بيسان

أرقام في المقابر ووداع مفقود.. الغياب في غزة يتحول إلى مصير مجهول

المصدر تقارير
أرقام في المقابر ووداع مفقود.. الغياب في غزة يتحول إلى مصير مجهول
دعاء شاهين

دعاء شاهين

صحافية من غزة

في صباح أحد أيام الإبادة الجماعية بغزة، توجّه فتحي قدورة (60 عامًا) لزيارة مشرحة مجمع الشفاء الطبي للمرة الثالثة خلال 72 ساعة، عيناه غائرتان، ومفاصل جسده متيبسة من القلق والانتظار، يمسك بيده صورة قديمة لابنه ياسر، التُقطت قبل خمسة شهور بينما كان جالسًا مع عائلته.

فُقدت آثار ياسر (16 عامًا) بتاريخ 23 آذار/مارس من العام الحالي، أثناء ذهابه لإحضار أغراضه من منزلهم في حي الشجاعية، بعد نزوحهم بأيام من اجتياح الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة التي يسكنون بها. خرج وقت الظهيرة، وبعدها فُقد الاتصال به ولم يبقَ منه اتصال أو أي أثر. ما بقي هو ارتباك العائلة، ورعب الأب من أن يكون ولده قد أصبح مجرّد رقم في قوائم الجثث مجهولة الهوية بالمشرحة.

في ظل تراكم الشهداء وتوسّع المقابر الجماعية، ما زال كثير من أهالي غزة يفتقدون فرصة الوداع، لا لغياب الجثامين فحسب، بل لغياب القدرة على التعرّف عليها

قضى الأب منذ ذلك اليوم فترةً زمنيةً كان يذهب فيها يوميًّا إلى مشرحة مجمع الشفاء، يبحث بين الأكياس البلاستيكية البيضاء، لعله يجد ما يطابق ابنه، ومعه قميص كان يرتديه ياسر وساعة يد بسيطة. طلب من أحد الأطباء أن يقارنها بأي متعلقات وُجدت مع الجثث التي يتم انتشالها كل يوم، لكن دون فائدة.

يقول الأب المكلوم لـ "الترا فلسطين": "قضيت شهرًا كاملًا أذهب فيه كل يوم إلى المشرحة على أمل أن أعثر على جثة ابني أو أي دليل يُستدل من خلاله على رفاته، لكن المهمة كانت شبه مستحيلة. لم تبدُ المشرحة كأنها مكان للموت، بل أكياس من بقايا جثث. كنت أبحث بين العظام والرفات والجماجم داخل أكياس الجثث، وأحذية ملطخة بالدم، ضلوع مفصولة عن الجسد، وبقايا أوراق ممزقة، لكن لم أجد دليلًا قاطعًا، حتى شعوري الداخلي كان يراودني، وإحساسي كأب أن ابني ليس موجودًا".

لم يكن ياسر ضمن أي قائمة رسمية، لم يُعثر على بطاقة هوية، ولا وثيقة تشير إلى وجوده في أي من نقاط الإسعاف أو المستشفيات، أو أي دليل سواء من أجهزة الدفاع المدني أو الطب الشرعي. ومع غياب أجهزة فحص البصمة الوراثية (DNA)، يبقى كل شيء محتملًا، كما يتابع الأب فتحي، بقوله: "ربما ياسر دُفن بالفعل في مقبرة جماعية، وربما جسده أشلاء، أو هيكل متحلل". مختتمًا بصوت حزين وكان أقرب للغرق في البكاء: "ليس استشهاد الابن هو ما يكسر ظهري.. بل موته بلا وداع، بلا يقين".

اقرأ/ي: غزة تكتب جراحها.. حائطٌ ممتلئ لتوثيق حكايا حرب غزة

في غزة.. اليُتم يُورَث

عائلات على نوافذ الانتظار في غزّة.. مفقودون في "مصائد المساعدات"

في ظل تراكم الشهداء وتوسّع المقابر الجماعية، ما زال كثير من أهالي غزة يفتقدون فرصة الوداع، لا لغياب الجثامين فحسب، بل لغياب القدرة على التعرّف عليها. فمع منع الاحتلال دخول أجهزة فحص البصمة الوراثية (DNA) والغياب القسري للأجهزة الحديثة، تُحرم العائلات من آخر خيط يمكن أن يمنحها يقين الفقد، وتُدفن المئات من الجثث في أكياس تحت ترابٍ لا يُعرف لمن تنتمي.

إذ كشف المكتب الإعلامي الحكومي خلال تصريحات إعلامية أن عدد المفقودين منذ بدء الحرب بلغ أكثر من 11 ألفًا، كثير منهم شهداء لم تصل جثامينهم للمستشفيات، بينما تضع بعض مراكز الإحصاء الفلسطيني من هم تحت الأنقاض خارج تصنيف "المفقودين"؛ لأن مصيرهم معلوم وإن لم يُنتشلوا بعد، وقدّر عددهم ما بين 6 إلى 8 آلاف.

وفي ظل هذا المشهد القاتم، أفاد غازي المجدلاوي من المركز الفلسطيني للمفقودين أن حصر العدد الحقيقي بات معقدًا، بل مستحيلًا؛ لأن "عداد الغياب مستمر ما دامت الحرب مشتعلة"، مضيفًا أن الاحتلال لم يكتفِ بمنع الفحوص، بل زاد الطين بلّة بتسليم 315 جثمانًا على دفعات عبر الصليب الأحمر، وصلت متحللة تمامًا، دون أي معلومات أو توثيق، ما جعل التعرف عليها مستحيلًا دون تحليل جيني.

في السياق ذاته، أكّد خليل حمادة، أخصائي الطب الشرعي في قطاع غزة، أن عدم توافر أجهزة فحص البصمة الوراثية (DNA) يشكّل عقبة مركزية في مهمة التعرف على الجثامين مجهولة الهوية، لا سيما أن أغلب هذه الجثامين تصل إلى المستشفيات عبارة عن أشلاء، جثث متفحمة أو متحللة، وأحيانًا هياكل غير مكتملة.

وأضاف في حديثه لـ "الترا فلسطين": "كثير من الجثث تبقى لفترة طويلة تحت الأنقاض، ما يؤدي إلى تشوهات كبيرة تصعّب من عملية تحديد الهوية أثناء التشريح. في حالات كثيرة، نلجأ لدفن المئات من الشهداء في مقابر جماعية دون أن نتوصل لهويتهم، مع أن ذلك كان ممكنًا ببساطة لو توفرت أجهزة فحص جيني قادرة على تحليل الحمض النووي، ومقارنتها ببيانات معروفة".

ورغم محدودية الإمكانات، يعتمد الطب الشرعي في غزة على وسائل تقليدية في محاولة للتعرف على الجثامين، كما يوضح حمادة: "نتعاون مع عائلات الشهداء ونفحص المتعلقات الشخصية كملابس الضحية، وتركيب الأسنان، وآثار عمليات جراحية سابقة، ووجود بلاتين في الجسم، إضافة إلى قياسات العظام والجمجمة إذا كانت مكتملة. أما الجثث المتحللة بالكامل والتي مضى على وجودها عام أو أكثر، فغالبًا ما تكون معرفتها شبه مستحيلة".

وأشار حمادة إلى وسيلة تقنية يعتمدها فريقه للمساعدة في التعرف على الجثامين، تتمثل في قناة واتساب مخصصة للمستشفى تُنشر فيها صور بطاقات الجثث لتتعرف العائلات أو المعارف عليها.

أما فيما يتعلق ببروتوكولات دفن الجثث، فيُوضح حمادة أنه يتم وضع بطاقة تعريف داخل كيس الجثمان، وأخرى لدى الطب الشرعي تتضمن مكان وتاريخ الاستخراج، رقمًا تسلسليًا، وصورة التقطت لحظة الانتشال. ويفترض وفق البروتوكول أن تبقى الجثث في ثلاجات المشرحة لمدة تتراوح بين 48 إلى 72 ساعة أملًا بالتعرف عليها، لكن نقص الوقود الذي تمنع سلطات الاحتلال دخوله يؤدي إلى تعفن الجثامين، ما يضطر الطواقم الطبية لدفنها مباشرة.

واختتم حديثه، بالقول: "إنها مأساة إنسانية مركبة، فالأهالي يُحرمون من وداع أحبّتهم، ومن دفنهم بكرامة، أو حتى زيارتهم بعد الاستشهاد، الاحتلال لم يترك وسيلة إلا واستخدمها في تعذيب الفلسطيني حتى بعد موته".

في نهاية ممر ضيق قرب مدخل مقبرة مستشفى ناصر المؤقتة في مدينة خانيونس جنوب غزة، يقف حسن كمال، شاب أربعيني، يتأمل صفوفًا من القبور الجماعية بلا شواهد، كلها تحمل أرقامًا. ويشير بسبابته، قائلًا: "هنا قد يكون دُفن جثمان أخي رامي. تفحّصت أكثر من عشرين جثمانًا لكن الأشلاء التي عرضوها عليّ لا تحمل ملامحه، ولا تشبهه في شيء".

يخمن الشاب حسن الذي فقد شقيقه رامي (20 عامًا)، حينما قصف الاحتلال أحد المباني السكنية في منطقة خزاعة شرق خانيونس، فكان ذاهبًا لزيارة صديقه ولم يعد. في الثامن من أيلول/سبتمبر من العام الماضي، عثرت أجهزة الدفاع المدني على أكثر من جثة في المكان ذاته بعد القصف بأسبوعين، واشتبه الطب الشرعي بأن يكون رامي من بينهم وفق وصف عائلته. وكانت الجثة مشوهة بنسبة كبيرة، لكن غياب جهاز فحص DNA ترك الاحتمال معلقًا بين الحقيقة والعدم.

ويقول في حديثه لـ "الترا فلسطين": "دُفن شقيقي رامي، أو ما يُعتقد أنه رامي، في مقبرة جماعية مع العشرات، دون أن نحصل على نظرة وداع أخيرة لجثمانه، دون أن ننقش اسمه على شاهد، أو نضع زهرة فوق قبره". ويكمل: "أحضر كل جمعة، وأقرأ الفاتحة، وأتكلم معه، أمام قبره في المقبرة الجماعية رغم أني لست متأكدًا من هويته. كل ما بقي من رامي - إذا كان القبر حقًا له - هو بطاقة داخل كيس الجثمان كُتب عليها: شاب مجهول، انتُشل من تحت أنقاض مبنى سكني في خزاعة".

لم يعد الفقد في غزة مجرد لحظة صادمة، بل مسار طويل من العجز والانتظار والتخمين، وتُصبح الجثث أرقامًا في مقابر صامتة، ويُدفن الأمل إلى جانب من لا نعرفهم، وربما لا نعرفهم أبدًا.