بيسان

قتلٌ وإذلال.. شهادات نساء في غزة على رحلة الموت من أجل الطحين

المصدر تقارير
قتلٌ وإذلال.. شهادات نساء في غزة على رحلة الموت من أجل الطحين
دعاء شاهين

دعاء شاهين

صحافية من غزة

في خيمتها الحارَّة في مواصي خان يونس، ودَّعت بثينة النجار (40 عامًا) أطفالها الأربعة، وحزمت شالها المهترئ على رأسها، وارتدت جلبابها المثقوب الذي لا تملك غيره، وحملت في يدها كيسًا، وتوجهت بأمعائها الخاوية وجسدها الهزيل تحت أزيز الطائرات الإسرائيلية إلى نقطة توزيع "مساعدات" تابعة لـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، مسكونة بأمل العودة إلى أطفالها ومعها لقمة تُنقذ بها حياة أطفالها. لكن، بعد ساعات، عادت بثينة إلى أطفالها بوجهٍ محروق وبلا طحين.

"لم يترك الجنود الأميركيون المدججون بالسلاح أمامنا مجالًا للحصول على المساعدة بشكل منظم، فقبل وصولنا للحاجز الذي توجد فيه كراتين المساعدات، بدأوا يصرخون علينا ويشتمون بألفاظ نابية، بينما النساء من شدة التعب والتجويع صرن ينهَرْن ويُصَبْن بالإغماء"

تقول بثينة: "سمعت أن جيش الاحتلال خصص يومًا لتوزيع المساعدات للنساء فقط في منطقة الشاكوش في رفح، وقلت: يمكن هالمرة رح يرحمونا، يمكن يشفقوا علينا شوي كوننا نساء وما يقتلونا، فذهبت لسد جوع أطفالي الذين يبكون ليل نهار ولا يعرفون معنى المجاعة".

فقدت بثينة زوجها في بداية حرب الإبادة، ومنذ ذلك الحين وهي تُعيل أطفالها، "والآن لا طعام، ولا مساعدات، وفوق ذلك قتلٌ ونزوح، ولذلك ذهبت إلى نقطة المساعدات لأحاول إطعام أطفالي حتى لو كلفني الأمر روحي. وطيلة الطريق كنت أمشي وأدعو الله أن لا يطلقوا علينا النار، وأن أعثر على الطحين وأعود لأطفالي بشيءٍ يطمئنهم ويسد جوعهم".

قطعت بثينة مسافة 6 كيلومترات سيرًا على أقدامها حتى وصلت نقطة توزيع المساعدات يوم الخميس 26 تموز/ يوليو، لم تكن تتوقع أن الأمر كارثي.

تروي بثينة تفاصيل ساعات ثقيلة عاشتها في ذلك اليوم المشؤوم قائلة: "فتحت نقطة التوزيع الساعة السابعة صباحًا، لم يترك الجنود الأميركيون المدججون بالسلاح أمامنا مجالًا للحصول على المساعدة بشكل منظم، فقبل وصولنا للحاجز الذي توجد فيه كراتين المساعدات، بدأوا يصرخون علينا ويشتمون بألفاظ نابية، بينما النساء من شدة التعب والتجويع صرن ينهَرْن ويُصَبْن بالإغماء".

وتضيف: "وسط الزحام خرجت طائرة كواد كابتر وبدأت تُلقي الرصاص علينا بشكلٍ عشوائيٍّ متعمد، وقام الجنود برش الفلفل الحار بيننا، فاحترق وجهي، وصرت عاجزة عن الرؤية، ورغم ذلك حاولت التقدُّم للحصول على الأقل حتى لو كيلو واحد من الطحين، لكني عجزت تمامًا".

عادت بثينة إلى أطفالها في الخيام بعد أن نجت من نقطة الموت، وفور وصولها جرى أطفالها نحوها وهم يتساءلون: "ماما جبتي خبز؟"، وتقول بثينة: "نزلت دموعي وقلت لهم: لا يا روحي، جبت وجهي محترق بس ولا كيلو طحين".

بثينة وغيرها من النساء اللواتي دفعتهن أمعاؤهنّ وأمعاء أطفالهن الخاوية إلى التوجه نحو نقاط المساعدات الأميركية الإسرائيلية، وهنّ من بين مليون امرأة وفتاة يواجهن شبح المجاعة في غزة، بحسب منظمات إنسانية تابعة للأمم المتحدة.

وبحسب وزارة الصحة في غزة، فإن إجمالي شهداء لقمة العيش ممن وصلوا المستشفيات في قطاع غزة حتى يوم الأحد 3 آب/ أغسطس بلغ 1487 شهيدًا، وأكثر من 10 آلاف و578 جريحًا.

أما فاطمة يوسف (28 عامًا)، وهي أمٌّ لخمسة أطفال ونازحة من حي الشجاعية إلى مواصي خانيونس، فقد تحوَّل بحثها عن لقمة لأطفالها إلى لحظة فاصلة بين الحياة والموت. تقول: "كنت رايحة أدوّر على طحين، على بسكوت لأطفالي، وصلت لنقطة المساعدات، وما لحقت أمد إيدي حتى سمعنا إطلاق الرصاص من قبل جنود أميركيين وإسرائيليين مثل زخ المطر، فانبطحت على الأرض، وبجانبي عشرات النساء ما بين صراخ وخوف ورعب، ممنوع أن نرفع رأسنا عاليًا وإلا سيقتلنا الرصاص العشوائي".

وتضيف فاطمة: "ما زال حتى الآن جسدي يرجف من الخوف. لا أصدق أني عدت لأولادي على قيد الحياة. أُصيبت امرأة بجانبي في بطنها وكانت تنزف، حملتها النساء لأقرب نقطة حتى جاء الإسعاف وأخذها، ولم أعرف مصيرها"، مؤكدة أن الاحتلال لا يفرّق بين امرأة وشاب وطفل في نقطة توزيع المساعدات، "فالجميع تحت الاستهداف، وحتى النساء الحوامل تعرَّضن للضرب من قبل الجيش وسط التزاحم".

وبحسب شهادة فاطمة، فإن إطلاق النيران والاستهداف لطالبات المساعدات كان منذ لحظة فتح نقطة التوزيع، حيث اجتمعت النساء للحصول على المساعدات، وبدأت الحشود بالتجمهر، فتحوَّلت النقطة إلى ساحة جحيم.

وترى فاطمة أن كل نقاط توزيع المساعدات وطرق توزيعها هي "أكبر كذبة، غرضها إهانة وإذلال كل من هو فلسطيني في غزة، وليس إغاثته".

وتؤكد فاطمة أنها لم تستفد من أي مساعدات إغاثية وصلت غزة، سواءً تلك التي يتم توزيعها في مؤسسة غزة، أو التي يتم إسقاطها في الإنزالات الجوية. وتضيف: "صندوق بينزل من السما، إما ينكسر، أو ينزل فوق راس حدا ويقتله، شفنا بنت ماتت من أجل كرتونة مساعدات نزلت عليها. هذه مش نجدة، هذه لعنة".

ويقول المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إن نقاط توزيع المساعدات في قطاع غزة "تحوَّلت إلى ساحات عنف ممنهج تُزهق فيها أرواح النساء وتُهدَر كرامتهن بدلًا من الأمان". ويؤكد أن النساء في هذه النقاط تعرَّضن إلى القتل المباشر، والتهديد المستمر، والابتزاز الممنهج، والإقصاء الكامل من أي حماية.

منهجية تفكيك مجتمع غزة

يقول الكاتب والحقوقي في مؤسسة الضمير في غزة، مصطفى إبراهيم، "إن ما تتعرض له النساء في قطاع غزة عند نقاط توزيع المساعدات ليس حدثًا عابرًا أو خطأً فرديًا، بل هو جزء من نهج استعماري ممنهج يهدف إلى ضرب النسيج المجتمعي الفلسطيني من قلبه: المرأة".

ويوضح مصطفى إبراهيم، في حديث لـ الترا فلسطين، أن "إسرائيل تدرك جيدًا أن المرأة ليست فقط من تُنجب، بل هي التي تقود وتُقاوم وتحفظ العائلة في وقت الانهيار، ولذلك، فإن استهداف النساء يتم بإصرار، ضمن سياسة منظمة لتقليص المجتمع الفلسطيني ديموغرافيًا، وضرب دوره الاجتماعي من الداخل".

ويؤكد إبراهيم أن تخصيص الاحتلال يومًا للنساء لاستلام المساعدات "لم يكن إلا غطاءً لتحسين صورته أمام العالم، لكن الواقع أظهر العكس تمامًا، فقد قُتلت النساء في الطوابير، أُذللن، ودُفعن للتزاحم في ظروف لا إنسانية، في جزء من مشهد مرعب ومقصود هدفه كيّ الوعي الفلسطيني، وتفكيك ما تبقى من كرامة الناس وصمودهم من خلال نسائهم".

مصطفى إبراهيم: ما تتعرض له النساء في قطاع غزة عند نقاط توزيع المساعدات ليس حدثًا عابرًا أو خطأً فرديًا، بل هو جزءٌ من نهج استعماري ممنهج يهدف إلى ضرب النسيج المجتمعي الفلسطيني من قلبه: المرأة

ويتابع: "المشاهد التي نراها تُشكّل إهانة جماعية لكل الفلسطينيين، خاصة في مجتمع محافظ تحظى فيه المرأة بمكانة عالية، فالاحتلال يعرف ذلك، ويستخدم إذلال النساء كوسيلة قهر استعماري".

وشدَّد مصطفى إبراهيم على أن "ما نشهده في غزة هو عنف استعماري مبني على النوع الاجتماعي، شبيه بما يجري منذ سنوات في الضفة الغربية من اعتداءات على النساء عند الحواجز، وضربهن وسحلهن، و الاعتداء عليهن داخل المعتقلات الإسرائيلية".