بيسان

"شحبور الشطّور" ومسرح المخيّم.. دمية غزة التي تُبهج الأطفال وتتحدّى القنابل

المصدر تقارير
"شحبور الشطّور" ومسرح المخيّم.. دمية غزة التي تُبهج الأطفال وتتحدّى القنابل
ميرفت عوف

ميرفت عوف

صحفية من فلسطين

بوجهٍ ملائكي، جلست الطفلة مرح، ذات التسعة أعوام، وسط عشرات الأطفال تتابع باهتمام عرض مسرحية "شحبور الشطور". كانت عيناها مركّزتين على عربة العرض، وتحديدًا على المربع الذي تتحرك فيه دمى "الماريونيت". ومن خلف الستار الذي يفصل الدمى عن الممثلين، نظر طاقم المسرح إلى وجه مرح، فأدرك كمّ الألم الذي مرت به. فقد شوّهت إحدى قذائف حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، ملامحها الطفولية.

رغم القنابل والنزوح والدمار، يشقّ "مسرح المخيم" طريقه في غزة ليقدم للأطفال لحظة أمان وجمال عبر عروض عرائس ساحرة.

لكن تلك الابتسامة الخافتة، والتركيز العميق على العرض، منحت الممثلين دفعةً هائلة لتقديم أداء استثنائي، وكأن الفتاة وكل من حولها يطلبون جرعةً من الحياة وسط الخراب.

هذه واحدة من اللقطات التي رصدها "الترا فلسطين" خلال عرض مسرحية "شحبور الشطور"، وهي جزء من نشاطات "مسرح المخيم"، الذي يجوب المدارس المكتظة بالنازحين، والمخيمات والخيام، وأزقة الأحياء المدمّرة، ليمنح الأطفال مساحة آمنة ومبهجة للتفريغ النفسي، من خلال عروض مسرحية تفاعلية.

نشأة "مسرح المخيم"

مع انتهاء العرض، خرجت أسماء الفرع من خلف الستار، متقمّصة دور "العمة زعتورة"، الشخصية التي كانت تحركها خلال المسرحية. اقتربت من الأطفال بروحها المرحة، وراحت تروي لهم القصة الختامية، لتبهرهم أكثر بهذا التحول الساحر من خلف الدمية إلى أمامهم مباشرة.

تعمل أسماء في المسرح الأدائي منذ 17 عامًا، وقد انضمت إلى "مسرح المخيم" خلال الحرب، رغم ما أصابها من معاناة، لإيمانها العميق بقوة الفن في التوعية المجتمعية وشفاء أرواح الأطفال. تشارك اليوم في تقديم عروض داخل مراكز الإيواء ومخيمات النزوح في غزة، على أمل أن تترك ابتسامة أو تخفف من قلق.

ممثلة مسرح المخيم اسماء الفرع
ممثلة مسرح المخيم أسماء الفرع

يعود تأسيس "مسرح المخيم" إلى ما قبل الحرب، تحديدًا في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، حيث يقيم مؤسس المشروع الفنان يوسف الهندي وعدد من أفراده. وبفضل طبيعة المخيمات الفلسطينية التي تمتزج فيها العادات بالتضامن المجتمعي، انطلقت الفكرة كمبادرة صغيرة من مختصين في السيكودراما ومسرح الدمى ومسرح الطفل.

يوسف الهندي، مؤسس مسرح المخيم: لم نعد ننتظر نهاية الحرب.. قررنا أن نواصل، لأن إنقاذ الأطفال نفسيًّا لا يحتمل التأجيل

في 1 آب/أغسطس 2023، كانت أولى المبادرات بعنوان "خُراف سيدي"، وهي مسرحية تناولت قضية حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم المحتلة عام 1948. يقول الهندي، وهو فنان تشكيلي ومختص نفسي اجتماعي: "مع اندلاع الحرب، شعرنا أن الحديث عن حق العودة اكتسب طابعًا شخصيًا ومباشرًا. عدنا نحن أنفسنا – سكان غزة والشمال – إلى الحنين لبيوتنا المهجّرة، كما فعل أجدادنا يومًا".

استمرار رغم الحرب

ثمانية شهور كاملة توقّف فيها "مسرح المخيم" عن العمل بفعل حرب الإبادة، فمعظم أعضاء الفريق نزحوا من شمال القطاع إلى جنوبه، حيث واجهوا ظروفًا قاسية في الخيام، وانشغلوا بتأمين أساسيات الحياة لعائلاتهم.

لكن رغم هذا الواقع، قرروا الاستمرار. يقول يوسف الهندي: "لم نعد ننتظر نهاية الحرب. قررنا أن نواصل، لأننا نؤمن بأن إنقاذ الأطفال نفسيًّا لا يحتمل التأجيل. كان لا بد من انتشالهم من الحزن والقلق وفقدان الأفق، ومنحهم أملاً ولو صغيرًا".

مؤسس "مسرح المخيم" يوسف الهندي
مؤسس "مسرح المخيم" يوسف الهندي

من رفح، حيث لجأ معظم سكان غزة وشمالها، بدأ الفريق من جديد، مقدّمين عروضًا استهدفت عشرات الأطفال في مخيمات النزوح. وساهمت مؤسسات مثل "مؤسسة عبد المحسن القطان"، و"جمعية إنقاذ المستقبل الشبابي"، و"مركز العمل التنموي – معًا"، في دعم هذه العروض.

المخرج المسرحي محمد شعشاعة: مسرحية صندوق ليلى لم تكن مجرّد عرض ترفيهي، بل شهادة على أن الفن قادر على فتح نافذة ضوء وسط عتمة الحرب

ثم، ومع موجة النزوح الجديدة من رفح نحو خانيونس والمنطقة الوسطى، استمر المسرح بالعمل، وقدم عرض "عائلة أمل"، الذي تناول آثار الحرب النفسية على الأطفال، وسعى لمعالجة مخاوفهم وسلوكياتهم المضطربة مثل القلق والانطواء والخوف الشديد.

"شحبور الشطور": كيف يزرع مسرح العرائس الأمل في قلوب صغار غزة؟

المخرج المسرحي محمد شعشاعة، أحد أعمدة الفريق، يقول لـ"الترا فلسطين": "بدأنا وسط الخيام، من دون خشبة حقيقية أو تجهيزات فنية. كنا نصنع من أي شيء فرصة للعطاء. كل عرض كان تحدّيًا جديدًا".

ويتابع شعشاعة، الذي أخرج عدة عروض للمسرح: "مسرحية صندوق ليلى لم تكن مجرد عرض ترفيهي، بل شهادة حية على قدرة الفن على فتح نافذة ضوء وسط عتمة الحرب. كنا نأخذ الأطفال في رحلة خيال قصيرة، تبعدهم قليلاً عن كل هذا الدمار".

العودة إلى غزة: عروض وسط الركام

مع عودة "مسرح المخيم" إلى شمال قطاع غزة في كانون الثاني/يناير الماضي، لم يكن التحدي في إعادة العروض فحسب، بل في تطوير الفريق وصقل أدواته الفنية.

يقتنص يوسف الهندي ما تيسّر له من وقت لتدريب أعضاء الفريق على صنع دمى جديدة بفم واسع، يسهل تحريكها والتفاعل بها مع الأطفال، سعيًا لتنويع الأساليب وتعزيز جودة الأداء المسرحي.

وكانت أولى المسرحيات بعد العودة "شحبور الشطور"، التي تتناول مخاطر مخلفات الحرب. في المسرحية، يحاول الأخوان شحبور وكعبور الوصول إلى هاتف محمول داخل متجر مدمّر، لكن شحبور يتجاهل تحذيرات شقيقه ويعبث بمخلّفات خطيرة، ما يعرّضه للخطر، ويوصل للأطفال رسالة توعوية عن خطورة التعامل مع بقايا القصف.

"شحبور الشطور": كيف يزرع مسرح العرائس الأمل في قلوب صغار غزة؟

لم تكن هذه المرة الأولى التي يطرق فيها المسرح هذا الموضوع. إذ سبق أن قُدّمت مسرحية "مشروع أنيس" بذات الهدف، لكن بنمط مختلف.
ومع عرض "صندوق ليلى"، حدثت نقلة نوعية في التجربة الفنية للمسرح، حيث تم الدمج بين مسرح الطاولة والمسرح الأدائي، لتقديم حكاية الدمية الساحرة "ليلى"، وصندوقها السحري الذي يحقّق الأمنيات، ويمنح الأطفال أملاً في مواجهة الخوف والتوتر، وكأنها تقول لهم: "كل شيء ممكن، حتى في الحرب".

يقول يوسف الهندي إن "صندوق ليلى" كان تجربة مسرحية غير مسبوقة في غزة من حيث الشكل الفني والتقني. أما المخاطر، فهي لم تغب حتى بعد العودة.

يستعيد الهندي مشهدًا لا يغيب عن ذهنه: "في ثالث أيام عيد الفطر، وقع قصف قرب منطقتي، وسقط فيه شهداء من معارفي. ورغم الحزن، اضطررت للذهاب إلى الشجاعية لتنفيذ عرض مقرر. أنهينا العرض، وقبل أن نغادر، قصف الاحتلال المكان مرة أخرى".

رغم الموت القريب، يواصل المسرح عروضه، كمن يمشي على حدّ السكين، لكنه لا يتراجع عن زرع بذرة أمل في قلب كل طفل.

مسرح الحياة وسط الموت

في غزة، حيث يتجاور الموت والضحك على مسرح من الأنقاض، لا يبحث الأطفال عن إجابات، بل عن لحظة واحدة من الدهشة.

ومع كل عرض يقدمه "مسرح المخيم"، يعود شحبور الشطور ليهمس في أذن الصغار: ما زال هناك ما يُروى، وما يُضحك، وما يُحلم به، حتى في زمن الإبادة.

هكذا، لا يقدّم المسرح فنًا فحسب، بل يزرع الحياة في قلوب نكأتها الحرب، ويذكّر الجميع أن الطفولة، مهما جرّحتها القذائف، لا تزال تُحبّ العرائس وتصدق السحر.

"شحبور الشطور": كيف يزرع مسرح العرائس الأمل في قلوب صغار غزة؟