مع كل صباح تجهز الطفلة ملك مسعود (11 عامًا) نفسها لتنطلق مع شقيقتها الصغرى مريم (7 أعوام) في مهمة يومية شاقة من مخيم النزوح في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة لجمع الخشب والورق المقوى، لتقديمه لوالدتهن التي تستخدمه في إشعال النار داخل فرن الطين من أجل إعداد الخبز الذي يعد مصدر دخل لعائلتها، لكون والداهن متعطل عن العمل بفعل الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة.
وبرفقة مجموعة من الأطفال تحمل، ملك ومريم، أكياسهن ويبحثون في الأزقة والشوارع وبين أنقاض المنازل المدمرة عن الكرتون وقطع الحطب، التي تعتبر "كنزًا ثمينًا" بالنسبة لهم.
تسبّب العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة في تغيير روتين الأطفال، الذين أُجبروا على مغادرة منازلهم إلى مخيمات النزوح، فانقلبت مفاهيم حياتهم رأسًا على عقب
وتتخذ والدة الطفلتين "ملك ومريم" من أفران الطين مصدرًا للرزق منذ نزوحهم الأول من بيت لاهيا شمال قطاع غزة، إلى إحدى مدارس مدينة رفح، ومن ثم إلى مدينة خانيونس، عبر تقديم الخبز للجيران والنازحين، مُقابل مبلغ رمزي أو مقابل إحضار ما يُوقد النار، من حطب وكرتون وبلاستيك.
وبعد جهد بحث لساعات طويلة بين الأزقة والطرقات، حصلت الشقيقتان على كمية من الحطب تكفى والداتهما ليومين من العمل لـ"تصل إلى لحظة السعادة"، أو "ارتياح" محدود في ظل الحرب، وهو شعور أيضًا لدى ملك ومريم، اللواتي تمكنتا من توفير ما يلزم العائلة لمدة يومين.
وقالت الطفلة ملك: "في كل صباح، أذهب في هذه المهمة للبحث بين أزقة الشوارع وبين ركام المنازل عن الحطب المحطم لنشعل النيران لمساعدة والداتي التي تشعر بالسعادة الكبيرة في كل مرة نأتي لها بكميات كبيرة". وأضافت "بعد الانتهاء من مهمتي في جمع الحطب، أذهب بعد ذلك لتعبئة الماء، وأساعد أمي في غسيل الملابس والطبخ والجلي وتنظيف الخيمة، لانشغالها طوال اليوم في الخبز على فرن الطينة لتلبية طلبات الزبائن".
وأشارت إلى أنها مضطرة على مساعدة والداتها لتوفير المصروف اليومي لعائلتها بعد أن فقد والدها مصدر رزقه لا سيما أنهم تركوا في بيت لاهيا مزارعهم الخاصة التي كانوا يعتاشون من وراء العمل فيها وزراعتها بمختلف أنواع المحاصيل الزراعية.
وتسبّب العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة في تغيير روتين الأطفال، الذين أُجبروا على مغادرة منازلهم إلى مخيمات النزوح، فانقلبت مفاهيم حياتهم رأسًا على عقب، فبدلًا من مقاعد الدراسة والترفيه عن أنفسهم، وجدوا أجسامهم الهزيلة أمام جبال شاهقة من مسؤوليات صراع البقاء، فباتوا ينتظرون بفارغ الصبر كل صباح عربات توزيع المياه الصالحة للشرب، ويقفون في طوابير "التكيات" الخيرية الخاصة بتوزيع الطعام بالنازحين، أو شراء الاحتياجات، وشحن أجهزة الهواتف النقالة وبطاريات الشحن، إلى جانب مهام التنظيف والعناية اليومية.
▶️ أطفال #غزة يلهون تحت الحرب.. pic.twitter.com/dSgzTMJ2iZ
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) November 25, 2024
طعام مغمس بالمعاناة
وعند كوخِ خشبي صغير تقف الطفلة آلاء أبو عمشة (12 عامًا)، بالقرب من مركز إيواء في مدرسة عبد القادر الحسيني، غرب مدينة خانيونس، التي تقيم بها أسرتها المكونة من 7 أفراد، بجوار والداتها وشقيقتها لمساعدتهن في إعداد خبز يسمى شعبيًا بـ"خبر الصاج"، وتجهيزه على موقد بدائي يعمل على نار الحطب، للتغلب على أزمة غاز الطهي.
وتبدأ عملية إعداد الخبز من والدة "آلاء" بالعجن والتقطيع والتكوير، وتنتقل إلى شقيقتها التي تتولى فرد قطعة العجين لدوائر، ومن ثم يأتي دور آلاء في إنضاجها على الموقد برفقة شقيقها، قبل عرضها للبيع على الزبائن، الذين تزدحم بهم الشوارع بالقرب من مستشفى ناصر غربي المدينة.
وقالت آلاء التي نزحت مع عائلتها من بيت حانون شمال القطاع إلى رفح؛ ومن ثم إلى مدينة خانيونس: "في كل يوم أحرص على مساعدة والداتي بالعمل بجوارها، هذا مصدر رزقنا الوحيد، في ظل حاجة الناس إلى الخبز جاهز، جراء النقص الشديد في الدقيق، وارتفاع أسعار المتوفر منه في السوق، وعدم قدرة الغالبية التي تعاني الفقر الشديد على شرائه".
واضطرت أم أكرم، والدة الطفلة آلاء، إلى شراء كيسين من الدقيق، سعر الواحد 600 شيكل، حتى لا تنقطع عن العمل، وتوفر "خبز الصاج" لزبائنها الذين اعتادوا على شرائها منها بشكل يومي.
ورغم انشغال آلاء في مساعدة والدتها في "خبز الصاج"، إلا أنها تسترق بضعًا من الوقت للذهاب إلى مدرسة حاتم الطائي المجاورة لـ"مكان عملها" والانتظام في الدراسة بعد انقطاع لأكثر من عام، لتحقيق حلمها بأن تصبح طبيبة في المستقبل.
ونفذت غالبية أصناف السلع والبضائع من المحال التجارية والأسواق التي تشهد ارتفاعًا جنونيًا في الأسعار جراء القيود الشديدة التي تفرضها إسرائيل على دخول شاحنات المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد، وتمنع التجار من توريد السلع والبضائع التجارية للقطاع، تزامنًا مع الحرب المتصاعدة للشهر الثالث عشر على التوالي.
وليس بعيدًا عن أسرة آلاء، ينادي الطفل محمد عرفات (14 عامًا)، المارة بأعلى صوته رغم الإرهاق الذي يكتسي ملامحه الصغيرة، لكنه يحاول رغم التعب الذي يغلبه جذب انتباه الزبائن، مروجًا لحلوى "غزل البنات" التي صنعتها أسرته النازحة من مدينة رفح منذ أكثر من 6 أشهر، وتقيم في خيمة بالقرب من محطة العطار غرب مدينة خانيونس.

إصرار رغم الإصابة
ويبدي محمد رضًا عما يحصّله يوميًا من بيع "غزل البنات"، ويقول "أبيع يوميًا الكمية كلها التي تعدّها أسرتي، السوق فش فيه حاجة، البسكوت والشكولاتة والحلويات مش موجودة من أكثر من شهر، والناس بتأكل كل شيء؛ بسبب قلة المساعدات وإغلاق المعابر".
ويضطر محمد في كثير من الأيام تحمل ألَم الإصابة التي تعرض لها في قدمه أثناء قصف الاحتلال مكانًا مجاورًا إلى خيمتهم، والذي أدى إلى استشهاد والده وشقيقته الصغرى، ليجد نفسه أمام مسؤوليات كبيرة تفوق طاقته، وتحول من طفل إلى مسؤول عن أسرته، ومطلوب منه تحمل أعباء طلبات إخوته، مما اضطره إلى العمل لتوفير المال، للتغلب على حالة الغلاء المرتفعة في الأسواق التي باتت تشكل كابوسا لكل العائلات في جنوب ووسط قطاع غزة.
وقال الطفل محمد، "أشعر بالراحة عند قدوم الليل؛ لأننا نجلس في الخيمة أو ننام، وأكره الصبح، في الصبح نستيقظ على طلبات المنزل، وتعبئة المياه وجمع الحطب، وبعد ذلك السير في الشوارع لبيع ما لدي من غزل البنات"، وتساءل: "أيش ذنبنا ننحرم من طفولتنا! تعبنا من الحرب، نسيت كل شيء تعلمته".

طابور معاناة لا ينتهي
وفي طابور طويل وسط مخيم خانيونس للاجئين، يحمل الطفل فادي أبو يوسف (11 عامًا) جالون مياه فارغًا، بانتظار أن تتدفق المياه الصالحة للشرب من صنابير مجانية للمواطنين، يرافقه شقيقه الأصغر محمد (9 أعوام) والذي يحمل جالونًا من البلاستيك وأواني وزجاجات فارغة، حيث يضم الطابور الذي يقف فيه الطفلان، أطفالًا وفتية وكبارًا ونساء، وجميعهم ينتظرون دورهم تحت أشعة الشمس حينها، والآن الأمطار، وكان الطفلان قد قطعا مسافة كبيرة مشيًا على الأقدام من أقصى منطقة المواصي، حيث خيمة عائلتهما إلى المنطقة التي فيها الطابور.
وبعد أكثر من ساعتين من الانتظار، حصل الشقيقان على بعض من المياه، ليدخلا في معاناة نقلها إلى الخيمة التي تبعد أكثر من كيلو متر واحد، فكان الجالون الكبير ثقيلًا عليهما، حيث يتمايلان يمينًا ويسارًا طوال الطريق في أثناء حمله، فقررا أن يتقساما حمل الجالون كل واحد منهما لنصف الطريق، وبعد انتهاء مهمتهما اليومية ووصولهما إلى الخيمة يأخذان قسطًا من الراحة، ثم يتوجها مجددًا إلى طابور "التكية" التي تشرف عليها إحدى الجمعيات الناشطة في العمل الخيري جنوب قطاع غزة.
الطفل فادي، سرد عن مهمته أو معاناته اليومية، وهو يشرح عن إصابة والده في الحرب، ومواجهته لشلل دائم في قدمه، ما يدفعه هو وشقيقه للقيام بهذه المهمة الملحة. ويقول: "بدلًا من أن أقف في طابور المدرسة في كل صباح التي اشتقت إليها كثيرًا، وأردد النشيد الوطني مع أصدقائي، أخرج من الصباح الباكر لأقف في طابور المياه، وأملأ الأواني لوالدتي؛ لأن المياه المتوفرة غير صالحة للشرب ولا للاستخدام اليومي".
لا يظهر فادي، أي إعجاب في هذا الدور، وأكد على "كرهه" له، لكنه يحاول التأقلم مع وضعه الحالي وتحمل مسؤوليات تفوق سنه، آملًا في أن تنتهي الحرب ليعود إلى منزلهم في مدينة غزة وحياته السابقة وأصدقائه، على الرغم من استشهاد الكثير منهم.

وتشير بيانات "الأونروا" إلى أن نصف أطفال قطاع غزة تعرضوا في أثناء العدوان الإسرائيلي المتواصل لأعراض ما بعد الصدمة، وأن كثيرين منهم يتحملون مشقة رعاية عائلاتهم، والمشاركة في تدبير الظروف، في حين تنعدم كامل حقوق الأطفال في القطاع، وتشجع الأوضاع القائمة عددًا كبيرًا منهم على العمل، أو البحث بين الأنقاض عن أغراض لبيعها، والحصول على الطعام بكل الطرق.
وفي قطاع غزة، حرم عدوان الاحتلال أكثر من 630 ألف طالب وطالبة من حقهم في التعليم منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، يضاف إليهم أكثر من 58 ألفًا يُفترض أن يلتحقوا بالصف الأول في العام الدراسي الجديد، فضلًا عن 39 ألفًا ممن لم يتقدموا لامتحان الثانوية العامة.
ويشكل الأطفال والنساء 72% من ضحايا العدوان المتواصل، وفق التقديرات الرسمية، وهم الفئة الأكثر تضررًا من الحرب، بدءًا باختفاء الأمن المعيشي والغذائي والصحي، وصولًا إلى التأثيرات السلبية التي أدت إلى تعطل مختلف الأنشطة الخدماتية والتعليمية والتثقيفية، في الوقت الذي تتفاقم فيه الأوضاع الميدانية سوءًا يومًا تلو الآخر.
وخلفت الحرب على غزة أكثر من 25,000 طفل ما بين شهيد وجريح، منهم ما يزيد على 10,000 من طلبة المدارس، وسط تدمير 90% من مباني المدارس الحكومية البالغ عدد أبنيتها 307.
View this post on Instagram