بيسان

نساء غزة في زمن الحرب: استنزاف وحصار بالألم النفسي

المصدر تقارير
نساء غزة في زمن الحرب: استنزاف وحصار بالألم النفسي
سفيان نايف الشوربجي

سفيان نايف الشوربجي

صحفي فلسطيني مستقل من قطاع غزة، مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي، حاصل على درجة...

وسط ركام المنازل وأزيز الطائرات الحربية، والقصف الذي لا يتوقف في مخيمات النزوح المكتظّة، تختبئ معاناة صامتة، لا يسمعها كثيرون، لكنها تنخر في القلوب والأرواح بصمت قاتل. إنها قصص نساء غزة اللواتي يكابدن الألم النفسي العميق، في ظل حرب مستمرة سرقت منهن الأمان، ودفنت تحت أنقاضها الأحلام وملامح الحياة الطبيعية.

في غزة، فقدت النساء شعور الأمان، وشهدن القتل والدمار، وذقن مرارة ولوعة الفقد، والنزوح القسري، وتهدم البيوت، وعشن تحت وطأة الخوف والقلق، ليجدن أنفسهن عالقات في صراع يومي لا يُرى بالعين، يلتهم قلوبهن، وينهك ويُمزّق أرواحهن، ولا يقل شراسة عن القصف والصواريخ.

تؤكد الطبيبة النفسية في برنامج غزة للصحة النفسية، أمل أبو عبادة، لـ"الترا فلسطين"، أن جميع الفئات العمرية، وخاصة النساء، تعرضن لضغوط نفسية غير مسبوقة وكارثية، مشيرة إلى أن النساء يواجهن صعوبات مضاعفة بسبب ظروف النزوح، والمسؤوليات اليومية، وفقدان الخصوصية

"لم أعد أشعر بطعم الحياة، كل ما حولي أصبح دمارًا، وكل لحظة خوف وقلق لا تنتهي... لا أشعر بالأمان، لا راحة ولا خصوصية"، بهذه الكلمات تختصر الأربعينية مها ض. معاناة آلاف النساء في قطاع غزة، اللواتي أنهكتهن الحرب. لم تقتصر مأساتهن على فقد الأحبة ودمار البيوت، بل امتدت إلى جراح نفسية عميقة تنهش أرواحهن، ولا تقل قسوة عن أوجاع الجسد.

في خيمتها المتواضعة الواقعة في منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، تجلس مها برفقة أبنائها، وملامحها المنهكة تعكس أوجاعًا نفسية ممتدة، وتسيطر عليها حالة من القلق والخوف الشديدين جراء تراكم الهموم والأزمات التي لا تنتهي.

حرب نفسية لا تهدأ

تروي مها، التي نزحت من مدينة رفح إلى خان يونس منذ أيار/مايو 2024، تفاصيل مأساتها بمرارة لـ"الترا فلسطين"، قائلة: "كل ليلة لا يمكنني النوم إلا بعد تفكير عميق في أوضاعنا الصعبة. أصوات القصف المستمرة تزيد من حالتي سوءًا. أطفالي يرتجفون ويبكون طوال الليل من شدة الخوف، وأنا أحاول أن أبدو قوية أمامهم، رغم أنني منهارة تمامًا من الداخل، في ظل هذا الرعب اليومي الذي لا ينتهي".

وتضيف، وهي تشير إلى أبنائها السبعة الذين يلتفون من حولها في خيمتها المهترئة: "أخشى عليهم أكثر من خوفي على نفسي. الحرب دمّرت كل شيء، حتى أرواحنا. أعيش في قلق دائم من أن أستيقظ على خبر فقدان أحدهم".

لا تقتصر معاناة النساء في مخيمات النزوح على الألم النفسي، بل تشمل مسؤوليات مضاعفة، تتصدرها مهمة تأمين الاحتياجات اليومية للأسرة. وتقول مها: "نعيش معاناة صعبة جدًا. اضطررت للوقوف في طوابير طويلة من أجل تعبئة المياه، وانتظرت ساعات أمام الفرن للحصول على الخبز. أما إشعال النار لطهي الطعام - إذا توفر - فهو معركة يومية أخرى".

وتتابع بحرقة: "أشعر بالعجز كل يوم حين يطلب ابني الصغير، محمد، ذو التسعة أعوام، الطعام ولا أجد ما أسدّ به رمقه. حالة التجويع التي نعيشها منذ أكثر من أربعة أشهر تفاقمت، وحتى طعام التكيات، الذي كنا نعتمد عليه سابقًا، لم يعد متوفرًا. الجوع قاسٍ، لكن الخوف أشد قسوة".

تقبلت مها، على مضض، إرسال ابنها الأكبر جهاد (22 عامًا) إلى نقاط توزيع المساعدات في رفح، رغم القلق المستمر الذي يرافقها، فلا يهدأ قلبها إلا عندما تراه أمام عينيها، في ظل غياب مصدر دخل يعين الأسرة، خاصة مع مرض زوجها بالقلب وعجزه عن العمل.

ولا يتوقف القلق عند هذا الحد، إذ تفاقمت معاناة العائلة مع إصابة ابنتها براء (22 عامًا) بمرض السرطان، وطفلها محمد بمرض الربو، وسط نقص حاد في الأدوية والرعاية الصحية اللازمة.

وتحكي مها بألم عن مأساة فقدان شقيقها وعائلته، وتقول: "فقدت شقيقي وأبناءه وأحفاده بعد قصف منزلهم... جميعهم استشهدوا. وبعدها بوقت قصير فقدنا شقيق زوجي وعائلته... حتى الآن أشعر وكأننا نعيش كابوسًا لا ينتهي".

"لم يتبقَّ لنا شيء سوى الألم، حتى البكاء لم يعد يخفف عنا. الحرب سرقت كل شيء جميل. الشهداء ما يزالون يُزفّون في كل مكان، والدماء والدمار يلفّان غزة بالكامل... كيف نعيش وسط هذا الجحيم؟"، تسأل مها بعينين غارقتين في الدموع.

نزيف صامت

على بعد أمتار قليلة، تتكرر المعاناة ذاتها مع زهر ف. (39 عامًا)، التي كانت تعيش حياة بسيطة وآمنة مع زوجها وأطفالها الخمسة قبل الحرب، لكنها اليوم تعيش وسط مشاهد الموت والدمار والمسؤوليات التي أثقلت كاهلها، ويغمرها القلق والخوف من مستقبل يكتنفه الغموض.

زهر، التي سرقت منها الحرب زهرة شبابها وكل حلم جميل، أصيبت اليوم باضطرابات القلق والخوف بعد فقدان شقيقها مهند قبل عام، ولم تتمكن حتى من وداعه، إذ لم يكن قد مرّ على زواجه سوى شهر واحد فقط. كذلك، استُشهد أصهارها وأبناؤهم في مدينة غزة، وفقدت شغف الحياة بفعل اشتداد الأزمات وقسوة الظروف والهموم المتراكمة، التي زادت من عمرها عشر سنوات إضافية، على حد تعبيرها.

منذ قرابة العامين، عاشت زهر نزوحًا متكررًا مع عائلتها، تنقلت بين مدن ومخيمات جنوب القطاع، واليوم تستقر في مخيم للنازحين في المواصي غرب خان يونس، برفقة زوجها وأبنائها، إضافة إلى والديها وشقيقها وزوجته، بعد دمار منزلها بالكامل في حي الزيتون بمدينة غزة، ورفضها العودة إلى هناك لرؤيته، بعد أن أصبح كومة من الركام، خشية أن تُشعل في قلبها نار الحسرة من جديد.

جراح الروح في كل بيت

لم تنفك زهر تحدّق في زوايا خيمتها الصغيرة، التي باتت تمثل بيتها الدائم. تستذكر ذكرياتها السابقة ومنزلها الجميل، وتحاول استيعاب ما حلّ بها، وكيف انقلبت حياتها رأسًا على عقب بين ليلة وضحاها.

ابنتها الصغيرة، ذات الستة أعوام، تعاني من كوابيس مستمرة واضطرابات في النوم، أما زهر نفسها فتعيش حالة من الانهيار النفسي، تلاحقها أصوات القصف، وتحاصرها المخاوف في كل لحظة.

"أصوات القصف تطاردني حتى وأنا مستيقظة. ابنتي تصرخ من الكوابيس ليلًا، ولا أستطيع مساعدتها. أشعر أنني منهارة من الداخل. كيف أكون قوية أمامها وأنا ممزقة نفسيًا؟"، تقول زهر بانكسار.

وتصف زهر الحياة داخل الخيام بـ"الجحيم اليومي"، مع انعدام الخصوصية، والجوع، والمرض، وانقطاع الكهرباء والمياه، مشيرة إلى أن تأمين وجبة طعام واحدة لعائلتها يوميًا أصبح معجزة ومهمة شبه مستحيلة، خاصة في ظل تعطل زوجها عن العمل، بينما مستلزمات النظافة والرعاية الأساسية غير متوفرة.

وتضيف بعينين غارقتين في التعب: "كل يوم أسمع قصصًا عن نساء فقدن أزواجهن أو أطفالهن، نساء فقدن شغف الحياة... نحن ننهار ببطء، ولا أحد يقدم لنا دعمًا نفسيًا حقيقيًا".

ورغم الوضع الكارثي، تحاول زهر مساعدة نساء أخريات نفسيًا، لكنها تؤكد أنها أيضًا ضحية هذا الواقع القاسي، وتصف حياتها بـ"كابوس لا ينتهي"، وتعيش، كآلاف النساء، على أمل مجهول، وسط خيام بلا أمان، وحياة محاصرة بالخوف والجوع والمرض.

تشير تقارير المؤسسات المحلية والدولية العاملة في مجال الصحة النفسية إلى تفاقم الأزمات النفسية بين النساء، مع ارتفاع حالات الاكتئاب، ونوبات الهلع، واضطرابات النوم، والتوتر المزمن، خاصة بين الأمهات اللواتي يتحملن عبء حماية أطفالهن في ظروف الحرب القاسية.

ورغم قساوة الأوضاع، لا يزال الدعم النفسي المتخصص محدودًا جدًا، بسبب تدمير جزء كبير من المؤسسات الصحية ونقص الكوادر المتخصصة، وهو ما يترك النساء في مواجهة الصدمات النفسية دون تدخل فعّال.

ضغوط نفسية هائلة

تؤكد الطبيبة النفسية في برنامج غزة للصحة النفسية، أمل أبو عبادة، لـ"الترا فلسطين"، أن جميع الفئات العمرية، وخاصة النساء، تعرضن لضغوط نفسية غير مسبوقة وكارثية، مشيرة إلى أن النساء يواجهن صعوبات مضاعفة بسبب ظروف النزوح، والمسؤوليات اليومية، وفقدان الخصوصية، والحرمان، والفقد الذي طال معظم الأسر في قطاع غزة.

وتحذر الطبيبة النفسية، في حديثها لـ"الترا فلسطين"، من الآثار النفسية طويلة الأمد على النساء، نتيجة استمرار الحرب وتراكم الصدمات، ما يزيد من احتمالات الإصابة بالاكتئاب الحاد والعزلة الاجتماعية.

وتضيف: "تراكم الأزمات والإجهاد النفسي انعكس أيضًا على صحة النساء الجسدية، حيث تغيرت ملامح العديد منهن وظهرت عليهن علامات الكِبر المبكر، بسبب سوء التغذية، ونقص مستلزمات النظافة، والتلوث البيئي".

وتشدد على الحاجة الماسة إلى جلسات تدخل ودعم نفسي مستمرة، لمساعدة النساء على التعافي من الآثار النفسية العميقة، موضحة أن ضعف التدخلات، ونقص الأدوية، وانعدام الخدمات الصحية، يجعل من معالجة الصدمات أمرًا بالغ الصعوبة.

وتشير إلى أن مركز غزة للصحة النفسية ينفذ العديد من الجولات الميدانية والجلسات النفسية، لكن الوصول إلى النساء المتضررات صعب للغاية، بسبب انشغالهن بتأمين احتياجات أسرهن اليومية، وصعوبة التنقل، ونقص الكوادر المتخصصة، وهو ما يفاقم من أوضاعهن النفسية والصحية.