بيسان

توقفت الحرب ولم تتوقف معاناتهم.. كيف يعيش أهالي غزّة بدون بنوك؟

المصدر تقارير
توقفت الحرب ولم تتوقف معاناتهم.. كيف يعيش أهالي غزّة بدون بنوك؟
أحمد الأغا

أحمد الأغا

صحفي من غزة، مهتم بالقضايا الاجتماعية

منذ قرابة 4 أشهر، يعتمد حسين كوارع (32 عامًا) على تطبيقه البنكيّ المُثبّت على هاتفه المحمول عند شراء ما يلزمه من المحال التجاريّة ونقاط البيع المؤقّتة المنتشرة في مكان نزوحه بمنطقة المواصي غرب مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة. ومؤخرًا، زاد اعتماد كوارع على وسائل الدفع الإلكترونيّ كحلٍّ عمليٍّ لأزمة شُحّ السيولة النقديّة في قطاع غزة؛ الناجمة عن إغلاق البنوك منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع في تشرين الأول/أكتوبر 2023. 

يقول هذا الشاب الذي يعمل في مجال العمل الحر لـ"الترا فلسطين"، إنّ "اعتماده على التطبيق الإلكترونيّ في الدفع وسداد قيمة مشترياته ازداد بعد أن أتاحت أغلب المحال التجارية التعامل بالدفع الإلكترونيّ، فضلًا عن أنّ الدفع باستخدام التطبيق يجنّبه التعامل النقديّ وسحب السيولة النقدية بعمولة عاليةٍ أرهقت كاهله ماديًا".

يواجه قطاع غزة أزمة كبيرة في السيولة النقدية، مما ينعكس بشكلٍ كبير على الحياة اليومية في قطاع غزة

لكنّ المصاعب التي تواجه هذه الخطوة، بحسب كوارع، أنّ بعض الباعة قد يفرضون نسبةً محدّدةً من العمولة على البيع بالدفع الإلكترونيّ، رغم أن معظمهم يتيحون البيع بدون فوائد وبنفس سعر السلعة إذا ما تم شراؤها بالدفع النقدي.

وقد حثّت سلطة النقد الفلسطينية المواطنين في غزة على استخدام التعاملات النقدية الإلكترونية. إذ تعوّل على هذه الخطوة كمخرجٍ للأزمة التي يعاني منها القطاع المصرفيّ، بفعل إغلاق أفرع البنوك، ومنع الاحتلال إدخال السيولة النقدية ما تسبّب بارتفاع حجم الكتلة النقدية التالفة.

ونتيجة لهذه الأزمة، يعاني التاجر عزيز الكفارنة (48 عامًا)، من عدم قدرته على تصريف مبالغ نقديّة من الأوراق الماليّة والمعدنيّة التالفة، التي يحتفظ بها ريثما يتم إدخال السيولة النقديّة ويتمكّن من استبدالها.

كاش غزة

عمولةٌ بحدّها الأعلى

لا تنتهي أزمات القطاع المصرفيّ عند هذا الحد؛ فتوفير السيولة النقدية (الكاش) بات أزمةً ثقيلةً أطبقت خناقها على جيوب الغزيين بسبب ارتفاع نسبة العمولة المُقتطعة من المبلغ الأساسي، لتصل في غالب الأحيان من 25-30 في المائة، ما أغرق السكان والنازحين في بحرٍ من الإفلاس.

هذا ما أدى إلى ظهور من يسمّون بـ"تجار الكاش"، حيث ينتشر هؤلاء في نقاط صرافة العملات، وبداخل المقاهي والاستراحات المنتشرة على طول شارع الرشيد الساحليّ، وداخل مركز المدينة، ويقومون بتزويد المواطنين بالمبالغ الماليّة نقدًا. الأمر  الذي لاقى استهجانًا واسعًا من المواطنين نظرًا لارتفاع نسبة العمولة المقتطعة.

يقول عائد ياغي (51 عامًا)، وهو موظف حكومي، إنه غير قادرٍ على استلام مستحقّاته الماليّة من البنك نتيجة إغلاقه، حتى بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ،حيث أن مبنى البنك مُدمّرٌ أساسًا. مضيفًا لـ"الترا فلسطين": " أضطر إلى إجراء التحويل الإلكترونيّ لتجار السيولة النقديّة كي أوفّر بعضًا من راتبي".

أزمة الكاش في غزة

البنوك في غزّة: لا حسابات بنكيّة جديدة!

إلى جانب كثيرٍ من الآثار الاقتصادية الوخيمة، يواجه السكان في القطاع رفض تلك البنوك فتح حسابات بنكيّة جديدة للمواطنين. بالتالي، مما حال بين شرائح كثيرة من السكان لم يتمكّنوا من استقبال حوالات بنكيّة خارجية، ما تسبب بانعدام قدراتهم الشرائيّة وتدبير احتياجاتهم اليومية.

يقول خالد راضي (34 عامًا)، "إن أحد موظفي البنوك في مدينة خانيونس أبلغه بتوقف العمل في افتتاح حساباتٍ جديدة للمواطنين". وبيّن راضي خلال حديثه لـ"الترا فلسطين"، "أن ذلك يمنعه من استقبال الحوالات الماليّة من أقاربه في الخارج، فيُضطر لاستخدام حساب أحد أصدقائه لتأمين الحوالات البنكيّة".

حلولٌ مُنتظرة

بدوره، يؤكد الباحث والخبير في الشأن الاقتصادي أحمد أبو قمر، أنّ إغلاق البنوك خلال فترة الحرب شكّل صدمةً للقطاع المصرفيّ نشأ عنها أزمةً ثقة في العملات، خصوصًا العملات التالفة، والمهترئة، والطبعات القديمة، ناهيك عن فئات معينة منها الـ 10 شواكل التي يُرفض التعامل بها أحيانًا. وهذا ما يشير إلى أن الحرب لم تكن عسكريّة فقط، بل توسّع مداها ليشمل تدمير كافة نواحي الاقتصاد. 

وأرجع أبو قمر خلال حديثه لـ"الترا فلسطين"، الأزمات التي مُنيت بالقطاع المصرفيّ إلى ما قبل الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، وبالتحديد منذ بدء الحصار عام 2006. وقد تزايدت تلك الأزمة  مع إغلاق الحسابات المصرفيّة ونقص السيولة، وإن كانت بنسب أقل. مشيرًا إلى أن الاحتلال لم يلتزم ببروتوكول باريس الاقتصاديّ بهذا الشأن.

الدفع الإلكتروني في غزة

يقول أبو قمر : "إنّ إغلاق البنوك في قطاع غزة تسبب في ارتفاع الودائع، لكن هذا ليس طبيعيًا؛ لأنه بمجرد فتح عمليات السحب يمكن أن تكون عمليات سحب الودائع بشكلٍ كبير من البنوك، وهو ما يضعضع من كفاءة ومتانة الجهاز المصرفيّ".

كما لفت أبو قمر إلى أن إغلاق البنوك ساهم في تزايد مشكلة غياب السيولة في الأسواق ومنع تداول العملات التالفة والمهترئة، علاوةً على ارتفاع نسبة الاقتطاع العالية في الحصول على (الكاش)، حيث وصلت لأكثر من 30% في بعض الأحيان.

وشدّد أبو قمر على أن معضلة السحب والإيداع ما زالت ضمن أكثر المشكلات التي تخنق الغزيين في تعاملاتهم الاقتصادية. بالإضافة إلى أزمة الثقة التي طالت القطاع المصرفيّ، بما سيؤثر سلبًا على الإيداع خلال المدى البعيد.

وفي 19 كانون الثاني/يناير الجاري، أصدرت سلطة النقد الفلسطينية بيانًا دعت فيه البنوك التي تنشط في قطاع غزة لاتخاذ الإجراءات نحو استئناف تقديم الخدمات المصرفيّة، بما يشمل إعادة تشغيل عددٍ من فروع البنوك والصرافات الآليّة التي لم تتعرّض للتدمير.

كما عقدت اجتماعًا مع مدراء البنوك العاملة في فلسطين التي تملك فروعًا بقطاع غزة، لتجهيز ما تبقى من فروعها لاستقبال العملاء وتقديم الخدمات الأساسية، وتشجيع استخدام خدمات الدفع الإلكتروني.

بحسب سلطة النقد الفلسطينية، يوجد في قطاع غزة 56 فرعًا للبنوك المحلية والخارجية، إضافة إلى 91 آلة صراف آلي. وقد تضررت كلّها بشكلٍ جزئيّ، أو كليّ بفعل الحرب، ما أدى إلى خروج معظمها عن الخدمة، وتفاقمت بالتالي أزمة السيولة.

وفي 27 كانون الثاني/يناير، أعلن أحد البنوك المحلية في قطاع غزة افتتاح فرعيه للعمل وتقديم الخدمات للمواطنين، باستثناء خدمات الشيكات، وتوفير السيولة، والبطاقات، وبعد أيام سمح بفتح حسابات داخل الأفرع المفتوحة. رغم صدور تعميم من محافظ سلطة النقد، عن عودة عمل كافة البنوك في قطاع غزة، بداية من يوم 28 كانون الثاني/يناير، إلّا هذا لم يتحقق على أرض الواقع.

كاش غزة

ما المطلوب للتعافي؟

لكنّ أبو قمر لا يجد في هذه الخطوة حلًا للأزمات التي يعاني منها الغزّيون، وإنما كانت بمثابة إثبات وجود لسلطة النقد بعد 15 شهرًا من الغياب، قائلًا: " إن هذا الأمر لن يخفّف من الأزمات الحالية، والمطلوب هو انتشار الفروع بشكلٍ أكبر، وحرية السحب والإيداع، بما يضمن عودة الثقة في القطاع المصرفي".

وطالب الباحث الاقتصادي أبو قمر، سلطة النقد بدورٍ أكبر في حلّ أزمات القطاع المصرفيّ وتسهيل عمليات السحب والإيداع وتوفير السيولة التي لم تنتهِ أزمتها حتى بعد انتهاء الحرب.

ويُقرّ الخبير الاقتصادي بأن القطاع المصرفيّ لم يتضرّر كغيره من القطاعات الأخرى، كون ائتمان البنوك كان عاليًا جدًا؛ لأن تمديد القروض كان له نسب فوائد مرتفعة، وهذا يصب في صالح البنوك.

مخبز غزة

كما أشار أبو قمر إلى أنه في ظل الحديث عن مستقبل سحب أموال الشيكات أو عمليات المقاصة واقتطاع القروض وما شابه، فإن البنك في هذه الحالات يوفّر غطاءً تأمينيًا على ذاته.

وحول إجراءات التعافي بعد آثار الحرب الثقيلة، شدد أبو قمر على ضرورة أن تعمل سلطة النقد وإدارات البنوك على الإبقاء على ثقة المواطن الفلسطيني، وعدم رحيل الأموال من القطاع المصرفيّ، وحماية الكفاءة الماليّة وتلبية احتياج العملاء دون إبطاء.