ظلامٌ حالك، وانفجاراتٌ عنيفةٌ متتالية، وبقايا البيوت تهتز، وشظايا متطايرة، ونيرانٌ مشتعلة، وأطفالٌ يصرخون ويبكون، وأمهاتٌ يُحاولن جاهدتٍ لتهدئتهم ومنحهم شيئًا من الأمان المفقود، وبداخلهن تشتعل نيران الرعب، أما الآباء فلا تغفوا عيونهم عن حراسة عائلاتهم. هذا هو المشهد السائد كل ليلة في عموم قطاع غزة على مدار نحو 19 شهرًا من حرب الإبادة الإسرائيلية.
الاحتلال يتعمّد تصعيد غاراته خلال الليل، لإثارة الرعب كأداة ضغطٍ لتحقيق أثر نفسي عميق، ولأنه يعلم أن انقطاع الكهرباء والظلام الدامس خلال الليل يُعقدان عمل فرق الإنقاذ ويؤخران استجابتهم
"أجا الليل وأجا همه"
وما إن يسدل الليل ستاره، حتى يتسلل الخوف والقلق إلى دعاء حامد (38 عامًا)، ويتزايدان مع حلول الظلام إلى حد الهلع، لتبقى طوال الليل تعدُّ الثواني لبزوغ الشمس لتشعر معها بنوع من الطمأنينة والأمان.
وتقول دعاء: "غروب الشمس يصيبني بحالة من القلق والاكتئاب، ويجعلني أعيش في حالة رعب حقيقي، فقدوم الليل يشكل همًا كبيرًا، فأصوات الصواريخ وقذائف الدبابات، وهي تسقِط حمم غضبها تقتلع معها قلوبنا، فضلًا عن طائرات الاستطلاع التي تنخر فوق رؤوسنا من أصواتها المقلقة التي لا تهدأ، والطائرات الحربية التي تكسر حاجز الصوت، وطائرات الكوادر كابتر والأباتشي برصاصهما المرعب الذي يصيب كل مكان، والمحظوظ من يستطيع أن يسرق غفوة من الليل الطويل".
وأضافت دعاء: "طوال الليل لا ننام من الخوف والتفكير، عندما نبدأ نتخيل أن الصاروخ القادم سيسقط علينا وسوف يبحثون عنّا بين الأنقاض، نخشى على أطفالنا، ولا نملك سوى الدعاء بأن يحفظنا الله".
اقرأ/ي أيضًا: عن خبايا الليل في غزة
طوال الليل لا يفارق يد دعاء هاتفها المحمول، مستعينة بالضوء الصادر عنه في منح أطفالها وحتى نفسها نوعًا من الطمأنينة، وسط حالة الظلام الدامس التي تلف المكان، محاولة بهاتفها تعويض غياب أي مصدر طاقة لديها نتيجة تلف البطارية التي كانت العائلة تعتمد عليها في الإنارة، ولعدم قدرتهم على شراء بديل لها بسبب ارتفاع أسعار هذه البطاريات في الأسواق.
وأوضحت دعاء حامد، أن زوجها يبقى هو الآخر يقظًا طوال الليل، لا ينام إلا ساعات قليلة، حتى بزوغ ساعات الفجر خوفًا من وقوع قصف قريب منهم وامتداد النيران لخيمتهم وهم نائمون، أو دخول الكلاب الضالة لخيمتهم.
وتسكن دعاء حامد مع عائلتها في خيمة من النايلون المقوى في منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس، لا تحميهم من شظايا الصواريخ المتطايرة مع كل قصف قريب، بعد أن دمر الاحتلال منزلهم في مدينة رفح في منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2024.
وتستذكر دعاء احتراق خيمة مجاورة لخيمتها قبل أربعة شهور، وتناثر الحجارة والشظايا في كل مكان، ما أدى إلى إصابة ابنتها الكبرى ريم (15 عامًا) بشظية في القدم مكثت على إثرها في المستشفى عدة أيام.
وأشارت إلى أن أطفالها الخمسة يستيقظون خلال الليل عدة مرات مفزوعين من أصوات القصف والانفجارات، ثم يعودون للنوم مرة أخرى وقلوبهم ترتجف من شدة الخوف، حتى إن بعضهم بات يعاني من حالة نفسية صعبة وظهر ذلك على سلوكهم.
"أكره الليل"
الطفلة مريم أبو جامع (10 أعوام) تستيقظ خلال الليل مفزوعة مع كل قصف جديد ينفذه جيش الاحتلال على مدينة خانيونس، وتدخل في حالة من البكاء الشديد، وتلتصق بوالديها طوال الليل. تقول: "أكره الليل وأخاف أن يأتي لأننا لا نعرف أين نذهب إذا تعرضنا للقصف. ما بقدر أنام، نفسي لا تعتِّم الدنيا ولا يجي الليل، إسرائيل بجن جنونها علينا بالليل بشكل مخيف".
ولا تتوقف مريم عن تكرار الأسئلة ذاتها على والديها: "على مين الدور في الموت اليوم؟ هل سنموت جميعًا في هذه الليلة؟ أم سأصاب وتُقطَّع أجزاء من جسدي؟ أم سندفن تحت ركام المنزل حتى تتحلل أجسادنا؟".
ولا تغيب عن ذاكرة مريم مشاهد الدماء والأشلاء، عندما حاصر الاحتلال عائلتها في كانون الثاني/ يناير 2024، في إحدى مدارس الإيواء شرق مدينة خانيونس، وسط عمليات قصف عنيف أدت إلى وقوع شهداء وإصابات، حتى إنها لم تستطع النوم خلال يومين متتالين على إثر ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: اليوم في غزة: نهارٌ مقتول وليلٌ من ألم!
والد مريم، فارس أبو جامع، يقول إن "الأطفال يتابعون الأخبار ويعرفون كل شيء من حولهم، ولا نستطيع إخفاء ما يحصل عنهم، فهم يشاهدون أطفالًا آخرين أصبحوا عبارة عن أشلاء، أو باتوا تحت الأنقاض، وهذا يضاعف من قلقهم وتوترهم".
ويضيف أبو جامع: "الليل شرق مدينة خانيونس، في منطقة عبسان الجديدة، كابوس حقيقي لكون المنطقة قريبة من الحدود، حيث لا توجد إضاءة أو كهرباء، ووسط الظلام الدامس تنهمر أنواع القذائف والصواريخ كافة، ولا تهدأ نفوسنا إلا مع بزوغ الفجر، وحينها نقول الحمد لله، ما زلنا على قيد الحياة".
وكيف يتعامل أبو جامع مع أطفاله الثلاثة في هذه الظروف؟ يُجيب أنه "يحاول أن يبقى متماسكًا، وأن لا يُظهر الخوف أمامهم حتى لا يشعرهم بالخوف والضعف".
كابوس مروع
أما ميساء حمودة (36 عامًا)، فمنذ استشهاد زوجها قبل أكثر من عام في غارة على البريج، تعيش في منزلها برفقة أطفالها الثلاثة، أكبرهم محمد (13عامًا) وأصغرهم ملك (4 أعوام)، مما يجعل الليل بالنسبة لها كابوسًا مروعًا.
ولا تنسى ميساء واحدة من أصعب الليالي التي عاشتها في الحرب، عندما تعرض منزلها الواقع على مقربة من محور نتساريم إلى عدد من القذائف المدفعية أصابت الطابق العلوي، وتقول: "أصيب أطفالي بحالة رعب كبيرة ودخلوا في نوبة بكاء شديدة، واضطررنا للخروج تحت جنح الظلام واستمرار القصف نحمل وجعنا في قلوبنا وبعض أمتعتنا المهمة التي كنا نحضرها جميعها في حقيبة خاصة بالنزوح، وذهبنا إلى منزل شقيقتي الذي يبعد قليلاً عن مرمى النيران".
اقرأ/ي أيضًا: بين الخيمة و"الحمَّام".. رحلة رعبٍ ليلية في غزة
ومنذ استئناف حرب الإبادة وعودة جيش الاحتلال إلى محور نتساريم، تجمع ميساء، مع غروب شمس كل يوم، أطفالها الثلاثة حولها ولا تستطيع النوم طوال الليل خوفًا عليهم، أما الأطفال فتتسارع نبضات قلوبهم وترتجف أجسادهم خوفًا، إذ يُسيطر عليهم الخوف من تساقط القذائف بالقرب منهم، ويصرخون كلما ابتعدت أمُّهم عنهم قليلاً، "لذلك أنتظر طلوع الشمس على أحر من الجمر" تُضيف ميساء.
عواقب طويلة الأمد
وفي السياق، يؤكد استشاري الصحة النفسية الدكتور ماجد أبو النجا، أن الاحتلال الإسرائيلي، يتعمّد تصعيد غاراته خلال الليل، من جهة لإثارة الرعب كأداة ضغطٍ لتحقيق أثر نفسي عميقٍ على الأطفال والنساء، ومن جهة أخرى لأنه يعلم أن انقطاع الكهرباء والظلام الدامس خلال الليل يُعقدان عمل فرق الإنقاذ ويؤخران استجابتهم، ما يتيح إيقاع أكبر عدد من الخسائر البشرية وقتل عائلات بأكملها.
ويقول ماجد أبو النجا لـ الترا فلسطين، إن فترة الليل في قطاع غزة باتت مرتبطة ذهنيًا بعقول السكان وخاصة فئة الأطفال بالخوف الشديد، حيث يتحول الظلام إلى مصدر للرعب بسبب غياب الكهرباء، مما يعمّق الإحساس بانعدام الأمان.
ويُبين أبو النجا أن الغارات الليلة الإسرائيلية تُسبِّبُ صدماتٍ قويةٍ في نفوس الأطفال، وتترك عليهم آثارًا جسدية واضحة مثل تسارع نبضات القلب والتنفس، والتبول اللا إرادي؛ خاصة عند سماع الانفجارات، وارتعاش الأطراف، وآلامٍ متكررةٍ في المعدة أو الرأس دون أسباب طبية، إضافة إلى نوبات بكاء مفاجئة، وتغيرات نفسية وسلوكية مثل التعلق المفرط بأحد الوالدين، والانعزال، وكوابيس مزعجة، ورهاب من الظلام أو الأصوات العالية، والقلق الدائم بشأن الموت أو فقدان الأهل.
الأطفال والنساء الذين عاشوا أو يعيشون تحت القصف والتهديد المستمر، معرّضون بدرجة كبيرة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة، سواءً خلال فترة الحرب أو حتى بعد انتهائها بسنوات
أما النساء، فيوضح أبو النجا، أنهن يواجهن مزيجًا من الأعراض الجسدية والنفسية نتيجة التوتر والخوف المزمن، مثل خفقان القلب، والدوخة، وآلام المعدة أو الصدر، والإرهاق الدائم رغم قلة الجهد، وقد يعانين من نوبات هلع مفاجئة تظهر في بكاء غير مبرر، وأرق شديد، وفقدان الشهية أو الأكل المفرط.
ويضيف أن الأطفال والنساء الذين عاشوا أو يعيشون تحت القصف والتهديد المستمر، معرّضون بدرجة كبيرة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة، سواءً خلال فترة الحرب أو حتى بعد انتهائها بسنوات، جراء الحرمان من النوم لفترة طويلة، حيث يشعر هؤلاء أن عليهم البقاء مستيقظين حتى يتمكنوا من الهروب في حالة الخطر، مؤكدًا أن هذا الاضطراب "صعبٌ جدًا، ويحتاج إلى وقت طويل من العلاج".
ويشير ماجد أبو النجا إلى أن الصدمات النفسية ومشاهد الدماء والأشلاء تؤثر بشكل مباشر وعميق على القدرات النفسية والذهنية للأطفال، وتترك آثارًا طويلة الأمد، مثل القلق المزمن، والكوابيس، والخوف من الموت أو الانفصال عن الأهل، خاصة إذا لم يتم التعامل معها مبكرًا بالطريقة الصحيحة، لكون الطفل لا يملك أدوات الوعي أو التكيّف مثل البالغ، وبالتالي الصدمة يمكن أن تعيق نموه النفسي والعقلي، وتُغير مسار تطوّره الطبيعي.