بيسان

استهداف تكايا غزة.. حين يختلط الطعام بأشلاء الجياع

المصدر تقارير
استهداف تكايا غزة.. حين يختلط الطعام بأشلاء الجياع
سفيان نايف الشوربجي

سفيان نايف الشوربجي

صحفي فلسطيني مستقل من قطاع غزة، مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي، حاصل على درجة...

أمام إحدى تكايا الطعام في مواصي مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، كان يصطف عشرات النازحين في طابور اعتيادي لأخذ وجبة الطعام اليومية. كان المشهد طبيعيًا والطعام يغلي على نار الحطب، والمشرفون والمتطوعون يتسابقون في إعداد الوجبات، قبل أن تحول صواريخ الاحتلال إلى مشهد يغطيه الدمار وتملؤه الدماء، ليرتقي إثر ذلك 7 شهداء بينهم أطفال.

رغم مشاعر الخوف التي تسيطر على النازحين من ارتياد "تكايا الطعام"، غير أن العائلات النازحة لا تجد خيارًا بديلاً عن هذه التكايا يُجنِّبها الموت جوعًا 

في هذا الصباح القاتم، لم تكن الطفلة دعاء (6 أعوام) تتخيل أن الطريق الذي تسير فيه حاملة طبقًا فارغًا على أمل أن تعود بداخله طعامها لذلك اليوم، هو ذاته الطريق الذي يأخذها إلى نهاية حياتها. يقول والدها محمد أبو جامع:  "كانت كل ما تريده دعاء فقط الحصول على بعض الطعام لعدم توفر المواد الغذائية في الأسواق وارتفاع أسعارها، وكانت هذه أول مرة ترافق فيها دعاء شقيقاتها إلى التكية التي تبعد عن مكان وجودنا مسافات طويلة".

وأوضح محمد أبو جامع، أن طفلته دعاء كانت ترتدي الثوب الفلاحي المطرز الأقرب لقلبها، "وكأنها كانت تشعر أنها ستُستشهَد في ذلك اليوم فأرادت أن تتزين بأفضل الملابس" حسب قوله. 

طعام مغمّس بالدماء 

الطفلة تالا منصور (12 عامًا)، واحدة من الناجين من هذه المجزرة، كانت تقف في نهاية طابور طويل وفي يديها وعاء فارغ تنتظر دورها في الحصول على الفاصوليا والأرز للعودة إلى خيمتها بطعام ساخن يسد جوع أشقائها وعائلتها، قبل أن يمتزج وعاؤها بدماء المصابين.

تقول تالا الطويل: "كل شيء كان طبيعيًا ويسير مثل كل يوم، وفجأة سمعنا صوت انفجار عنيف بجوارنا والغبار غطى كل شيء ولم أعُد أرى شيئًا، عندها بدأت في البكاء والصراخ".

وتضيف: "من شدة الانفجار وقعت على الأرض ولم أستطِع الحركة، وبعد لحظات بدأت أستوعب ما يجري من حولي، عندما رأيت الأطفال ملطخين بالدماء والشباب والنساء أشلاؤهم مقطعة، فقلبي كاد يتوقف من الذعر حتى تمكنت من الهروب من المكان". 

"حتى لا نموت جوعًا"

ورغم مشاعر الخوف التي تسيطر على النازحين من ارتياد "تكايا الطعام"، غير أن العائلات النازحة لا تجد خيارًا بديلاً عن هذه التكايا يُجنِّبها الموت جوعًا بعد 555 يومًا من حرب الإبادة. يقول محمد وصفي (42 عامًا) إن الوضع في غزة "صعبٌ جدًا، فلا يوجد طعام ولا خضار ولا لحوم، وحتى لقمة الطعام أصبحت مغمسة بالدماء والخوف".

ويضيف وصفي: "الاحتلال يريد قتلنا ونحن جياع، فيعمل على قصف كُل من يُطعمنا، ولكن لا بدائل لنا، فأين نجد تكية نذهب لها حتى لو كانت بعيدة عنا، واحنا ونصيبنا، إما أن نعود بالأكل إلى أطفالنا أن نموت في القصف".

ولا تكفي وجبة صغيرة من الطعام، عائلة محمد وصفي المكونة من ثمانية أفراد، مما يضطرهم إلى الاصطفاف مُتفرقين في طابور التكية لكي يستطيعوا جلب ما يكفي يومهم من الطعام، رغم مشاعر الخوف الكبيرة التي تسيطر عليهم. 

ومنذ منتصف شهر آذار/مارس الماضي، استهدف الاحتلال بشكل مباشر أربع تكايا في قطاع غزة. ويقول ياسر عبد الحميد، أحد المتطوعين في تكية طعام تعرضت للقصف في خانيونس، إنه كان منهمكًا في توزيع الطعام على الأطفال برفقة زملائه، وكل شيء يسير على ما يُرام، "ولكن في لمح البصر انقلب كل شيء، فالدماء ملأت المكان، وتعالى صراخ وبكاء الأطفال والنساء، وتبعثرت الأواني المملوءة بالطعام، وتحولت التكية إلى كتلة من النيران".

ويضيف ياسر عبد الحميد: "وجدتُّ نفسي ملقىً على الأرض، فقد تعرضت لإصابة متوسطة في يدي اليمنى، وبدأت أزحف وسط الغبار والنيران المشتعلة في المكان، رغم إصابتي لكن كان كل همي إنقاذ الأطفال التي بدأت النيران تلتهم أجسادهم البريئة".

وتابع: "لم أكن أتخيل أنني سأنجو من هذه الحادثة المفجعة، رأيت الدماء وأشلاء الأطفال بين أواني الطعام التي انقلبت على الأجساد، ولم أعُد أفرِّق بين الطعام والأشلاء".

وأشار ياسر عبد الحميد إلى أن التكية التي كان يتطوع فيها تضررت بشكل كبير وتحولت إلى كومة من الرماد، حيث أحرقت النيران أواني الطعام وتطايرت القدور الكبيرة التي كانت تغلي على نار الحطب، ولذلك توقف العمل فيها وحرمت عشرات العائلات التي لا تجد شيئًا تأكله من الطعام.

استهداف ممنهج

ويؤكد وديع أبو فنونة، المشرف على "تكية الكل" العاملة في النصيرات وسط قطاع غزة، أن تكايا الطعام في قطاع غزة أصبحت بمثابة طوق النجاة من الموت جوعًا لعشرات آلاف المحاصرين، وهي الآن ، تواجه تحديات كبيرة، بعد نحو 40 يومًا من إغلاق المعابر والعودة لمنع دخول المساعدات، مبينًا أن أبرز هذه التحديات: النقص الحاد في المواد الأساسية كالخضار واللحوم، وغاز الطهي، بالإضافة إلى عمليات الاستهداف الممنهج من قبل جيش الاحتلال، سواءً عبر القصف المباشر أو عبر منع وصول الإمدادات.

ويؤكد وديع أبو فنونة، أن الاحتلال الاسرائيلي تعمد في الآونة الأخيرة الاستهداف المباشر لتكايا الطعام، ما أعدم شعورهم بالأمان أثناء العمل، مشيراً إلى أنهم بدأوا في اتخاذ بعض إجراءات السلامة من خلال التوقف عن التجمعات الكبيرة في وقت واحد، وتقسيم توزيع الطعام على فترات خلال اليوم.

وبيَّن أبو فنونة، أن "تكية الكل" تقدم ما بين 600 إلى 750 وجبة يوميًا، ورغم الاستهدافات المتكررة التي تعرضت لها بعض هذه التكايا، إلا أن الاقبال عليها ما زال كبيرًا مع الحاجة الكبيرة للعائلات، وغياب أي مصدر آخر يعتمدون عليه في إطعام أطفالهم الجوعى.

وأكد أبو فنونة، أن التكية "لم تعد مُجرد مشروع خيري، بل ضرورة ملحة وواجبًا دينيًا ووطنيًا لتعزيز صمود أبناء شعبنا والوقوف بجانبهم في ظل الأوقات الصعبة".

ووفق معطيات نشرها المكتب الإعلامي الحكومي في غزة مؤخرًا، فقد استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر 26 تكية طعام في القطاع، كانت تقدم وجبات للنازحين والجائعين، كما قصف أكثر من 37 مركز توزيع مساعدات، منذ بداية الحرب على قطاع غزة.

منذ بداية الحرب على غزة، استهدف جيش الاحتلال بشكل مباشر 26 تكية طعام في القطاع، كانت تقدم وجبات للنازحين والجائعين 

وأوضح المكتب الإعلامي الحكومي، في بيان، أن التكايا المستهدفة كانت توزع الطعام على النازحين والجائعين في أماكن مختلفة من القطاع.، مشيرًا إلى أن هذه الاعتداءات تأتي في وقت يعيش فيه القطاع حالة مجاعة حقيقية، بسبب الحصار الخانق ومنع دخول المواد الغذائية والطبية.

من جانبها، حذّرت منظمة الصحة العالمية من التدهور الخطير في الوضع الصحي لآلاف النساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة، مبينة أن 90 في المئة منهن يعانين من سوء تغذية حاد.

وأوضحت منظمة الصحة العالمية، أن نحو 60 في المئة من أطفال غزة، أيضًا، يعانون من سوء التغذية، حيث يعجز العديد منهم عن الحصول على غذاء كافٍ يضمن نموهم الصحي، مؤكدة أن القيود المفروضة على حركة المواد الغذائية والمساعدات تساهم في تفاقم الأزمة.