في كل مساء، كانت الطاولات تزدحم، وصوت الموج يمتزج بأصوات الضحك القادمة من مقهى الباقة على شاطئ غزة، حيث يجتمع الشبان يخططون لأيامهم القادمة، والعشاق يختبرون نبض الحب الأول، والأصدقاء يتقاسمون ما تيسر من قهوة ووقت، بحثًا عن ملاذ آمن في واقع يضيق أكثر مما يتسع. هكذا كان المشهد حتى فُتحت شهية "إسرائيل" لتدميره وحصد أرواح من فيه.
ضرب الصاروخ وسط المقهى وأحدث حفرة عميقة جدًا، تطايرت الكراسي، وسقط السقف، وتصاعد الدخان، وتحوّلت مساحة العمل الآمن إلى ركام ودماء. اختفى صوت الموسيقى الهادئة، وتعالت صرخاتٌ واستغاثات
فبتاريخ 30 حزيران/يونيو الماضي قصف الجيش الإسرائيلي مقهى الباقة المكون من طابقين، سطح علوي مفتوح وطابق أرضي بنوافذ واسعة مطلة على الشاطئ، ومداخله كانت مرئية بوضوح من الجو، بقنبلة تزن 230 كيلوغرامًا وفق تحقيق لصحيفة الغارديان البريطانية، مخلفة أكثر من 30 شهيدًا.
كوب عصير لم يصل
الشاب العشريني عبد السلام كان أحد الناجين من مجزرة مقهى الباقة، لم يكن يطلب أكثر من مساحة عمل في ظهيرة ذلك اليوم، كل ما أراده هو أن ينهي ملف ترجمة مستعجل قبل أن تنقطع الكهرباء، أو الانترنت مرة أخرى.
اعتاد عبد السلام أن يسلك طريقه من حي النصر الذي يسكن فيه إلى منطقة مقهى الباقة غرب المدينة سيرًا على الأقدام، كان ذلك هو رويتنه اليومي كعامل حر في مجال الترجمة، يعمل عبر الإنترنت مع منصات عربية.
وصل عبد السلام لمقهى الباقة، المزدحم بالكبار والصغار والنساء، وجلس في طاولته المعتادة قرب خط كهرباء ووضع حاسوبه المحمول في المقبس، ثم طلب من النادل كوب عصير بارد وهو يبتسم قائلاً: "حرّ ورح أموت من العطش، مش من القصف". ثوانٍ قليلة مرت، لا أكثر، قبل أن ينقلب كل شيء.
يروي عبد السلام لـ الترا فلسطين ما حدث قائلاً "دوى فجأة صوت تصفير كاد أن يخرق أذني، لكني اعتقدت أنه في مكان قريب قد يسقط صاروخ، ولم أتوقع مطلقا أن المقهى هو المستهدف، فالجميع هنا مدنيون جاء كل واحد منهم إما للترفيه أو للعمل والدراسة أو الهروب من الموت".
ويضيف: "ضرب الصاروخ وسط المقهى وأحدث حفرة عميقة جدًا، تطايرت الكراسي، وسقط السقف، وتصاعد الدخان، وتحوّلت مساحة العمل الآمن إلى ركام ودماء. اختفى صوت الموسيقى الهادئة، وتعالت صرخاتٌ واستغاثات". لم يمت عبد السلام لكنه لم يخرج كما دخل، فقد أصيب بشظايا زجاج في قدمه وكتفه. ويقول: "انفجرت الدنيا، ما شفت إشي، بس حسّيت إني طرت عن الكرسي". كان جهاز اللابتوب مكسورًا، والهاتف مشوشًا، وكوب العصير الذي أنتظره لم يصل.
من يعيد لنا المكان والرفاق؟
وشكل قصف مقهى الباقة لرواده مزيجًا من الصدمة والوجع العميق، كأنّ جزءًا من حياتهم قد انتُزع فجأة دون سابق إنذار، إذ عبّر كثيرون عن شعورهم بالخسارة الكبيرة."قصفوا المكان... وقصفوا الرفاق"، هكذا لخًّص الصحافي الشاب مروان الغول فاجعة فقده، لم يكن يتحدث عن مبنى فقط، بل عن ذاكرة حيّة، ومكانٍ احتضنه لسنوات حتى صار امتدادًا لروحه.
"الباقة لم يكن مجرّد مقهى، كانت بيتي الثاني، وعائلتي الثانية منذ سنوات طويلة، كنت أرتاده يوميًا، أعرف كل زاوية فيه، وكل وجه، أصحابه أصبحوا أهلي، وزبائنه المنتظمون أصدقائي، هناك احتفلنا بأعياد الميلاد، دعونا بعضنا للعزائم، تقاسمنا الضحك والحزن، وعندما كنت أضيق ذرعًا بكل شيء، لم أكن أجد حضنًا أوسع من مقعد على البحر في الباقة" يقول مروان فارس.
ويضيف فارس، وهو يتصفح صورًا قديمة له ولأصدقائه في المقهى: "حين قُصف الباقة، شعرت أنني أفقد منزلي مرةً أخرى، راح المكان، وراحت الجلسات، والذكريات، وحتى الناس، معظم أصدقائي الذين كنت أجلس معهم هناك استشهدوا، والعاملون الذين كانوا يستقبلوننا بابتسامة الصباح لم يعودوا بيننا".
وتابع: "عندما سمعت خبر القصف، انكسر شيء داخلي، كنت موقنًا أن أحد أصدقائي سيكون من بين الشهداء، لكن الواقع كان أقسى من التوقع، استُشهد زميلي وصديقي إسماعيل أبو حطب، واستُشهدت الفنانة المبدعة أمنية السالمي –التي عرفناها باسم 'فرانس'– كما استُشهد عاطف، وعلاء، وهادي، ومصطفى، ومعتز... كلهم كانوا هناك، في لحظتهم العادية، في مكانهم المعتاد، واختفوا."
ويشعر مروان فارس بالحسرة لأن كل تلك التفاصيل "باتت مجرد صور في الهاتف، ومنشورات قديمة على فيسبوك كنا نعلّق تحتها: مين فاضي يمرّ على الباقة؟ واليوم، لم يبقَ من الباقة سوى الغياب".
من جانبها، الصحفية شروق شاهين، مراسلة تلفزيون سوريا، وهي من رواد مقهى الباقة، كانت في عملها كالعادة في مدينة غزة عندما سمعت صوت انفجار قوي يهز أرجاء المدينة. تقول: "حين قصفت إسرائيل الباقة، لم تدمر جدرانًا فقط، بل مزّقت ما تبقى من الحلم، من الطمأنينة، من الأماكن التي كنا نحتمي بها لنقول لأنفسنا: ما زال هناك شيء يشبه الحياة".
وتضيف أن "مقهى الباقة كان مساحة آمنة لنا كفتيات، فقد كنا نخرج من جدران البيوت ونشعر للحظة أننا نعيش حياة طبيعية، للعمل والاجتماع بالعائلة والأصدقاء". وتابعت: "قصْفُ إسرائيل لمقهى الباقة يعني أنها قتلت آخر فسحة أمل لنا، كما قتلت الكثير من أصدقائنا في المجزرة".
اغتيال الفضاء العام: نهج إسرائيلي
ولم تكن الغارة على مقهى الباقة هي الأولى التي يستهدف فيها الجيش الإسرائيلي الفضاء العام في غزة، فمنذ بدء الحرب، قُصفت حدائق عامة، ومسارح، ومكتبات، ومراكز ثقافية، ومطاعم، ومراكز ترفيهية وسياحية، فالاحتلال يدرك تمامًا أن السيطرة على الشعب لا تكون فقط من خلال القتل، بل من خلال محو الفضاء العام، أي الأماكن التي تُبنى فيها الروح الجماعية، حيث يُعاد إنتاج الأمل والهوية والمقاومة بشكل ناعم.
ويرى الباحث السياسي عزيز المصري أن استهداف الاحتلال لمقهى الباقة لا يمكن فصله عن استراتيجية أوسع تسعى لاغتيال الذاكرة الجمعية للفلسطينيين في غزة، وتجريدهم من أي بيئة حاضنة للحياة ومن الشعور بالانتماء.
"حين قُصف الباقة، شعرت أنني أفقد منزلي مرةً أخرى، راح المكان، وراحت الجلسات، والذكريات، وحتى الناس، معظم أصدقائي الذين كنت أجلس معهم هناك استشهدوا"
ويؤكد المصري، في حديث لـ الترا فلسطين، أن مقهى الباقة على مدار السنوات العشر الأخيرة لم يكن مجرد مساحة للترفيه، بل تحوّل إلى فضاء اجتماعي وثقافي عميق التأثير، جمع بين الأصدقاء والعائلات، واحتضن مناسبات ولقاءات ودراسة وعمل. وقال: "أنا شخصيًا كنت أحد رواده خلال وجودي بغزة، وكنت شاهدًا على علاقات وذكريات تكونت هناك".
ويضيف: "الاحتلال يدرك أن اغتيال الإنسان يبدأ من قصف ما يربطه بأرضه من أماكن وأشخاص وذكريات، لهذا لم يكن قصف الباقة مجرد استهداف لبناء، بل تدميرًا مقصودًا لرمز مجتمعي وذاكرة جماعية. نحن أمام محاولة ممنهجة لخلق بيئة طاردة تُهيئ الناس نفسيًا للهجرة، حين لا يتبقى لهم شيء من ماضيهم أو حكايتهم في هذا المكان".
ويستحضر المصري قول محمود درويش "وإن أعادوا لنا الأماكن، فمن يعيد لنا الرفاق؟"، مشيرًا إلى أن الاحتلال، باستهدافه للمكان، لم يهدم الجدران فحسب، بل اغتال الأرواح التي شكّلت نسيجه الاجتماعي والثقافي.