بيسان

أمومة "بالنيابة" في غزة

المصدر تقارير
أمومة "بالنيابة" في غزة
آصال أبو طاقية

آصال أبو طاقية

صحفية ومدونة فلسطينية من غزة

لم يخطر ببال العشرينية آية دبابش، أن يُكتب في قدرها أن تكون "أمًّا بالنيابة"، وأن يتحول حضنها إلى وطنٍ صغير يحتضن طفلة لم تُكمل عامها الأول بعد. سيلين، ابنة شقيقتها، الناجية الوحيدة من قصف إسرائيلي قتل كل عائلتها، لتخرج منه مثقلة بالإصابات، وبيُتمٍ أكبر من جسدها الصغير.

في وجه الغياب، وجدت هؤلاء الشابات والفتيات أنفسهن في قلب تجربة لم يتجهزن لها، وقد تكون أكبر من أعمارهن، وهي تربية أبناء إخوتهن أو أخواتهن الذين غيَّبهم القصف

آية دبابش، واحدةٌ من قصص كثيرة لأمومة ولدت من تحت الركام في قطاع غزة الذي يُطحن يوميًا بقصف إسرائيلي، حيث ظهرت وجوه صغيرةٌ نجت من الموت، لكنها لم تنجُ من اليتم. وفي وجه الغياب، وجدت هؤلاء الشابات والفتيات أنفسهن في قلب تجربة لم يتجهزن لها، وقد تكون أكبر من أعمارهن، وهي تربية أبناء إخوتهن أو أخواتهن الذين غيَّبهم القصف.

"بلسمي وبلسمها"

تستذكر آية اللحظة التي شعرت فيها لأول مرة أنها صارت أمًا: "كان القصف عنيفًا جدًا، ودوّى قريبًا منا، هرعت كل أخواتي إلى أطفالهن، أما سيلين فكانت وحدها، ممددة على الفراش، بالكاد تتحرك. كانت المرة الأولى التي أجرؤ فيها على حملها، جسدها كله إصابات، ومن يومها شعرت أنها صارت قطعة مني".

ورغم حبها الفطري للأطفال، تصف آية دهشتها من أمومة فرضت عليها فجأة: "شعوري تجاه سيلين مختلفٌ تمامًا، لم تكن زيارة عابرة كما اعتدت، بل صارت حياة كاملة، في البداية راودني الخوف، قلت في نفسي: هل أقدر على كل هذا؟ أنا أصغر من أن أكون مسؤولة عن طفلة! لكنّي وجدت نفسي أحبها جدًا، أقوم بكل ما تحتاجه، وكأنها وُلدت مني. سيلين كانت البلسم الذي جبر كسري، قبل أن أكون أنا بلسمها".

اقرأ/ي أيضًا: "الناجون الوحيدون" في غزة.. مصير مجهول لآلاف الأطفال الذين فقدوا كل شيء في الإبادة

تبدو آية قوية حين تتحدث، لكنها تنهار بصمت حين ترى سيلين تركض خلف الأطفال، وتنادي "ماما" على غير أمها، وتقول بصوت مخنوق: "أختي كانت متعلقة بسيلين لدرجة لا توصف، كنا نخطط سويًا لتفاصيلها الصغيرة التي أحببناها قبل أن تكبر. لكن كل شيء اختفى فجأة، رحلت أختي، وبقيت سيلين".

الطفلة الناجية سيلين

ثم تهمس متحدثة عن العمر الضائع: "كان من المفترض أن أكون قد تخرجت الآن، والتحقت بوظيفة مثل كل أصدقائي خارج غزة، لكن حياتي متوقفة منذ أكثر من عام ونصف. الحرب أخذت منا كل شيء تقريبًا، وأخاف أن المستقبل لا يُنصفني".

وتتابع: "أحيانًا أشعر أنني على وشك الانهيار، لكن محبة سيلين تُبقيني واقفة. كلما ضعفت، تذكّرت أن الله كتب لسيلين عمرًا جديدًا، وشفاءً بعد الألم، فأسلّم أمري لله، وأمضي لأجلها".

"امتلأ قلبي بحبّ سارة"

آلاء الحسنات بدأت هي الأخرى رحلتها مع "الأمومة" من تحت ركام بيتها المدمر، بعد أن فقدت معظم أفراد عائلتها، وخرجت جريحة من تحت الأنقاض، تروي: "نُقلت للمستشفى ولم أكن أعي من بقي ومن رحل، وبين الصدمة والألم، كانت سارة، ابنة شقيقتي، تبكي دون توقف، حتى وضعوها في حضني فسكتت. شعرتُ أنها تعرّفت إليّ كأم، ومن يومها صارت جزءًا مني".

ورغم أن آلاء لم تكن قريبة من عالم الأطفال، إلا أن "الله ملأ قلبي بحب سارة، الطفلة التي سرق الاحتلال منها والديها"، كما تقول. 

آلاء الحسنات وسارة

ومع الوقت، أدركت آلاء حجم المسؤولية، فصارت تغوص في كتب التربية، وتلتمس من صديقاتها ما يعينها على مسؤوليتها الجديدة. لكن الطريق لم يكن سهلًا، فتحت الحصار والمجاعة كانت آلاء تؤمّن بصعوبة ما يُبقي سارة على قيد الحياة من حليب وملابس ودواء.

تضيف: "تغيرت حياتي بالكامل؛ أشتاق إلى عملي الصحفي، إلى عائلتي، لكن كل شيء تغير، أصبحت الآن أعيش لسارة، هي الأمان في وسط خوفي، وهي المعنى الوحيد الذي تبقّى لي، وكلما نادتني ماما، أشعر بوجع لا يُوصف، وأدعو على من حرمها دفء أمها وأبيها".

تتذكر آلاء مشهدًا مؤلمًا حين حدّقت سارة طويلًا في أحد أقاربهم؛ لأنه يشبه والدها، وكأنها تنتظر منه حضنًا غائبًا: "أخشى على سارة من الفقد من جديد، مستعدة أن أتنازل عن كل شيء فقط لتبقى معي".

أمومةٌ بعد فاجعة

هناء القريناوي (34 عامًا)، أمٌ أخرى كُتبت لها الأمومة لطفل شقيقتها الذي جاء بعد 16 عامًا من الانتظار، إلا أنه وجد نفسه وحيدًا غارقًا في يتمه قبل أن يعي الحياة.

لم يكن أسامة مجرد طفل جديد في العائلة، بل كان معجزة انتظرتها أمه أماني ووالده طيلة ستة عشر عامًا، تخللها إجراء خمس عمليات زراعة فاشلة، وخيبات طبية متكررة، وأمل واحد تعلّقا به طويلاً، حتى جاء أسامة في زمن الحرب، ليكون قدره أن لا يراه والده سوى بضعة أيام، ثم يرتقي شهيدًا، قبل أن تلتحق أماني بزوجها بعد عدة أشهر، ويبقى أسامة وحيدًا. 

وعن لحظة استشهاد والدة أسامة، تقول هناء: "لحظة القصف، شعرت وكأن روحي تنتزع مني، ركضت فورًا للمكان، وجدت أماني جثة هامدة، ولم يخطر ببالي غير سؤال واحد، لمين تركت أماني أسامة؟ وليش راحت قبل ما تسمع منه كلمة ماما؟".

وتضيف بألم: "قرار تربية أسامة مش بسيط، أنا فتاة عندي حياتي وشغلي، لكن تحمّلت مسؤوليته، سأكون له الأم والأب، سأعوضه وأعطيه الأمان، وأبني له حياة لا قهر فيها، حلمي أن نكون معًا في مكان أفضل، بعيدًا عن الخوف الذي يلاحقنا كل لحظة".

ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن عدد الأطفال الأيتام في غزة بلغ 39 ألفًا و384 طفلًا فقدوا أحد والديهم أو كليهما منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية، من بينهم نحو 17 ألف طفل حرموا من كلا الوالدين.