأطفال يزداد صعوبة مع انقطاع الكهرباء ونقص الوقود لتشغيل المولدات، حيث إن انقطاع التيار ولو للحظات يهدد حياة أي طفل يعتمد على أجهزة التنفس الصناعي، مشيرًا إلى أن المستشفى يضطر أحيانًا لإيقاف التبريد المركزي لتوفير الطاقة، مما يتسبب في اضطراب درجات الحرارة داخل الحضانات، فضلًا عن اعتماد معظم الأجهزة الطبية على الكهرباء، بما في ذلك الأجهزة التي تُعطى من خلالها الأدوية.

يوضح أن نقص الأدوية الأساسية ينعكس بشكل خطير على عمليات الولادة، وخاصة الولادات المعقّدة التي تُجرى أحيانًا بإمكانيات محدودة لا تضمن سلامة الأم أو الجنين. وتزداد الخطورة في حالات الحوامل المصابات بمرض السكري اللواتي يحتجن إلى تدخل جراحي في ظل غياب الأنسولين اللازم لضبط مستويات السكر في الدم. كما يشمل النقص الحاد أدوية الأمراض المزمنة الخاصة بالحوامل والمضادات الحيوية للأطفال، إضافة إلى شح مزارع الدم وندرة مواد التعقيم والمطهرات.

وأفاد صندوق الأمم المتحدة للسكان أن الحوامل في غزة يعانين الجوع والخوف، ويضطررن إلى الولادة في ظروف غير إنسانية، حيث تُصنَّف حالة حمل واحدة من كل ثلاث على أنها عالية الخطورة، ويولد طفل من كل خمسة مبكرًا أو بوزن ناقص، فيما يعاني 40% من الحوامل والمرضعات من سوء تغذية حاد.

وأكدت منظمة أطباء بلا حدود أن 25% من الأطفال والحوامل يعانون من سوء التغذية نتيجة سياسة تجويع متعمدة، بينما حذر المكتب الإعلامي الحكومي من خطر الموت البطيء الذي يهدد أكثر من 40 ألف رضيع بسبب منع إدخال حليب الأطفال.

وتشير إحصاءات النصف الأول من 2025 إلى 17 ألف حالة ولادة، بينها 2,600 وفاة لأجنة ومواليد، و220 وفاة أثناء الحمل، و21 وفاة في اليوم الأول، إضافة إلى 1,600 مولود ناقص الوزن، و2,535 طفلًا أدخلوا الحضانة، و1,460 ولادة مبكرة، و67 حالة تشوّه خلقي.