يخوض الطالب كرم أبو دقة (20 عامًا)، الذي يدرس تخصص الوسائط المتعددة في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، معركة حقيقية في مواجهة التحديات المتعددة التي أفرزتها الحرب، وألقت بظلالها الثقيلة وتأثيراتها السلبية على متابعته لدراسته الجامعية دون عقبات.
يضم قطاع غزة 17 جامعة وكلية مجتمع متوسطة، تعرّضت 8 منها لتدمير كلي أو جزئي
وأصبح كرم الآن واحدًا من نحو 90 ألف طالب جامعي يواجهون صعوبات كبيرة في استكمال دراستهم الجامعية، بفعل الحرب الإسرائيلية التي دمّرت معظم مؤسسات التعليم العالي الـ17 في القطاع، وفقًا لبيانات رسمية فلسطينية.
مستقبل معلق تحت القصف
ويعتقد أبو دقة، الذي اضطر للنزوح من منطقة عبسان الجديدة شرق خانيونس إلى المواصي غرب المدينة قبل نحو شهرين، أن استمرار الحرب جعل الدراسة شبه مستحيلة، ويقول: "تخيّل أن تحاول الدراسة وأنت تعيش في خيمة في ظل أجواء الحرارة القاسية، وتدرس على ضوء الشموع وأصوات الانفجارات في الخلفية. نعم، نخاف، لكن علينا أن نستمر رغم فقداننا منازلنا وأحبابنا وأصدقاءنا. مستقبلنا يعتمد على ما نتعلمه اليوم رغم الألم".
الانقطاع المستمر للكهرباء وضعف الانترنت جعلا الدراسة تحديًا مستمرًا في أوقات النزوح. تمر أيام بلا اتصال، فتضيع المحاضرات وتتبدد فرص تواصل الطلبة مع العالم الخارجي.
ويضيف، لـ التر فلسطين: "انقطاع الكهرباء منذ بداية الحرب تسبب في مشكلة كبيرة بالنسبة لي، حيث لا أستطيع شحن اللابتوب بشكل دوري، مما يحد من قدرتي على حضور جميع المحاضرات. لذلك، أقوم بشحنه قبل يوم من الامتحان، وأدرس من هاتفي، رغم أن الدراسة عبر الهاتف مرهقة للغاية".
لكن عزم كرم على مواصلة الدراسة لا يلين، فهو يقطع رحلة يومية شاقة ومحفوفة بالمخاطر للحصول على اتصال مستقر بالانترنت يتيح له التعلم عن بُعد، بسبب ضعف الإنترنت في منطقة نزوحه.

ويوضح أنه يواجه، كغيره من الطلبة، ضغطًا كبيرًا بسبب الأوضاع الحالية، بالإضافة إلى النزوح وكثرة الأزمات اليومية التي تأخذ غالبية وقته، بين توفير المياه، وشراء مستلزمات أسرته، لكونه الابن الوحيد في المنزل.
ويزيد: "التعليم الإلكتروني يؤثر بشكل كبير على جودة التعليم في تخصصي، لكونه يحتاج إلى محاضرات نظرية وعملية معًا، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال التعليم الوجاهي"، مشيرًا إلى أنه فكر في ترك الدراسة بسبب الظروف الحالية، مثل كثيرين غيره من الطلبة، لكنه في النهاية قرر مواصلة الدراسة.
ويواجه كرم ضغطًا نفسيًا كبيرًا بسبب خوف والديه عليه، لكونه الابن الوحيد، بالإضافة إلى فقدانه شقيقته في بداية الحرب، بعد قصف طائرات الاحتلال لمنزله في عبسان الجديدة، مما أدى إلى استشهادها وإصابة والدته بجراح خطيرة آنذاك.
التعليم معركة يومية
وتجد الطالبة أميرة أبو يونس (21 عامًا) نفسها أمام تحديات موازية للتي تحدث عنها كرم، إن لم تكن أكثر تعقيدًا. ورغم ذلك، لم تتردد أميرة، التي تدرس هندسة الديكور في الكلية الجامعية للعلوم والتكنولوجيا، في إكمال مسيرتها التعليمية وإنهاء سنتها الرابعة، لتحقيق حلمها حتى النفس الأخير.
وتقول أميرة لـ الترا فلسطين: "عدت للدراسة منذ أشهر قليلة وبدأت بمتابعة دراستي التي أصبحت معركة يومية. نعاني من انقطاع الكهرباء والإنترنت، مما يحد من قدرتي على حضور جميع المحاضرات، لذا أكتفي بالمحاضرات المهمة، وعند الامتحانات أتوجه لأقرب نقطة إنترنت في الشارع حاملة اللابتوب لأتمكن من تقديم الامتحان".
وتشتكي أميرة من ضياع الكثير من المحاضرات والامتحانات بسبب ضعف أو انعدام الانترنت في المنطقة التي نزحت إليها، وتضيف: "نزحنا من شرق خانيونس أكثر من مرة، كان آخرها قبل شهرين إلى منطقة المواصي، وهي غير مؤهلة للحياة ومكتظة بالنازحين".

تتابع: "كنا نجلس في قاعات جامعية، أما اليوم فأتنقل من زاوية لأخرى كي أجد شبكة لأُحدّث صفحتي الجامعية. وأقضي أيامًا بدون اتصال".
وتروي أميرة أبو يونس كيف نجت من موت محقق عندما قصفت طائرات الاحتلال خيمة أثناء ذهابها إلى أحد المقاهي في منطقة المواصي قبل شهرين، مما أدى إلى تطاير الشظايا بالقرب منها وإصابتها بحالة رعب شديدة، لم تستطع بعدها إكمال الامتحان.
وتضيف: "رغم الخوف والضغط النفسي جراء تدمير منزلنا واستشهاد شقيقي قبل عام، أقاوم كل شيء في سبيل إنهاء جامعتي. لا خيار آخر أمامنا. ربما الشيء الوحيد الذي يُخفف هذا الضغط هو إيماننا بأن ما كُتب لنا سنناله في حياتنا".
وتحظى أميرة بدعم كبير من عائلتها، خاصة والدتها التي ساعدتها في تنظيم وقتها، وخصصت لها ساعات النهار للدراسة بسبب انقطاع الكهرباء ليلاً.
وتشير إلى أنها لا تفكر في ترك الدراسة لأنها ترى في الجامعة أساسًا لبناء مستقبلها، وتقول إن إنهاء السنة والحصول على الشهادة هو إنجاز بحد ذاته.
وتستعد أميرة لتقديم امتحاناتها النهائية خلال أسبوعين، لكنها تخشى تراكم العقبات في منطقة نزوحها، خاصة أنها لا تستطيع العودة إلى منزلها المدمر شرق خانيونس حتى في حال تم إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار. غير أنها تحلم بالعودة إلى الجامعة والجلوس في القاعات الدراسية والتخرج لتصبح مهندسة، إذ كانت تُلقب منذ صغرها بـ"الباشمهندسة".
الحرب دمرت مستقبلي
وإن كان كرم وأميرة مايزالان قادران على تلقي تعليمهما، فإن محمد عاشور (21 عامًا)، طالب تحاليل طبية في سنته الرابعة بجامعة الأزهر، حرمته الحرب من التخرج الذي كان مقرر في صيف عام 2024، فاضطر لافتتاح بسطة صغيرة لبيع الملابس في خانيونس لإعالة أسرته.
يقول عاشور، لـ"الترا فلسطين" الذي فقد أكثر من 10 كغم من وزنه: "أعدّ الأيام للتخرج وبدء حياتي المهنية، لكن الحرب قلبت كل شيء. لم يتبق لي سوى عام واحد، فقررت التوقف مؤقتًا، ولا أعرف ما هو مصيري ".
ويُضيف: "لا أستطيع مواصلة التعليم الإلكتروني بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة والنزوح المتكرر. لا كهرباء، ولا أجهزة، ولا إنترنت. وتخصصي يتطلب دراسة عملية".
استشهد والد محمد قبل عام، ودُمِّر منزلهم، ولم يعد قادرًا على دفع الرسوم، فعمل لساعات طويلة لتأمين احتياجات أسرته، حيث يبدأ يومه من التاسعة صباحًا حتى السابعة مساءً على بسطة الملابس، ويعود منهكًا إلى خيمته.
كان محمد يحلم بافتتاح مختبر طبي، لكنه اضطر مؤقتًا إلى التنازل عن حلمه في سبيل توفير لقمة العيش لأسرته المكونة من خمسة أشقاء ووالدته، واضعًا احتياجاتهم اليومية فوق طموحاته الأكاديمية، على أمل أن يعود يومًا لمتابعة مساره العلمي حين تسمح الظروف بذلك.
ويشير إلى أن جامعته "الأزهر" تعرضت للتدمير، وقُتل عدد من محاضريها، وتحولت إلى ركام، لذلك يخشى عاشور من ضياع مستقبله جراء المصير المجهول الذي يكتنف قطاع التعليم، ويتساءل: "هل سنكمل مسيرتنا أم نبدأ من الصفر؟".
تعطّلت الدراسة الجامعية كليًا منذ بدء الحرب، ولم تُستأنف جزئيًا إلا عبر التعليم الإلكتروني، بعد انقطاع طويل، مع غياب أي أفق لعودة التعليم الوجاهي.
ظروف قاسية
ويؤكد مدير جامعة غزة فرع الجنوب، حاتم العسولي، أن طلبة الجامعات في قطاع غزة يواجهون ظروفًا قاسية، من حالات نزوح متكرر، وانقطاع الكهرباء، وضعف خدمات الإنترنت، وافتقار الطلبة لأبسط مقومات التعليم الالكتروني وهو جهاز الحاسوب، والهاتف النقال، مشيرًا إلى أن نحو 70 في المئة من طلبة جامعة غزة ما زالوا يتابعون التعليم الإلكتروني.
ويوضح العسولي لـ"الترا فلسطين" أن الجامعة حرصت على تقديم العديد من التسهيلات والخدمات للطلبة، وشكلت منذ اللحظة الأولى خلية أزمة لتذليل العقبات كافة أمام الطلبة، وخفضت الرسوم مراعاة للظروف. ومع ذلك، لم يتمكن بعض الطلبة من التسجيل بسبب الوضع الاقتصادي الصعب أو قناعتهم بعدم جدوى التعليم الإلكتروني.
ويُشدد العسولي إن الجامعات في غزة أصبحت غير صالحة لاستئناف التعليم الوجاهي بسبب الدمار الواسع والممنهج الذي طال المؤسسات التعليمية كافة، فمثلاً فرع جامعة غزة في الجنوب دُمّر بالكامل، وفرع غزة الرئيسي تضرر جزئيًا وسُرقت معداته، ولا توجد معلومات عن فرع الشمال الواقع في منطقة حمراء في بيت لاهيا.
تضررت نحو 75 في المئة من البنية التحتية التعليمية، وفقًا لتقارير أممية، وقدرت خسائر البنية التعليمية بأكثر من 720 مليون دولار
وأشار إلى أن عددًا كبيرًا من الطلبة والطاقم الأكاديمي والإداري في الجامعة قد استشهدوا جراء العدوان المستمر منذ أكثر من 20 شهرًا.
وتسببت الحرب المستمرة في قطاع غزة، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، في دمار واسع لقطاع التعليم العالي، ما حرم الآلاف من الطلبة من مواصلة دراستهم. واستُشهد آلاف الطلبة والأساتذة الجامعيين، وأُصيب آلاف آخرون، فيما تضررت نحو 75 في المئة من البنية التحتية التعليمية، وفقًا لتقارير أممية.
ويضم قطاع غزة 17 جامعة وكلية مجتمع متوسطة، تعرّضت 8 منها لتدمير كلي أو جزئي، في حين قُدّرت خسائر البنية التعليمية بأكثر 720 مليون دولار، منها نحو 200 مليون دولار خسائر لحقت بالجامعات وحدها، بحسب تقارير دولية.