في يوم السبت 28 تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، انقلبت حياة عائلة مروة حمد (31عامًا) رأسًا على عقب، عندما أخذت العائلة قرار النزوح من مدينة غزة إلى جنوب القطاع، تحت القصف العنيف الذي كان يضرب من كلّ حدبٍ وصوب.
بدون تفكير، بدأت مروة، وعلى عجلةٍ من أمرها، في أخذ ما تستطيع حمله من ملابس وأدوات تساعد عائلتها الصغيرة، المكوّنة من زوجها، وابنها هيثم، وطفلتيها شهد وتالا، على العيش؛ فحملوا حقائبهم الصغيرة، ولم يستطيعوا الخروج من المنزل، إلّا بعد 20 دقيقة من توقّف القصف الذي طال معسكر الشاطئ غرب مدينة غزة.
في غزَّة، يتوقّف القصف لكنَّ الحَربَ مستمرَّةٌ. في مُحاولةٍ لاستعادة الحكايات والأسماء والجثامين أيضًا، وتحت "أملِ في لقاءٍ جديدٍ"، تتحرَّك مئاتُ العائلات بحثًّا عمَّن فقد في الحرب الإِسرائيليَّة على القطاع
فلم يكن لدى العائلة أيّ بديلٍ بعد إنذارات الاحتلال المباغتة عبر قنابل المناشير الملقاة على رؤوس المواطنين، تطالبهم بالإخلاء الفوري إلى جنوب القطاع، ليترك الناس بيوتهم بما فيها، ويركضوا خلف خيار النجاة بأرواحهم من القصف، والأحزمة النارية العنيفة التي باتت تضرب كلّ مكان في مدينة غزة.
وتوجّهت العائلة برفقة العديد من العائلات إلى حيث الممر الذي حدّده الاحتلال نحو حاجز نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، فكانت الطريق عبارة عن رحلة عذاب وموت فوق الوصف، جرّاء حالة الإغماء والإعياء التي أصابتهم جميعًا، خصوصًا طفلتها شهد وغيرها من مئات الكبار والصغار، لاسيما مع طول المسافة وعدم وجود ماء أو طعام. هذا عدا عن إصابتهم بالهلع والخوف الشديدين جراء إطلاق الدبابات، وطائرات الكواد كابتر، النار والقذائف نحو المواطنين المارة على طول شارع صلاح الدين.
ولدى وصولهم إلى الحاجز، كان زوجها يمسك بطفلتيها شهد (3 أعوام)، وتالا (8 أعوام)، في حين تمسك مروة بيد هيثم (11عامًا). وفي ظرف لحظة واحدة، بدأت قوات الاحتلال إطلاق النار، مما أدى إلى وقوع عددٍ كبيرٍ من الإصابات والشهداء، وسادت حالة من الفوضى جرّاء التدافع الكبير وإطلاق النار المتواصل. وبعد الركض لعدة أمتار كانت الصدمة؛ فلم تجد الأم طفلها بين يديها، عندها بدأت في الصراخ والبكاء بأعلى صوتها.
عذابٌ وفراق
لم تستوعب مروة ما جرى معهم؛ فلم تكن تتصوّر أنها ستفقد أحد أبناءها على الحاجز، فمكثت، لساعاتٍ طويلة على بعد أمتار من الحاجز، تحدّق في وجوه المارة لعلّها تجد حياتها بينهم دون جدوى، فقررت مواصلة الطريق باتجاه مدينة خانيونس جنوب القطاع. ولم تستسلم حتى بقيت تذهب برفقة زورجها، كلّ يوم من الصباح الباكر حتى المساء، إلى الحاجز لعلّها تجد طفلها، لكنّها كانت تعود كلّ مرة بخفيّ حنين.
لجأ عدد كبير من سكان قطاع غزة، الذين انقطعت اتصالاتهم بذويهم أو أحد أفراد أسرهم إلى وضع ملصقاتٍ وصورٍ لهم في الطرقات، ونشر بيانات اتصالٍ، وآخر المعلومات عن الأماكن التي تواجدوا فيها.
وصلت مروة إلى خانيونس من دون ابنها، لتبدأ بمهمّةٍ صعبة؛ وهي البحث عن ابنها، وطرق كلّ الأبواب لمعرفة مصيره. وحتى اليوم، ما زالت تعيش في صدمةٍ نفسية قاسية، وفي كل مرّة تقع عيناها على صورة طفلها الموجودة في هاتفها النقال، تحمّل نفسها تبعات ما جرى.
وتقول الأم، التي لم تجف دموعها إلى اليوم، لـ "الترا فلسطين": "ابني كان يعيش حياة سعيدة بين عائلته، لا يفارقني للحظة، كان دومًا متعلّقًا بي". مضيفة: "الاحتلال يتلذذ في عذابنا بشتّى الطرق والوسائل، لماذا حرموني منه؟".
حاولت مروة الحصول على إجاباتٍ حول مصير ابنها، ولم تترك أيّ طريقٍ إلا سلكته؛ فلجأت إلى وسائل الإعلام والصليب الأحمر، وبحثت عنه في المستشفيات، حتى اضطرت إلى اللجوء للملصقات الورقية التي تحمل صورة نجلها، بحثًا عن أيّ بصيص أمل يخبرها عن مصيره، كما تحدثت إلى الأسرى المُفرج عنهم وسألت عنه عسى أن تعرف شيئًا عن نجلها، لكن لا نتيجة حتى الآن.
منذ ذلك اليوم، تتساءل مروة عن نجلها "هل ما يزال حيًا أم لا؟"، وقلبها مفطور على الانتظار، ومع كلّ دقيقة تمر، يزداد أملها في أن تصل إليها أيّ معلومة. وما تزال تتمسك بأمل أن تجد نجلها على قيد الحياة، وأنه لربما أصيب في ذلك المكان، وجرى اعتقاله من قبل جيش الاحتلال.
ولجأ عدد من سكان قطاع غزة، الذين انقطعت اتصالاتهم بذويهم أو أحد أفراد أسرهم شبان، وكبار السن، وأطفال، إلى وضع ملصقاتٍ وصورٍ لهم، ونشر بيانات اتصالٍ، وآخر المعلومات عن الأماكن التي تواجدوا فيها، على أمل أن يسهّل ذلك عملية الاستدلال عليهم من قبل من يرون هذه الإعلانات المنتشرة في الشوارع والمراكز العامة، وفي كلّ مكان متوقع أن يشهد ازدحامًا.
في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أجبر الاحتلال الاسرائيلي سكّان غزة والشمال، على النزوح نحو الجنوب. ونزح أكثر من مليون نسمة وفقًا لما أوردته الأمم المتحدة، فيما رفض عمليةَ النزوح نحو 700 ألف آخرين، بحسب جهاز الإحصاء الفلسطيني.
حلمٌ مدفون
من بين مَن انقطعت اتصالاتهم بأهاليهم، كانت أمنة البحطيطي (38 عامًا) من مدينة غزة، التي فقدت شقيقها الوحيد الدكتور أمين في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين خرج برفقة أحد أصدقائه. حينها اختفت أثارهما معًا عندما كانا متوجهين إلى حي الشعف شرق مدينة غزة لزيارة أحد أصدقائهما، دون أيّ معلومات حول مصيرهم حتى اليوم.
قبل شهرٍ واحد من الحرب، أنهى أمين دراسة طب الأسنان من جامعة الأزهر بمدينة غزة، وكان يُعدّ نفسه لافتتاح عيادته الخاصة، التي طالما حلم بها في مسقط رأسه في حي الشجاعية شرق مدينة غزة. ومن جهتها، كانت والدته الستينية هي الأخرى تجهّز نفسها لتخطب لنجلها الوحيد الذي أنجبته بعد سبع بنات. وحين اختفى، تحوّلت حياة عائلته لعذابٍ مستمر، واحترق قلب والدته التي تبكيه ليلًا ونهارًا، وتتوسل لأيّ خبر يطمئن قلبها، خصوصًا أنه كان سند العائلة، بعد وفاة والده قبل أربع سنوات.

ورفضت العائلة النزوح جنوبًا، وأصرّت والدة المفقود على البقاء في مدينة غزة لعلّها تجد أيّ خبر، أو معلومة عن ابنها، وبقيت تنتقّل من مكانٍ لآخر، بسبب سياسة التهجير والقصف الإسرائيلي.
وتقول آمنة، والحسرة تملأ قلبها، لـ "الترا فلسطين": "لم نسمع عنه أي شيء منذ اختفائه، نحن في حالة قلق كبيرة عليه، نريد أن نعرف مصيره.. إذا كان قد استشهد، فأين هي جثته؟ نريد أن نودعه وندفنه، أم أنه جرى اعتقاله من قبل جيش الاحتلال".
وأضافت: "منذ ذلك اليوم لم تسفر عمليات البحث في المستشفيات، أو عبر الصليب الأحمر عن أيّة معلومة تفيد في معرفة مصيره، ورغم لجوئنا إلى منصّات التواصل الاجتماعي، إلا أن هذه المساعي لم تصل إلى أي شيء، والآن نعيش على أمل العثور عليه".
وأشارت إلى أنها ذهبت، في كثير من الأوقات، تتفحص جثامين شهداء؛ لعلّها تجد جثمان شقيقها بينهم. وكل ما تعرفه، حتى الآن، أنه ليس موجودًا في قوائم الشهداء، والجرحى في المستشفيات، فيما تزيد الروايات، التي تسمعها، حالة عدم اليقين حول مصير شقيقها.
واعتقلت قوّات الاحتلال، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، الآلاف من سكان غزة، وكان بينهم أطفالٌ، ونساء، ورجال، وكبار في السن، فيما يخفي اعتقال الكثير منهم. وقد اضطرت سلطات الاحتلال إلى إطلاق سراح المئات منهم، لعدم وجود أيّة إدانات ضدّهم.
ولا يتوقف الشاب الثلاثيني محمد أبو سعدة عن نشر صورة شقيقه وسيم (20 عامًا)، المفقود منذ شهر تموز/يوليو المنصرم، أمام المستشفيات، وفي الأسواق، والأماكن المزدحمة، سواءٌ كان ذلك أثناء نزوحهم في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، أو بعد عودتهم إلى منزلهم في مخيم جباليا شمال القطاع، في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار في 9 كانون الثاني/يناير 2025، آملًا بإيجاد معلومات عنه.

لم يفقد محمد الأمل بالعثور على شقيقه وسيم؛ الشاب البسيط الذي كان يدرس هندسة الحاسوب، وقد فُقد أثره، واقطع الاتصال به خلال فترة النزوح في مواصي خانيونس. وتعتقد عائلته أن وسيم حاول الوصول إلى شمال قطاع غزة من خلال حاجز نتساريم، طريق الرشيد، حسب شهود العيان الذين شاهدوه بالقرب من الحاجز يوم اختفائه.
ويشير محمد، في حديثة لـ "الترا فلسطين"، إلى أن العائلة بقيت تنتظر إعلان وقف إطلاق النار بفارغ الصبر، من أجل العودة لمسقط رأسهم في مخيم جباليا، لعلّها تجد أيّة معلومة تدلّ على مصيره سواء كان حيًا أو ميتًا. لكنّهم، منذ أكثر من 20 يومًا على لعودتهم لشمال القطاع، لم يعثروا على خيط أمل حول مصيره.
ويعتقد محمد أن شقيقه إمّا اعتقل من قبل جيش الاحتلال خلال محاولته العودة إلى شمال غزة، أو أنه استشهد. ويقول بعيون تملؤها الدموع: "يا الله كم كان لدينا أمل خلال العودة لشمال القطاع، أن نجده، أو نجد أية معلومة تدلنا على مصيره، ولكن للأسف لم نعثر عن أي شيء يطمئن قلوبنا المتلهفة لرؤيته، ونعيش أيامًا صعبة منذ اليوم الأول لفقدانه".
ويخشى محمد، أنه مع مرور الوقت، لن يتمكّنوا من معرفة أيّ شيء عن مصير شقيقه، حتى لو كان متواجدًا في مقبرة جماعية؛ لأن جثمانه سيكون قد تحلل في هذه الحالة. وهذا مما سيزيد من أوجاع والده، ووالدته اللذين لم يهنئ لهما بالٌ؛ فمنذ فقدانه تتراجع حالتهما الصحية كلّ يوم.
لم يغفل شقيق المفقود عن أيّ سبيل لإيجاده؛ فطَرَق أبواب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمؤسسات الدولية التي ما تزال تعمل في قطاع غزة، وقدّم بيانات وصورة شقيقه وسيم لهم، لكنّ جهوده لم تنجح بعد في الحصول على أيّة معلومات حول مصيره. وإلى الآن، تعيش عائلة أبو سعدة حياة الفقد، والحزن، وعدم الاستقرار لعدم وجود خبر حول مصير ابنها.
طعامٌ مغمّسٌ بالدماء
خرج أحمد أبو موسى (48 عامًا) في 17 كانون الأول/ديسمبر 2024، من المدرسة التي نزح إليها وأسرته في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، نحو مدينة رفح، محاولًا الوصول إلى منزله الكائن في منطقة الشابورة وسط المدينة، بحثًا عن الطعام لعائلته المكوّنة من سبعة أشخاص، بينهم 5 أطفال عانوا من سياسة التجويع الإسرائيلية، فذهب هناك لعلّه يعود إليهم بالطحين الذي تركه في منزله أثناء نزوحهم في 6 أيار/مايو 2024، بعد بدء الاحتلال عملية عسكرية هناك.
في ذلك اليوم، وبينما كانت مدينة رفح تعيش قصفا جويًا وبريًا مكثفًا، انقطع الاتصال بين أحمد وعائلته، فبدأت ابنته هدى (20عامًا) تتخيّل السيناريو الأسوأ؛ "أن والدها ينزف غارقًا في دمائه، ولا يجد نجدة".
وما زال ذلك المشهد يعيش مع هدى في كلّ لحظة، وتقول أمام مصابها: "نحن نعيش في عذاب دائم، لم نكن لنتركه يذهب أبدًا، لو علمنا أنه لن يعود إلينا، لم نره ولم نسمع عنه شيئًا منذ ذلك الحين.. بحثنا عنه كثيرًا، ومنذ وقف إطلاق النار كثّفنا البحث في كلّ مكان، لكن من دون جدوى".
وتضيف، لـ "الترا فلسطين": "نرجو أن يكون على قيد الحياة، لقد اتصلنا بالمستشفيات، والمؤسسات الدولية العاملة في الجانب الإنساني والحقوقي، ونشرنا صورًا له في كلّ مكان، وبحثنا عنه في قوائم الشهداء، وفي سجلات الأسرى، وفي كل زاوية قد تخبئ ولو إشارة إلى مصيره، ولكن لم يخبرنا أحد بشيء عنه".
لم تنجح جهود هدى وعائلتها إلى الآن في الحصول على معلومات بشأن مصير والدها، وهو ما جعلها تعيش مع عائلتها على آمال معلّقة، خاصّةً مع عدم وجود أيّ إجابات من جهات دولية، أو رسمية محلية داخل قطاع غزة حول المفقودين.
تلك الحالات ليست الوحيدة في قطاع غزة، بل هناك آلاف المفقودين، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ولا يُعرف مصيرهم حتى الآن؛ "هل هم أسرى لدى الاحتلال؟ أم شهداء تحت الأنقاض؟ أم جثامين في المقابر الجماعية؟ أم أن الاحتلال أعدم بعضهم، وأخفى جثامينهم؟".
هناك آلاف المفقودين، ولا يُعرف مصيرهم حتى الآن؛ هل هم أسرى لدى الاحتلال؟ أم شهداء تحت الأنقاض؟ أم جثامين في المقابر الجماعية؟ أم أن الاحتلال أعدم بعضهم، وأخفى جثامينهم؟
ما تعرفه الجهات الرسمية
يقول مكتب الإعلام الحكومي في غزة، إن أكثر من 61 ألف شخص راحوا ضحية حرب الإبادة الإسرائيلية، لافتًا إلى أنه من بين الشهداء 48 ألفًا، و487 وصلوا المستشفيات، في حين بقي 14 ألفًا و222 مفقودًا تحت الركام، أو بالطرقات، ومصيرهم غير معلوم.
وأضاف، خلال مؤتمر صحفي عقد مؤخرًا في مدينة غزة، أن أعداد الأسرى الغزيّين زاد على 6 آلاف معتقل "يتعرضون لأبشع أشكال التنكيل، ومختلف صنوف التعذيب، ما أدى إلى استشهاد العشرات منهم".