بيسان

ويلات الحرب تلاحقهم.. فئة الصُمّ في غزة تصرخ بلا صوت

المصدر تقارير
ويلات الحرب تلاحقهم.. فئة الصُمّ في غزة تصرخ بلا صوت
أحمد الأغا

أحمد الأغا

صحفي من غزة، مهتم بالقضايا الاجتماعية

​حينما خرج من منزله يوم الثامن من آذار/مارس 2024، لم يدرك الفتى الفلسطينيّ عبدالله البريم (16 عامًا) من مدينة خانيونس جنوبيّ قطاع غزّة، الخطر المُحدِّق من حوله، لتلاحقه قذائف الاحتلال ورصاص جنوده وتلقيه أرضًا جثّةً هامدة.

عبدالله، هو واحدٌ من بين آلاف الفلسطينيين من فئة الصُمّ الذين تنوّعت أصناف معاناتهم خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، ما بين استهدافٍ مُتعمّد ونزوحٍ متكرر ومجاعة مُحقّقة.

يؤكد مدير جمعية أطفالنا للصمّ بغزة أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في نسب الأفراد التي تحتاج لخدمات سمعية، من مختلف الفئات العمرية بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة؛ بفعل تزايد مسبّبات الإعاقة السمعية

لكنّ أكثر ما واجه هذه الفئة من مبعث الخوف خلال الحرب، هو عدم إدراكهم للأخطار المُحدقة من حولهم، وعدم سماعهم لأصوات القذائف، أو اقتراب سير الدبابات، أو أزيز الرصاص المصوّب تجاههم، أو حتى تطاير الشظايا من حولهم خلال الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة طيلة أيام الحرب.

أمومة بلا صوت

تقول والدة عبدالله سماح أبو السعيد (من فئة الصمّ)، إنها توجّست من خروج ابنها في ظل تواجد دبابات الاحتلال بالمدينة خلال الاجتياح البري، وتضيف، بلغة الإشارة: "رغم عدم سماعي لما يحيط بنا، لكنّ اهتزازات المنزل أثارت فزعي وأضرمت النار في قلبي".

وتضيف هذه الأم المكلومة خلال حديثها لـ"الترا فلسطين، أنها "عانت طيلة أيام الحرب من ألم النزوح الذي رافقها مع أبنائها وكانت تشعر على الدوام باهتزازات الأرض من تحتها بفعل الانفجارات القويّة، فلا تعرف ماذا يحصل بجانبها، وتهرع خلال أوامر الإخلاء الإسرائيلية بصورة مفاجئة".

وفي ظل ظروفها المعيشية القاسية ورعبها الشديد، إلا أن أكثر ما كان يُقلق هذ الأم الفلسطينية خوفها على حياة أبنائها، الذين لم يكن بمقدورها أن تحميهم إلا بالاعتماد على أقاربها وجيرانها.

Image removed.​سماح أبو السعيد مع ابنها الشهيد عبدالله

ورغم توقف آلة العدوان الإسرائيلي، إلا أن معاناة هذه الأم لم تتوقف عند توفير مأوى مناسب لأسرتها، وتأمين متطلبات حياتهم من الغذاء والماء والدواء، "إذ تقطّعت بنا السبل وحُرمّنا من أبسط مقومات الحياة"، كما تُعبّر أبو السعيد لمراسل "الترا فلسطين" بلغة الإشارة.

قبل الحرب، لم تدّخر أبو السعيد جهدًا في تأمين مستقبل كريم لأبنائها الـ 4، لكن الحرب بدّدت آمالها وتركتها تعاني الأمرّيْن لمجرد حصولهم على قوت يومهم.

وعلى ثِقل واقعها البائس، داخل خيمة لا تقيها برد الشتاء، ولا حرارة الصيف، تبقى آمال السيدة أبو السعيد مُعلّقة في أن يوفر وقف إطلاق النار فرصةً لاستعادة جزءٍ من حياتها السابقة، وأن يتم إزالة ركام منزلها والبدء في إعادة إعماره.

Image removed.​سماح أبو السعيد مع ابنها الشهيد عبدالله

غارقٌ تحت الركام

ليس ببعيد عن قصة سماح وأبنائها، يصارع الشاب يحيى أبو زيد (24 عامًا) من ذوي الإعاقة السمعية، أصعب الظروف المعيّشية القاسية، بعد نجاته من موتٍ مُحقّق نتيجة استهدافٍ إسرائيليّ لمنزله بمدينة رفح.

وبلغة الإشارة، يستذكر الشاب كيف كان مدفونًا تحت ركام منزلهم، لساعات، دون مقدرته على إطلاق صرخات الاستغاثة، سوى بعض الصراخ غير المفهوم.

يقول أبو زيد لـ"الترا فلسطين"، إنه لم يسمع صافرة الصاروخ المتوجّه نحو منزلهم، وكل ما شعر به هو وقوعه تحت سقف المنزل، وارتطامه بكتلٍ خرسانية ثقيلة، وكان الغبار والدخان يغطي المكان الذي علق بداخله، بينما كانت الدماء تسيل من كامل جسده. ويضيف: "أدركت حينها أنني سأموت ولن أجد من ينقذني".

ولحسن حظ هذا الشاب الذي يعاني من إعاقة سمعية لازمته طيلة حياته، فإن أخيه أحمد، وهو من نجا معه فقط من جميع أفراد أسرته، كان يعلم بمكان وجوده واستدلّ على مكانه من أعمدة الغرفة وبقايا جدرانها، ليتم انتشاله وهو مُخضبٌ بدمائه.

داخل خيمته بمخيم البركة لإيواء الناجي الوحيد، في منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس، يعيش هذا الشاب رفقة أخيه، لكنه يواجه تحدياتٍ جمّة في التعامل مع محيطه.

يشير أبو زيد إلى صعوبة التواصل مع القائمين على المخيّم وجيرانه الجدد، كونهم على غير دراية بلغة الإشارة، وهو ما يلقي عليه أعباءً إضافية في الحصول على المساعدات.

يشعر أبو زيد بحرقة في قلبه، لعدم إمكانية عودته لما تبقى من أنقاض منزله، رغم انتهاء الحرب، لكنه يأمل في الإسراع في إعادة الإعمار كي يتسنى له العودة لمدينته.

​الشاب يحيى أبو زيد

معاناة فوق المعاناة

يشي هذا الواقع المرير الذي يعيشه ذوو الإعاقة السمعية بأن تحديات العيش داخل القطاع فاقت قدرتهم على التحمل، في ظلّ تفاقم الصعاب التي نتجت عن 15 شهرًا من الحرب والإبادة، سبقها 18 عامًا من الحصار المُطبِّق على القطاع الساحليّ الصغير.

وفي منطقة العطّار غرب المدينة، يكابد الشاب عادل صيام (36 عامًا)، من فئة الصُمّ، شبح البطالة وانعدام فرص العمل، إلا بقليلٍ من الأشغال التي ينجزها لصالح بعض الميسورين، ويحصل بها على ما يسدّ رمقه ورمق عائلته.

وعبر لغة الإشارة يتابع بأسى: "الحرب أشعرتني بالإحباط وضاعفت من معاناتي في الحصول على أيّ مصدر رزق، بعد أن كنت أعمل نادلًا في إحدى المطاعم الشعبية بالمدينة".

وخلال الحرب، عانى أبناء صيام من فئة ضعاف السمع، محمد ولمى، من قلة الاهتمام والرعاية الصحية والنفسية، إضافة لانقطاعهم عن حصص الدروس التعليمية بسبب ظروف الحرب.

وإلى جانب تلك المعاناة، واجه صيام صعوبات تعلقت بتوفير البطاريات وقطع الغيار للسمّاعات والوسائل المساعدة التي يحتاجها أبنائه، "وهو ما أغرقني في قلق دائم لصعوبة توفيرها، وغلاء ثمنها حتى في حال توفرها".

ورغم معاناته، يأمل صيام في أن يكون وقف إطلاق النار بارقة أمل في استعادة الغزيين لحياتهم السابقة وأن تستكمل مراحل التهدئة أملًا في إغاثة المنكوبين من تبعات الحرب وويلاتها.

أرقام صادمة

بدوره، يؤكد مدير جمعية أطفالنا للصمّ بغزة فادي عابد، أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في نسب الأفراد التي تحتاج لخدمات سمعية، من مختلف الفئات العمرية، في قطاع غزة بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة؛ بفعل تزايد مسبّبات الإعاقة السمعية.

وقال عابد في حديث لـ "الترا فلسطين": "إن المسح الدوريّ، الذي أجرته طواقم الجمعية قبيل اندلاع الحرب على 15 ألف عينة، أظهر أن نسبة الأشخاص المحتاجين لتدخلات سمعية كان 1.4% بينما أظهر المسح، الذي تم في نهاية كانون الأول/ديسمبر المنصرم، تزايد النسبة بشكل خطير وصلت إلى 2.8%".

وأرجع عابد هذه الزيادة في النسب إلى تعرّض النازحين لوابلٍ كثيف من الانفجارات خلال الحرب، وتصاعد دويها، بما يشير إلى استخدام أسلحة ذات قوة انفجارية شديدة تؤثر على القدرات السمعية للناجين منها مستقبلًا.

كما حذّر مدير الجمعية من وجود أكثر من 35 ألف شخص معرّضين لخطر فقد السمع بحسب ما بيّنته الدراسة الحديثة، مطالبًا المجتمع الدولي، والمنظمات الأممية بالضغط على الاحتلال للسماح بإدخال السماعات، والبطاريات، وأجهزة فحص السمع، لتلبية الاحتياج المتزايد للأشخاص المُعرّضين لفقد السمع المؤقت، أو الدائم.