بيسان

"غذاؤنا من أيدينا".. كيف تحارب الأسر في غزة بأسلحة من طين وبذور؟

المصدر تقارير
"غذاؤنا من أيدينا".. كيف تحارب الأسر في غزة بأسلحة من طين وبذور؟
ميرفت عوف

ميرفت عوف

صحفية من فلسطين

بجوار لافتة صغيرة كتب عليها "خيمتي خضراء"، يلتف جمعٌ من النساء والأطفال أمام خيمة النازحة الفلسطينية آية نبهان، الكائنة في مخيم البريج وسط قطاع غزة، والتي حُوِّطت بزرعٍ من الخضروات الموسمية، قامت عليه آية وعائلتها. اقتطعت تلك النسوة وقتًا من يومهن المتعب في الخيام، كي يتعلمن الزراعة المنزلية في ظل أزمة مجاعة خانقة تحاصر كافة سكان قطاع غزة، ووصلت إلى أوجها بعد مرور ما يقارب العام والعشرة أشهر على حرب الإبادة، وفي محاولة فردية لتخفيف منها.

في منتصف هذا العام، انطلقت مبادرة "غذاؤنا من أيدينا" برعاية منسق المبادرة أستاذ علم الأحياء الدقيقة في الجامعة الإسلامية عبد الرؤوف المناعمة، الذي أسس المبادرة مع نخبة من الخبراء والمختصين في المجال الزراعي والأمن الغذائي

وقد أقيم هذا النشاط بجهود من القائمين على مبادرة "غذاؤنا من أيدينا"، وبهدف دعم الأمن الغذائي داخل مراكز الإيواء، حيث استُهدفت النساء والأطفال على وجه التحديد، بهدف تمكينهن من الزراعة وتوعيتهن حول أهمية الزراعة وكيفية استخدام البذور والمبيدات.

وتُعد مبادرة "غذاؤنا من أيدينا" واحدة من مجموعة المبادرات الزراعية التي نشأت مع استمرار حرب الإبادة وضروب المجاعة، حيث انطلق هؤلاء المبادرون في محاولة لتوفير قوتٍ للجوعى، عملًا بحديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".

"غذاؤنا من أيدينا"

في منتصف هذا العام، انطلقت مبادرة "غذاؤنا من أيدينا" برعاية منسق المبادرة أستاذ علم الأحياء الدقيقة في الجامعة الإسلامية عبد الرؤوف المناعمة، الذي أسس المبادرة مع نخبة من الخبراء والمختصين في المجال الزراعي والأمن الغذائي، ومن بينهم الدكتور سعود الشوا، الذي يعرف المبادرة لـ"ألترا فلسطين" بالقول: "هي مشروع شعبي يسعى إلى إعادة الزراعة إلى المنازل، وتحويل كل بيت إلى مساحة إنتاج غذائي، بما يخفف من وطأة الجوع ويعزز من صمود أبناء شعبنا الفلسطيني وكرامتهم".

يخبرنا الاستشاري المشرف على مزارع الثروة الحيوانية بغزة الشوا بأن المبادرة نشأت من الحاجة الملحة والواقعية لتأمين الغذاء محليًا، بعد أن أصبح الاعتماد على الأسواق والمساعدات شبه مستحيل بسبب تدمير سلاسل الإمداد وتواصل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

ويتابع الشوا القول: "العديد من العائلات بدأت بالفعل بزراعة مساحات صغيرة في منازلها، وإنتاج أنواع بسيطة من الخضار وتربية أعداد وأنواع من الدواجن والأرانب، ما يشكل بذرة تغيير فعلي"، ويضيف: "تقوم فكرة المبادرة على مبدأ الإنتاج الذاتي، من خلال الاستفادة من المساحات الصغيرة مثل الأسطح، الساحات، الزوايا، وحتى الأواني الفارغة، لزراعة الخضروات أو تربية الدواجن والأرانب بوسائل بدائية ولكن فعالة".

وحول أهداف "غذاؤنا من أيدينا"، يعدد الشوا مجموعة منها، أبرزها: تعزيز الأمن الغذائي الذاتي، تمكين النساء والأطفال من المشاركة في الإنتاج الغذائي، إعادة إحياء ثقافة الزراعة الشعبية، تقليل الاعتماد على المساعدات، وتحسين التغذية والصحة العامة.
يفرح الشوا بكون المبادرة لاقت اهتمامًا حقيقيًا وكبيرًا من قبل الناس في غزة، وفيما كان الهدف في السابق من الزراعة المنزلية التسلية والتجميل، أصبح الهدف الأكثر إلحاحًا الآن هو توفير الغذاء، ويضيف: "عشرات المساحات الصغيرة في المنازل والخيام تُزرع الآن، تغيير فعلي، حتى أن البعض يبيع الفائض عن حاجته".

ويضعنا الشوا أمام جملة من الصعوبات التي تواجه المبادرة، ومنها شُح الموارد الأساسية مثل التربة الزراعية، والسماد، والبذور، وشح المياه الصالحة للري في مناطق كثيرة، وصعوبة التنقل بسبب استمرار القصف والإخلاء الجغرافي الإجباري، بالإضافة إلى غياب التمويل، ونقص المعرفة الزراعية لدى بعض المشاركين، وعدم وجود تطعيمات لأهم الأمراض، ونقص معظم الأدوية حاليًا.

"ازرع بيتك" لإطعام الصغار

لم تسع الفرحة قلب الغزية فايزة أبو سويرح (65 عامًا) عندما اختيرت لتكون ضمن المستفيدات من مبادرة "ازرع بيتك"، التي تقوم عليها جمعية تنمية المرأة الريفية.

حصلت أم أيمن على خزان مياه، وشبكة ري، وسماد عضوي، وبذور وأشتال البامية والباذنجان والبصل والفجل، والفلفل، واللفت، والسبانخ، لكنها كما تخبرنا: "أجلت زراعة أشتال ليس بموسمها الآن".

تخرج فايزة كل صباح من بيتها لمحيطه المزروع بمساحة 250 مترًا، تعتني بالزرع وترويه، بل من شدة خوفها على الزرع تشتري ماء عذبًا للري، رغم جواز سقيه بالماء من أرضها، تقول: "أشتري بـ40 شيقل ماء عذب من أجل ريّها، أخاف أن تموت، سأصبر حتى تكبر وتقوى الأشتال وأسقيها من الماء خاصتنا".

أعادت المبادرة فايزة، التي تُكنى بـ"أم أيمن"، إلى عالمها ما قبل الحرب، حين كانت تزرع مع عائلتها أراضٍ داخل بلدة الزوايدة الزراعية التي تقطن فيها، حيث كانت وأبناؤها يستأجرون أرضًا لزراعة موسم تلو الآخر من الخضار، تستدرك: "جاءت الحرب لتدمر كل شيء من تلك الأراضي".

وتعود أم أيمن بالذاكرة إلى الوراء، إلى ما قبل 35 عامًا، عندما كانت صبية تنهض مع الفجر للخبز على فرنها الطيني وتناول الفطور طازجًا، ثم تستعد لموعدها في السادسة صباحًا مع شاحنة النقل التي كانت تحمل ما يقارب 120 صندوقًا من خضارها إلى داخل الخط الأخضر، تقول أم أيمن: "آه على تلك الأيام.. اليوم أحلم أن أحصل على حمامٍ زراعي واحد، أو نصف حمام، ولوح طاقة صغير يساعدني على تشغيل غاطس المياه لدينا".

كلما نظرت أم أيمن إلى زرعها، دعت ربها علنًا وسرًا "يا رب نضل عايشين ونأكل منها"، فهي تعاني من الحرب والجوع لدرجة أنها قررت التوقف عن تناول دواء السكري الذي تعاني منه لأنه يزيد من شعورها بالجوع، تقول لـ"ألترا فلسطين": "بالأمس سقط حفيدي من شدة الجوع، يعاني من سوء تغذية منذ فترة، آمل أن نحصد قريبًا طعامًا من هذه الأرض لإطعام الصغار".

وأطلقت جمعية المرأة الريفية مبادرة "ازرع بيتك"، من أجل تعزيز الأمن الغذائي الفلسطيني والأسري، وزيادة اعتماد الأسر الفلسطينية على منتجات تُنتجها داخل منازلها لتخفيف الأعباء الاقتصادية.

حيث تعزز الجمعية الفلسطينية بمشاريع مدرة للدخل الحفاظ على توفير مصادر غذائية من منتجات الحديقة المنزلية، وذلك لدعم اقتصاد الأسر الأكثر هشاشة، ومساعدتهم على الصمود، والمساهمة في التخفيف من حالات العنف المبني على النوع الاجتماعي الناتج عن ضيق الأوضاع الاقتصادية والحروب والنزاعات.

قمح الشرقية

يعصّب المبادر محمد أبو رجيلة رأسه بكوفية فلسطينية، ويسير بين "ربعه" من أهل الشرقية (سكان شرق خانيونس)، ينثر بذور القمح في 100 دونم من الأرض التي عكف أهل المدينة على زراعتها منذ مئات السنوات.

كان أبو رجيلة من أوائل المبادرين الذين أقدموا على زراعة الأرض لحل أزمة الغذاء التي تزامنت مع بدء حرب غزة، وبالأخص أزمة النقص الحاد في الطحين التي عصفت بالقطاع، يقول أبو رجيلة: "المبادرة التي يقوم عليها فريق "شباب غزة" هي الأكبر من ناحية حجمها وعدد العاملين عليها والمستفيدين منها". 

ويواصل الحديث: "عندما بدأنا زراعة القمح كان ثمن كيس الطحين 20 شيقل، وعندما حل الحصاد كان سعر الكيس 1000 شيقل، كان الإنتاج كفيلًا بحل أزمة العديد من أبناء شعبنا"، ويتابع القول لـ"ألترا فلسطين": "لم ينقذنا شيء أكثر من اللجوء إلى الزراعة، إنها موروث أجدادنا الذي يجب أن نحافظ عليه".

View this post on Instagram

A post shared by محمد ابورجيلة (@aborjelaa)


فيما كانت أيام الحصاد تسير بوتيرة سريعة، قصفت قوات الاحتلال منطقة "الأوروبي" القريبة من الأرض الزراعية للمبادرة في نهاية مايو/أيار المنصرم، ويوضح أبو رجيلة: "وسط القصف كنا نحصد وغارقين في جمع سنابل القمح البلدي من مساحة 100 ألف متر مربع، وعندما وقع القصف كنا قد تمكنا من حصاد 70% من المحصول".

يتحسر أبو رجيلة على المحصول المتبقي، ويتوقع أن يكون الاحتلال قد جرف الأرض خلال اجتياحه للمنطقة، لكن ما يزال هو وفريقه مصرّين على مواصلة المبادرة مباشرة بعد خروج قوات الاحتلال من المنطقة، ويقول: "سنعود للزراعة من جديد، ونطعم الناس من أرض الشرقية كما اعتادوا".

بطبيعة الحال، واجه أبو رجيلة وفريقه مجموعة من التحديات، فواحدة من جملة الصعوبات التي مرت بها المبادرة هي إيجاد أرخص الآليات المستأجرة للحصاد، ويضيف أبو رجيلة: "تضاعف سعر البذور والمواد، وواجهنا نقصًا في المعدات الزراعية الثقيلة، مثل الجرارات والحفارات، وشبكات الري، وعانينا من نقص المختبرات الزراعية المتخصصة، لكن كان يجب علينا أن نواصل".