بيسان

مرضى السكري في غزة: حياة معلّقة بملعقة سكر وقطعة شوكولاتة

المصدر تقارير
مرضى السكري في غزة: حياة معلّقة بملعقة سكر وقطعة شوكولاتة
سفيان نايف الشوربجي

سفيان نايف الشوربجي

صحفي فلسطيني مستقل من قطاع غزة، مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي، حاصل على درجة...

في شوارع غزة التي مزّقتها الحرب، وبين أنقاض البيوت والمخيمات المتهالكة، يخوض آلاف مرضى السكري معركة صامتة من أجل البقاء. وبينما تشتد نيران الحصار والقصف، يواجهون خطرًا آخر أكثر هدوءًا، لكنه لا يقل فتكًا، يقود إلى موت بطيء يتسلل عبر نقص العلاج، فيما أصبحت الحياة معلّقة بقطعة شوكولاتة أو ملعقة سكر. لم تعد هذه الأشياء طعامًا، بل صارت وسيلة نجاة في وجه غيبوبة قاتلة، لا يسعفها دواء، ولا يُدركها العالم، ولا يسمع صرختها أحد.

ومع الارتفاع الجنوني في الأسعار، أصبحت ملعقة السكر أو قطعة الشوكولاتة، في ظل غياب البدائل، تمثل الفارق بين الحياة والموت لمريض السكري. ينهار المرضى واحدًا تلو الآخر في صمتٍ موجع، والأسوأ أن بعض عائلات المرضى، في يأسها، تلجأ إلى تحلية الماء بالملح أو الأرز المطحون في محاولات يائسة لإنقاذ أحبّائها من الغيبوبة والموت.

حذّر طبيب الصحة العامة والأسرة محمد مناع من خطورة نقص المواد الغذائية الأساسية في قطاع غزة، خصوصًا على مرضى السكري، الذين يعجزون عن ضبط مستويات السكر في الدم في ظل انعدام الأمن الغذائي

مقاومة الغيبوبة في خيمة

في مواصي مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، تجلس أم محمود عيد، امرأة ستينية، داخل خيمتها التي لم تعد تقيها حرًا ولا بردًا. منهكة رغم صبر السنين، تعاني من السكري من النوع الأول منذ سنوات، وكانت تلتزم بتناول قطعة شوكولاتة أو رشفة عصير أو بعض التمر عند الحاجة، لا للمتعة، بل كوسيلة إنقاذ من نوبات الهبوط المفاجئ.

لكن الحرب الأخيرة قلبت حياتها رأسًا على عقب. لم تعد تجد ما يُسعفها وسط عجز الأسواق وارتفاع الأسعار، وأصبح الخطر أقرب من أي وقت مضى.

لم تتلقَّ أم محمود علاجها منذ فترة بسبب انقطاع الأدوية، وهي واحدة من أكثر من 70 ألف مريض سكري في القطاع، حرمهم الاحتلال الإسرائيلي من حقهم في العلاج المنتظم، نتيجة الحرب المتواصلة على غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023.

ليلة الهبوط الحاد

في ليلة شديدة الحرارة، وبينما القصف يهز الأرجاء، شعرت أم محمود بالدوار والتعرّق وارتجاف جسدها وتسارع نبضها وجفاف فمها. نادت ابنها محمود، القريب من خيمتها، الذي هرع إليها ليجدها فاقدة الوعي. أسعفها عبر إذابة قطع تمر قديم في الماء، كانت تحتفظ بها لحالات الطوارئ، وأسندها إلى وسادة ممزقة بعد أن بدأت تستعيد وعيها.

تقول لـ"الترا فلسطين": "أرسل ابني يوميًا بحثًا عن قطعة شوكولاتة أو قليل من السكر أو زجاجة عصير، لكنه يعود خالي اليدين، والأسعار إن وُجدت الأصناف، خيالية لا تُصدق".

وتضيف بأسى: "جسدي هزيل، وأفقد وعيي أحيانًا بسبب الهبوط. لا أملك حتى قطعة حلوى بسيطة أستخدمها كدواء لا كغذاء. أحيانًا أستخدم المكملات الغذائية، لكنها نادرة وغالية، والأنسولين المتوفر قديم ولا يناسب حالتي".

وفي ظل هذا الوضع، باتت تواجه صعوبة في الحركة، وتسقط أحيانًا عند تنقلها، خاصة عند ذهابها إلى المرحاض، الذي تزوره كثيرًا بسبب السكري. قبل الحرب، كانت تملك مخزونًا للطوارئ، لكنها الآن تعتمد فقط على ما تبقى من تمر قديم، بالإضافة إلى اعتمادها على نظام غذائي دقيق وأدوية منتظمة، وأصبحت اليوم تُصارع نوبات هبوط السكر المتكررة.

وقد ازدادت حالتها النفسية سوءًا بعد استشهاد ابنها قصي في آذار/مارس الماضي، وهي اليوم تعيش الحزن، ومعاناة النزوح، وسوء التغذية، ما يجعلها عرضة مستمرة للصداع والإرهاق.

وجه آخر للألم

من خيمة أخرى في مواصي خانيونس، ينقل مروان أبو سلطان، أربعيني من رفح، صورة أخرى للألم. إذ أُصيب بالسكري منذ أكثر من 20 عامًا، وكان حريصًا على التوازن بين الأنسولين والغذاء، ويحتفظ دائمًا بقطعة سكر أو تمرة في جيبه تحسبًا لأي هبوط مفاجئ.

اليوم، الدواء غير متوفر، والطعام شحيح، وحتى السكر والحلويات أصبح الحصول عليهما صعبًا جدًا، ما زاد وضعه الصحي سوءًا وجعله غير قادر على الحركة.

قبل عشرة أيام، فقد وعيه فجأة أثناء محاولته تأمين الطعام لعائلته، وعندما نُقل إلى المستشفى، أخبره الأطباء أن مستوى السكر في دمه كان قريبًا من الصفر. نجا بأعجوبة، لكن الخوف ما زال يلازمه.

يختصر معاناته بالقول: "أشعر بإرهاق دائم، وأحيانًا أفقد الوعي. أشتري أحيانًا ملعقة سكر بسعر خيالي لصنع كوب شاي. كيلو السكر وصل إلى 450 شيقلًا، والشوكولاتة الصغيرة بـ70 شيقلًا. لا أملك حتى ثمن الخبز، فكيف أشتري الشوكولاتة أو العصير؟"، يتحدث وهو يشير إلى كيس صغير من التمر، أصبح بديلاً اضطراريًا، وإن كان غير كافٍ.

ويضيف لـ" الترا فلسطين": "أطفالي، بسبب الجوع وفقدان الغذاء، لم يعودوا قادرين على حمل جالون ماء من شدة الضعف، ما يضطرني للذهاب لجلبه رغم أنني متعب أيضًا. نحن جميعًا منهكون، أجسادنا لم تعد تحتمل، والجوع نال منا وزاد المرض من معاناتنا. ما لدينا فقط هو طعام التكيات، المصنوع من المعلبات التي تضر بصحتي".

يمثل أبو سلطان صورة لآلاف المرضى الذين يعانون بصمت، وسط نقص الإمدادات الطبية والغذائية، وانهيار النظام الصحي، وغياب الحلول، لا يطلبون الكثير فقط القليل من السكر، وجرعة من الحياة، في منطقة تُحاصَر بالموت من كل اتجاه.

قطعة سكر... حلم طفل

في خيمة مهترئة غرب خانيونس، يعيش الطفل معاذ أبو النصر (9 أعوام) صراعًا يوميًا مع السكري من النوع الأول. ولم يعرف من الطفولة سوى وخز الإبر، وقلق والدته المستمر، وملاحقة الهبوط المفاجئ.

معاذ كان يحب كرة القدم، لكنه اليوم لا يستطيع الجري كثيرًا، فكل مجهود قد يؤدي إلى هبوط حاد في السكر ويفقده الوعي. ولكن الخطر الأكبر لا يكمن في المرض نفسه، بل في غياب أبسط ما يُسعفه، قطعة سكر.

ولا تكاد الاربعينية سعاد أبو النصر والدة معاذ أن تفارق ابنها، خوفًا عليه من تعرضه لحالة إغماء، بعد أن تكرر ذلك خلال الأيام الأخيرة أكثر من مرة، جراء عدم وجود الغذاء، وفقدانه السكر في جسده.

تقول والدته لـ"الترا فلسطين"، والدموع في عينيها: "سقط معاذ مغشيًا عليه قبل أسبوع. كان جسده باردًا، وعيناه مفتوحتين لا تتحركان. بحثت عن أي شيء فيه سكر، فوجدت بضع حبات سكر قديمة في قاع البرطمان، وضعتها في فمه وأنا أبكي".

وتضيف: "في كل مرة ينهار فيها سكر معاذ، أركض كالمجنونة بحثًا عن قطعة حلوى. لم تعد الشوكولاتة رمز رفاهية، بل رمز حياة، حبة صغيرة قد تُنقذ مريضًا من غيبوبة أو موت مفاجئ". 

في تلك اللحظة، لم تكن أمه تعرف إن كان سينجو أم لا. انتظرته دقيقة بدقيقة حتى يستعيد وعيه، بينما المستشفيات القريبة لا تستقبل الحالات بسبب الاكتظاظ في أعداد الإصابات، ونقص الادوية، وانقطاع الكهرباء.

اليوم، معاذ لا يخاف من الحرب، بل من لحظة الهبوط. لا يريد لعبة جديدة... فقط قطعة سكر تُبعده عن الغيبوبة والموت، فما يزال معاذ على قيد الحياة، لكن كل ليلة تمرّ، تُهدده أن تكون الأخيرة، ليس لأنه طفل مريض ميؤوس منه… بل لأنه فقط لا يملك ما يكفي من السكر.

خطر متفاقم

تُشير وزارة الصحة إلى أن مئات المرضى في غزة يواجهون خطر الغيبوبة أو الوفاة بسبب نقص السكر السريع، فيما أصبحت قطع الشوكولاتة التي تُنقذهم مفقودة تمامًا.

وفي اليوم العالمي لمرضى السكري، الذي يصادف 14 تشرين الثاني/نوفمبر، يعاني مرضى غزة من انقطاع العلاج، وغلاء الأسعار، وخطر دائم على الحياة. ووفق الجهاز المركزي للإحصاء، فإن 350 ألف شخص في القطاع يعانون من أمراض مزمنة، بينهم 71 ألف مريض سكري، حُرموا من الرعاية الصحية.

خطر الوفاة

حذّر طبيب الصحة العامة والأسرة محمد مناع من خطورة نقص المواد الغذائية الأساسية في قطاع غزة، خصوصًا على مرضى السكري، الذين يعجزون عن ضبط مستويات السكر في الدم في ظل انعدام الأمن الغذائي، مؤكدًا أن الكربوهيدرات مثل السكر، والأرز، والبطاطا والدقيق ضرورية للحفاظ على صحتهم.

يوضح الطبيب مناع لـ"الترا فلسطين" أن مرضى السكري، وخاصة من النوع الأول، معرضون لخطر كبير بسبب اضطراب جرعات الأنسولين، ما يؤدي إما إلى هبوط حاد أو ارتفاع مفرط في السكر، وقد ينتج عن ذلك حموضة في الدم أو الدخول في غيبوبة طبية طارئة.

ويقول إن "تقلبات مستوى السكر في الدم تسبب مضاعفات خطيرة مثل الجلطات، وفقدان البصر، والفشل الكلوي، وتلف الأعصاب والأوعية الدموية، وقد تؤدي تقرحات القدم إلى البتر، مما يشكل خطرًا دائمًا على حياة المريض"، لافتًا إلى تسجيل حالات وفاة متزايدة بين كبار السن، خصوصًا مرضى السكري، نتيجة سوء التغذية.

ويشير إلى أن أعراض نقص السكر تشمل التوتر، والتعرق، وتسارع القلب، والدوخة، والتشنجات، وفقدان الوعي، منبهًا إلى أن بعض المرضى لا يشعرون بالأعراض التحذيرية، مما يزيد من خطورة الحالة.

وأوصى منّاع بتناول تمرة أو ملعقة سكر مذابة أو عصير عند انخفاض السكر، أما في حال فقدان الوعي، يجب عدم وضع أي شيء في فم المريض، مع الإسراع بطلب المساعدة الطبية، أو استخدام حقنة الجلوكاجون إن توفرت، ووضع المريض على جانبه لتفادي الاختناق.

يؤكد أن بعض المرضى، بسبب نقص السكر والغذاء، اضطروا لاستخدام ماء الأرز أو العدس كبديل غذائي، إلا أن الاعتماد على هذه السوائل قد يؤخر العلاج المناسب ويُعرض المريض لغيبوبة أعمق أو تلف دماغي دائم، نظرًا لبطء امتصاص الجسم لها وتحويلها إلى سكر قابل للاستخدام.

ويعبر عن قلقه من ارتفاع حالات مضاعفات السكري في غزة، نتيجة نقص الأنسولين وأجهزة الفحص وسوء التغذية، ما يعرض المرضى، خاصة الأطفال وكبار السن، لمخاطر صحية جسيمة قد تصل إلى الوفاة.