بيسان

ذَهبْ العُمر مقابل الطحين في غزة

المصدر تقارير
ذَهبْ العُمر مقابل الطحين في غزة
دعاء شاهين

دعاء شاهين

صحافية من غزة

داخل محل صغير للمجوهرات في دير البلح وسط قطاع غزة، وقفت بيسان تخلع خاتم زواجها وإسورتين، وتضعها بهدوء على الطاولة الزجاجية. عيناها ثابتتان، لكن قلبها يغلي بحسرة لا تُرى. لم تكن تنظر إلى بريق الذهب، بل إلى وجوه أطفالها التي يُنذرها الجوع بالانطفاء.

بينما يُحاصر سكان غزة بالنار والجوع، تبيع النساء مجوهراتهن لشراء الطحين وإطعام أطفالهن. في الحرب، تصبح الذكريات عبئًا، والذهب وسيلة بقاء

بصوت خافت، قالت للبائع: "أريد نقودًا فقط، أحتاج لشراء كيس طحين". لم تكن صفقة عادية، بل لحظة مكثّفة من الانكسار والصمود في آنٍ. أدرك البائع ذلك، فاكتفى بوزن الذهب ودفع ما يعادله دون مفاصلة. قبضت بيسان النقود كمن يمسك بطوق نجاة، وغادرت مسرعة لا تفكّر في الذهب، بل في سؤال ابنتها الصغيرة ليلة أمس: "ماما، في أكل؟ أنا جعانة".

اقرأ/ي أيضًا: الذهب في غزة في عصره الحجري

"ما آلمني لم يكن بيع الذهب، بل الوداع القسري لذكرياتي"، تقول بيسان حمد (32 عامًا)، وهي أمٌّ لثلاثة أطفال لم يدخل إلى بيتها دقيق منذ أكثر من شهرين: "الخاتم كان أول هدية من زوجي، والإسورتان هدية شقيقيّ الشهيدين يوم زفافي. لكن في زمن الحرب، الذكريات لا تُشبع الأطفال".

بيسان حمد: ما آلمني لم يكن بيع الذهب، بل الوداع القسري لذكرياتي.. لكن في زمن الحرب، الذكريات لا تُشبع الأطفال!

تضيف بيسان: "كنت أُطعم أطفالي من وجبات التكيّات، وحين توقفت لجأت للمعكرونة لصنع الخبز حتى نفدت. ومع اشتداد الجوع، لم أجد أمامي سوى صيغة الذهب، فبعتها لشراء كيس دقيق وصل ثمنه 1800 شيكل، أي نحو 500 دولار. رغم السعر الفلكي، لم أتردد. لم يعد في حياتي شيء أغلى من إنقاذ أطفالي من الجوع".

وتختم بكلمات تختصر المأساة: "القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، ونحن في غزة نعيش أكثر الأيام سوادًا تحت الحصار والإبادة والتجويع".

الذهب بدل الخبز.. الذكريات لا تُشبع الأطفال

في غزة، لا يُحاصِر القصف المدينة فقط، بل يحاصر الجوع الأرواح ويضرب أمعاء الأطفال بلا رحمة. ولم تعد النساء يحتفظن بالذهب للزمن، بل يبعنه لينقذن أبناءهن من الموت جوعًا، وما كان زينةً وذكرى، صار طوق نجاة، وقوتًا ليومٍ لا يشبه أي يوم.

يعيش نحو مليوني إنسان في قطاع غزة تحت وطأة انهيار اقتصادي كامل، مع ارتفاع الأسعار بنسبة تجاوزت 527%، نتيجة الحصار الإسرائيلي ومنع دخول السلع والمساعدات، وفق بيان صادر عن الغرفة التجارية والصناعية بغزة.

ويُحذّر البيان من كارثة إنسانية طويلة الأمد، بعدما بلغت معدلات البطالة أكثر من 85%، وارتفعت نسبة الفقر إلى ما يزيد عن 90%، وسط غياب شبه تام لأي مصدر دخل يمكن أن يوفّر الحد الأدنى من الحياة الكريمة.

لا يُباع الذهب في غزة للزينة أو بدافع الحاجة العابرة، بل يُباع ليؤكل. تُنتزع الخواتم من الأصابع لتشترى بها أرغفة، وتُفرّط النساء بذكرياتهن ليُبقين أبناءهن على قيد الحياة

ومن مخيم جباليا شمال غزة، اضطرت كريمة زقوت (45 عامًا)، المعروفة بأم عدي، للنزوح تحت القصف وأوامر الإخلاء، دون أن تحمل شيئًا معها سوى أبنائها الخمسة، أكبرهم في الخامسة عشرة، وحقيبة صغيرة تضم أوراقًا ثبوتية ودواءً. لا نقود، لا طعام، فقط غريزة النجاة.

تقول في حديثها لـ"الترا فلسطين": "نزحت من بيتي المدمَّر أصلًا بلا شيء. وفي الطريق تذكرت إسورة في معصمي، كانت آخر ما تبقى لي من صيغتي. وبعد عناء، وجدت سائقًا يقبل بنقلنا إلى مخيم الشاطئ غرب غزة، فقلت له: خذ هذه الإسورة، بس وصلني أنا وأولادي لأي مكان آمن".

لم يكن في ذهنها سوى النجاة. لم تسأل عن قيمة الذهب، ولم تتردد في التفريط به. تقول بأسى: "شو رح تعمل لي الصيغة؟ أنا نازحة للمرة السابعة، وحياتي كلّها على كفّ قصف".

صاغة الذهب يشهدون التحوّل: الزبائن يبيعون لا يشترون

ويشهد أحمد نصر الله (38 عامًا)، أحد بائعي الذهب في غزة، على تحوّل عميق في سلوك الناس تجاه الذهب منذ بداية الحرب. إذ يشير إلى أنه وقبل الحرب، كان الزبائن يأتون لشراء الذهب في الأفراح والمناسبات، أمّا اليوم، يأتون لبيعه تحت وطأة الجوع والنزوح.

تُظهر هذه الصورة، التي التُقطت في 22 سبتمبر 2024، مشهدًا للدمار في أحد الأزقة داخل سوق القيسارية التاريخي للذهب في مدينة غزة
صورة التُقطت يوم 22 أيلول/سبتمبر 2024، للدمار في أحد أزقة سوق القيسارية التاريخي للذهب في مدينة غزة (getty)

ويقول إنّ معظم من يقف على باب محله هم أمهات وآباء نزحوا من بيوتهم، يحملون بقايا ما يملكون من ذهب ليشتروا به القليل من الطعام، أو علبة حليب للرضع، أو حفاضات، أو يدفعوا إيجار خيمة أو وسيلة نقل، ويلخص الوضع بالقول: "الوضع مأساوي.. الناس تبيع ذهبها لأجل البقاء فقط. حتى العرسان، بالكاد يشترون خاتمًا ومحبسًا بوزن بسيط لإتمام الزواج".

وفي موازاة هذه المأساة اليومية، تتزايد الأدلة على أنّ الاحتلال الإسرائيلي يتّبع سياسة تجويع ممنهجة كسلاح حرب. 

هندسة الجوع: الاحتلال يتحكم بالسعرات 

ووفق تقارير حقوقية، تُوزَّع المساعدات الإنسانية في غزة ضمن خطة تقنين صارمة، بإشراف أميركي مباشر، تحدد عدد نقاط التوزيع، وعدد الوجبات، وحتى سعراتها الحرارية، بما يضمن بقاء السكان على حافة الجوع، دون الوصول إلى الموت الكامل ولا إلى حياة كريمة.

يقول المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر لـ"الترا فلسطين"، إن الاحتلال لم يكتفِ بتجويع سكان غزة، بل انتقل إلى مرحلة أكثر خطورة سماها "هندسة الجوع". فالمساعدات، كما يوضح، تُوزَّع وفق معدلات مدروسة لا تسد الاحتياجات الأساسية، دون رفع الحصار أو التخفيف من الكارثة الإنسانية.

ويشير أبو قمر إلى أن خطة توزيع المساعدات الأخيرة جاءت بعد توقف دام ثلاثة أشهر، واستهدفت نحو مليوني مواطن عبر أربع نقاط فقط، ثلاث منها في رفح وواحدة في المنطقة الوسطى. ويصف الخطة بأنها "آلية تجويع جماعي مقنّعة"، سرعان ما انهارت مع أول اختبار: في اليوم الأول لتشغيل نقطة تل السلطان غرب رفح، اقتحم آلاف الجوعى مركز التوزيع، واستولوا على محتوياته، في مشهد فوضوي أنهى الخطة عمليًا.

95% من السكان يعيشون على المساعدات 

ويضيف أن غزة تحتاج يوميًا إلى أكثر من 800 شاحنة غذائية، في حين لم يكن يدخل قبل الحرب سوى نحو 400 شاحنة بالكاد تكفي. أمّا اليوم، فقد انخفض المعدل إلى 14 شاحنة فقط، أي أقل من 11% من الحاجة.

ويبيّن أن نسبة الاعتماد على المساعدات ارتفعت من 60% قبل الحرب إلى 95% اليوم. وهذا الانهيار ليس عارضًا، بل سياسة متعمّدة لتجويع مجتمع بأكمله.

اليوم، ومع مرور أكثر من 600 يوم على حرب الإبادة، لا يُباع الذهب في غزة للزينة أو بدافع الحاجة العابرة، بل يُباع ليؤكل. تُنتزع الخواتم من الأصابع لتشترى بها أرغفة، وتُفرّط النساء بذكرياتهن لتبقين أبناءهن على قيد الحياة. إنّها سياسة تجويع وإفقار ممنهجة يصنعها الحصار ويُشرف عليها الاحتلال.