"كان اليوم الذي لا يقرصني فيه النحل لا أحسبه من أيامي"، بحنين كبير قال مربي النحل علي أبو حسنة جملته تلك، باكيًا تدمير منحله الذي كان يعتاش منه وأبناؤه، ومتحسرًا على حرمانه من حصاد ثلاث مواسم للعسل.
على مدار السنوات الماضية، ذاق مربو العسل في قطاع غزة المُر من أجل الحفاظ على مناحلهم، فما بين اعتداءات كانت تطال تلك المناحل على الحدود الشرقية للقطاع مع الخط الأخضر حيث تتمركز المناحل، والعدوان المتكرر على غزة الذي كان يدمر القطاع الزراعي وفروعه، وأبرزها تربية النحل.
ورغم ذلك، ظل مربو النحل بغزة متمسكين بمناحلهم حتى حلت حرب الإبادة، والتي سحقت فيها آلة الحرب الإسرائيلية القطاع الزراعي كليًا، وكانت تربية النحل من أكثر الفروع الزراعية تضررًا في غزة خلال هذه الحرب.
يروي النحالون لـ"الترا فلسطين" قصصًا شخصية مؤلمة عن فقدان مناحلهم التي كانت مصدر رزقهم الوحيد، في حين تشير الإحصاءات إلى تدمير نحو 90% من طاقة القطاع الإنتاجية
"مصدر رزقي الوحيد"
ترعرع الخمسيني علي أبو حسنة على سماع حكايا تربية النحل "أيام البلاد"، حدثه أبوه وجده عن تربية النحل في قرية "بشيت" التي هُجِّروا منها، وعن علاقة أجداده بمربي النحل في مدينة يافا التي اشتهرت بجودة حمضياتها التي يتغذى عليها النحل.
حاول علي منذ أن كان فتى أن يمارس تربية النحل بالطريقة التقليدية التي سمع عنها، وبالفعل أقام خلايا نحل أمام منزله مستخدمًا الجرار والطين، لكنه منذ 25 عامًا أصبح نحالًا محترفًا، أقام منحلًا متطورًا بعدما تعلم جيدًا كيفية عمل المناحل من أصحابها، فهو يستأجر أراضي زراعية في شرق رفح ويقيم عليها مناحل تُستخدم فيها أحدث الأدوات والآليات، ويعرف الزبائن جيدًا مدى جودة عسله.
وحين اندلعت الحرب، كان لديه منحلان في المناطق الحدودية الشرقية، أحدهما في منطقة صوفا والآخر في الشوكة، وحتى هذه اللحظة لا يُعرف مصيرهما، لكن المؤكد أنهما مُسحا من على وجه الأرض تمامًا كما المنطقة ككل.
ويقول علي لـ"الترا فلسطين": "قبل الحرب كان المنحل هو مصدر رزقي وأبنائي المتزوجين، نذهب إلى العمل يوميًا ونهتم بشأن التقسيمات والشمع والبراويز، ولا يهنأ بالي إلا حين يقرصني النحل"، ويتابع بقهر: "كان منحلي يضم 200 صندوق، لا يمر عام دون تطويرها وإضافة ما تعلمناه لها".
نحلات قليلات
تتوسط بلدة المصدر، ما بين مدينة دير البلح ومخيم المغازي، الخلابة وسط قطاع غزة، أرضًا زراعية تبلغ مساحتها 30 دونمًا، يملكها نايف المصدر، المزارع الكبير الذي يعرفه أهل المنطقة والمهندسون الزراعيون.
يزرع الحاج نايف أرضه تلك بالزيتون والحمضيات من برتقال وكلمنتينا، وداخلها تتناثر صناديق خلايا النحل التي يربيها منذ سنوات عديدة، لكن المصدر كغيره من المزارعين والنحالين حلت عليه الحرب بخسارة كبيرة، جُرفت أرضه وقضت الصواريخ على مناحله وأصبح غير قادر على الوصول إليها، ونسفت الطائرات الإسرائيلية خزان المياه الذي كان يملكه، وهو الآن يحفظ بالساعة والتاريخ كل حدث وقع له.
ورث أبو محمد، كما يُكنى، الزراعة عن أبيه وأجداده، لكنه أحب أيضًا تربية النحل، ويقول: "عندما كنت صغيرًا، كنت أنظر إلى جار لنا يعمل في تربية النحل، يطارد النحل ويبني لها صناديق، فأعجبتني الفكرة".
حتى يومنا هذا يتمسك الحاج نايف بمنحل صغير أنقذ نحلاته من الحرب، ووضعها في بيته، ويرعاها في كل حين، ويخصص إنتاجها القليل لعائلته.
ويخبرنا أبو محمد أنه لا يريد شيئًا الآن إلا أن تقف الحرب، لكن عيناه تحكيان عن شوق كبير لزراعة الأرض وارتداء بدلة الحماية من النحل والعودة لعمل البراويز وتقسيم الملكات وكل شيء يخص النحل، ويقول أبو محمد: "كنا نخصص يومًا لرعاية النحل، أعمل مع أبنائي وأحب روتين هذا اليوم كثيرًا".
غرامًا واحدًا من العسل.. صار حلمًا
في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، عاد المهندس الزراعي راتب سمور إلى قطاع غزة، قادمًا من الأردن، بعد عدة محاضرات ألقاها في جامعة البلقاء، بوصفه متخصصًا في علم الحشرات والنحل، ويمتلك خبرة 45 عامًا في تربية النحل واستخداماته.
سمور الذي أقام منظومة متكاملة لمنتجات النحل، هو صاحب أول مركز بغزة متخصص للعلاج بالنحل باسم مركز فلسطين الدولي للعلاج بالنحل، يخبرنا أنه عاد من الأردن متحمسًا للغاية لمتابعة عمله وشأن مناحله المتناثرة في شمال غزة ووسطها، لكن قبل أن يلتقط أنفاسه اندلعت الحرب، وكتب عليه النزوح تاركًا كل شيء خلفه.
وسرعان ما علم سمور أنه فقد مناحله في شرق جباليا وفي بيت لاهيا وشرق دير البلح، وعندما عاد إلى شمال غزة في كانون الثاني/يناير المنصرم، "لم يجد خشبة واحدة في المنحل، بينما تحولت البيارات التي كانت يتغذى عليها النحل لرمل أصفر"، كما يقول.
وفي بداية حديثه مع "الترا فلسطين"، يضعنا سمور أمام حال غزة مع إنتاج العسل قبل الحرب، فيقول إن أوج هذا الإنتاج كان في التسعينيات، عندما كانت أشجار الحمضيات تعم أرجاء غزة، فكانت خلية واحدة من النحل تنتج أكثر من عشرين كيلوغرامًا من العسل، ويضيف: "في السنوات الأخيرة -قبل اندلاع الحرب- كان الإنتاج جيدًا، يتغذى نحل غزة على زراعة الحدود الشرقية وحتى على المراعي داخل الخط الأخضر، وقدر إنتاج الخلية الواحدة ما بين 5-10 كيلوغرامات من العسل، وقد حاول أصحاب المناحل توسيع وتطوير العمل في منتجات العسل من حبوب لقاح ومواد تجميل وغيرها".
أما بعد الحرب، فيقول سمور: "المراعي سُحقت، والأشجار جُرفت، والمناحل دُمرت في غزة وشمالها، وما يُقدر بـ 90% من النحل لم يعد موجودًا"، ويضيف بحزن: "لم تنتج غزة غرامًا واحدًا من العسل هذا العام".
تدمير الغطاء النباتي
تحدثنا إلى رئيس الجمعية التعاونية لمربي النحل بغزة، عماد غزال، الذي قال إنه قبل حرب الإبادة كان عدد خلايا النحل في قطاع غزة يبلغ 30 ألف خلية، تنتج الخلية الواحدة 10 كيلوغرامات من العسل، وكان عموم إنتاج قطاع النحل يصل إلى 270 طنًا من العسل الربيعي و130 من العسل الصيفي، فيما يصل سعر كيلو العسل من 50 إلى 70 شيقلًا، حيث يتحدد السعر حسب الجودة.
يأسف غزال لما أصاب هذا القطاع خلال الحرب على غزة، ويشدد على أن قطاع النحل من أكثر الفروع الزراعية تضررًا في غزة خلال هذه الحرب، مضيفًا لـ"الترا فلسطين": "دُمر قطاع النحل بالكامل، وفقد النحالون مصدر رزقهم الوحيد من تربية النحل، حيث تم تجريف الغطاء النباتي الذي يتغذى عليه النحل، ودُمرت المناحل بكامل معداتها في شمال غزة وجنوبها".
تتلاشى آمال النحالين في استعادة هذا القطاع الحيوي سريعًا، إذ يحتاج الغطاء النباتي لسنوات كي يُرمم. ومع توقف الإنتاج تمامًا، لم تُنتج غزة هذا العام غرامًا واحدًا من العسل
وعن مستقبل تربية النحل بعد الحرب، فيعتقد غزال أنه مع عدم وجود غطاء نباتي للنحل، فالأمر يحتاج إلى سنوات لترميم وإعادة القطاع النباتي من جديد.
وكان القطاع الزراعي في شبكة المنظمات الأهلية في غزة، قد أصدر مؤخرًا ورقة حقائق جديدة بعنوان: "غزة بلا موسم عسل، قطاع النحل في ظل حرب الإبادة"، وكشفت الورقة عن أن أكثر من 76% من الغطاء النباتي الذي يعتمد عليه النحل في التغذية تم تدميره، بالإضافة لفقدان 27 ألف خلية نحل من أصل 30 ألفًا، ما يعني خسارة تفوق 90% من الطاقة الإنتاجية للعسل، مما أدى إلى انخفاض الإنتاج السنوي للعسل من حوالي 250 طنًا إلى ما يقارب 20-25 طنًا فقط.