بيسان

في غزة.. اليُتم يُورَث

المصدر تقارير
في غزة.. اليُتم يُورَث
آصال أبو طاقية

آصال أبو طاقية

صحفية ومدونة فلسطينية من غزة

على حافة الركام، من بين أنقاض البيت الذي كان يومًا ملاذه، أطل أحمد المقادمة برأسه الصغير صباحًا، بعد ساعاتٍ طويلة قضاها مغشيًا عليه تحت الردم. كان صوته واهنًا وكأن الحياة بالكاد تسري فيه، ولوّح بيده النحيلة: "أنا هنا.. ما متت". لم يكن هناك أحد؛ لا أم تسرع نحوه، ولا أب يحتضنه، ولا صوت لأخيه عمر الذي لم يكن يفارقه.

وحده الغبار غطّى وجهه، والدم سال من جبينه، كأنه يرسم طريقه في عالم الفقد. نادى بصوت مرتجف: "ماما.. بابا.. عمر"، لكن الصمت كان هو الجواب.

لم يعد اليتم استثناء، بل سلالة حزينة تتكرر؛ فأطفال كثيرون فقدوا آباءهم اليوم، هم أبناء من عاشوا اليُتم بالأمس

في تلك اللحظة، لم يكن أحمد قد فقد منزله فحسب، بل سقط في هاوية اليُتم، التي لا مخرج منها. أحمد لم يتجاوز الخامسة بعد، ذاكرته الصغيرة بالكاد بدأت تحفظ ملامح العائلة ودفء الأم، فإذا بكل شيء يُنتزع فجأة، بلا إنذار.

لكن هذا المُصاب لم يبدأ مع أحمد، بل هو سطر جديد في كتاب حزنٍ قديم تتوارثه العائلة. فأبوه "أبو بكر" عرف هذا اليُتم في عمرٍ قريب، حين استُشهد والده إبراهيم في قصف إسرائيلي عام 2023.

عاش أبو بكر يتمه كاملًا بعد فقدان والدته أيضًا. احتضنه شقيقاه، كبر عصاميًا، مستقلًا في ذاته، حتى بنى عائلة أحاطها بالمحبة، واحتضنهم بكل ما في قلبه من حب وحنان. أراد أن يكون لهم الأمان، والظل، والقدوة. لكن الحرب عادت لتسرق كل شيء. رحل هو وعائلته في قصفٍ ليلي، وكتب القدر أن ينجو الصغير أحمد ويُعيد قصة والده من جديد.

اليوم ينام أحمد في بيت عمه، التي أصبحت زوجته أمًا بديلة له، ويحرص كل مساء أن يحكي لها عن والديه. يخشى أن تنطفئ صورهم في رأسه: "خليكم تلبسوا أواعي بابا وماما.. أنا بحبهم كتير. بابا كان يركبني عالبسكليت، وكان دايمًا يحكيلي عن سيدي اللي استُشهد، وقالي بده إياني أطلع دكتور.. بس راح قبل ما أكبر".

يحاول أحمد إشغال نفسه باللعب مع الأطفال من حوله، أن يضحك، ,أن يكون مثلهم، لكن عينه لا تكفّ عن البحث عن عمر، رفيقه في اللعب والسرير والضحك. لكن لم يبقَ له أحد؛ صار أحمد في لحظة، الطفل والناجي واليتيم، ووريث الحكاية.

أحمد بكر المقادمة

يا ليتك معنا!

وبينما كانت عجلة الحياة تمضي وتمسح شيئًا من وجع الأمس، عادت فجأة لتُلقي بثقل الحزن مرة أخرى فوق عائلة رضوان من جديد، لكن هذه المرة كان الحزن أعمق، وأشد وطأة. ,في يومٍ اختلطت فيه الدموع بالضحكات، وُلد أمجد، فازدهر قلب والده عاصم به، واحتضنه كما لو أنه يُعانق والده الشهيد من جديد.

سمّاه أمجد تخليدًا لاسم والده الشهيد، الذي رحل عنه وهو في الثامنة، تاركًا فراغًا لم يملأه الزمن. قال وهو يضم صغيره: "يا ليت جدك معنا يا أمجد!"، كأنه يعتذر له عن غياب لم يكن بيده.

عاش أمجد في دفء حضن عاصم، ذاق الحب والأمان من أبٍ حنون، عوّضه عن كل فقدٍ سابق. لكن الأقدار لم تُمهله طويلًا. رحل عاصم، وولد بعده طفله الثاني "إبراهيم"، ليُستقبل في هذه الدنيا بعيون دامعة وقلوب تتمنى: "يا ليت والدك معنا يا إبراهيم!".

حكاية الحزن هذه بدأت منذ أن كان عاصم نفسه طفلًا صغيرًا، حين عادوا إليه بجثمان والده ممددًا، ليطبع على جبينه قبلة الوداع. كبر عاصم مشبعًا بالحنين، لم يُرد أن يُنادى باليتيم، بل كان يردد باعتزاز: "أنا ابن شهيد".

عاش لأجل أمه وإخوته، نذر نفسه سندًا متينًا لهم. كان يرى في كل طفلٍ يتيم وجهًا من ماضيه، فيمسح على رؤوسهم ويلاعبهم كأنهم أمانة أبيه الشهيد. كان الحزن في قلبه بوابة رحمة، يُفيض من خلالها حنانًا لا يُوصف.

تقول شقيقته آية: "بعد استشهاد زوجي، أصبح عاصم أبًا لأطفالي، لبّى كل احتياجاتنا، لم يدعني أحتاج أحدًا. كانوا إذا ركضوا نحوه، أنزل طفله عن حضنه وحملهم، يقبلهم ويلعب معهم كأنهم أولاده".

ذاك الفقد الذي سكن قلب عاصم جعله عذبًا مع الآخرين. في يوم تخرج آية من الجامعة، أصرّ أن يسجل في حفل الخريجين، فاحتفى بها أمام العائلة، وأقام لها حفلًا لا تُنساه: "طرتُ فرحًا به، كأن قلبي لم يعرف قبله معنى الفرح الحقيقي".

لكن حين جاء موعد تخرّجه، رفض أن يحتفل بنفسه، وحين ألحّ عليه الجميع، قال بصوتٍ مكسور: "ما بقدر.. مش رح أتحمل أشوف الكل نازل من المنصة يركض على حضن أبوه، وأنا أبوي مش من الحاضرين".

عاشوا يُتمًا طويلًا، وتعلموا كيف يُرمّم المرء قلبه بالشوق، كيف يُكمل الطريق بلا كتف، ظنّوا أنهم تجاوزوا المحنة، لكن الحياة عادت لتعيد ذات الوجع، لتكسرهم مرة أخرى، ولتملأ بيت رضوان بالأطفال اليتامى، كأن الحزن لا يمل من طرق أبوابهم.

في غزة.. اليُتم يُورَث
أمجد وعاصم رضوان

حكاية لم تكتمل

كما تُورّث الأسماء حبًا ووفاءً للراحلين، كذلك الحزن في هذه العائلة كان ميراثًا ملازمًا لا ينقطع. حين قرر حمزة نصار أن يُطلق على طفله البكر اسم صلاح، كان يريد أن يُحيي اسم والده الشهيد، الذي رحل عام 2002، قبل أن يتمكن حمزة من حفظ ملامحه. أراد لابنه أن يحمل اسم الجد، وأن يحظى بما لم يحظَ به هو.. لكن الحلم لم يكتمل.

فكما اغتال الاحتلال الأب، عاد بعد سنوات ليُكمل الفقد، ويقتل حمزة، تاركًا صلاح الصغير يتيمًا، بلا يدٍ تشده نحو الحياة، بلا أبٍ يكون له الظل والسند. حمزة لم يكن مجرد ابنٍ لوالد شهيد، بل كان عمود البيت، وسند شقيقاته، كتفهم حين مالت بهم الحياة.

حمل المسؤولية باكرًا، كبر وهو يُوزع الحنان بينهم، يُعوّض هذه، ويحتوي تلك، ويكتم ألمه كي يزرع الطمأنينة في قلوب من حوله. وحين قرر أن يُنشئ عائلته، كان يحلم بمستقبل دافئ، بيت آمن، حياة لا يُخيّم عليها الفقد.

لكنه رحل قبل أن يروي هذا الحلم، تاركًا طفله صلاح يكبر في فراغ الأب، يبحث عن صورة تسنده، عن لحظة تجمعه به، عن حضنٍ يأخذه معه حيثما ذهب. والألم لم يقف عند صلاح، بل طال قلب الصغيرة سلوى، ابنة حمزة التي تبلغ من العمر سبع سنوات، نفس العمر الذي كان والدها فيه حين تيتم.

تحمل في وجهها ملامحه، وفي عينيها حزنه، تُطيل الصمت، تنزوي على نفسها، تتألم من إصابتها، لكن لا تطلب شيئًا من هذه الحياة، سوى أن يعود والدها، فهو كان ملاذها كل يوم، عشرات المرات.

كان يحملها كأنها كنزه الوحيد، يُقبّلها، يضحك معها، يُباهي بها الدنيا. تقول عمتها تسنيم إن سلوى لم تعد كما كانت، وكأن شيئًا منها انكسر ولم يُجبَر بعد، وكأن الغياب أطفأ ضوءًا في قلبها الصغير.

هو ذات الوجع يعود في ذات العمر، بنفس الطريقة، ليُكمل دائرة الفقد التي لم تنكسر يومًا في هذه العائلة. فلم يكن حمزة مجرد اسم، بل حياة، وحين غاب، غابت معه ضحكة، ودفء، وأمان، وترك أبناءه يُكملون الطريق في ظل طويل من الغياب.

في غزة، لا يأتي اليُتم من المصادفة، بل من قصفٍ متعمد يسرق الأهل والبيوت دفعةً واحدة. وهنا، لا يُورّث الآباء أبناءهم المال أو المنازل، بل الحكاية ذاتها: يُتم وبقايا صور. ولم يعد اليتم استثناء، بل سلالة حزينة تتكرر؛ فأطفال كثيرون فقدوا آباءهم اليوم، هم أبناء من عاشوا اليُتم بالأمس.

ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد الأطفال الأيتام في غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي 39,384 طفلًا، بينهم 17 ألفًا فقدوا كلا والديهم.