تحوّلت شوارع قطاع غزة، التي كانت تعجّ بالحركة والحيوية، إلى مشاهد ثقيلة تعاني من شلل شبه تام. المفترقات التي كانت تعج بتجمعات الغزيين قبل انطلاقهم إلى وجهاتهم، أصبحت اليوم خاليةً، تشتكي من غياب أضوائها الساطعة وأصواتها النابضة بالحياة. منذ بدء الحرب على غزة قبل أكثر من 14 شهرًا، توقفت حركة النقل تمامًا، وأصيب قطاع المواصلات في مقتل، ما جعل التنقّل بين المدن والأحياء تحديًا يضاف إلى معاناة الأهالي داخل القطاع.
تسببت الحرب المستمرة على غزة في شلل كامل لحركة النقل، دُمِّرت أكثر من 55 ألف مركبة ونحو ثلاثة ملايين متر طوليّ من شبكة الطرق، وبات التنقل للضرورة القصوى، فقط، وبالاعتماد على الدراجات الهوائية والعربات التي تجرها الحمير
وفقًا لتقديرات وزارة النقل والمواصلات، تجاوزت خسائر قطاع النقل في غزة 3 مليارات دولار نتيجة الحرب الإسرائيلية، حيث شملت الأضرار البنية التحتية ومركبات المواطنين. قوات الاحتلال دمرت نحو 55 ألف مركبة، أي ما يعادل 60% من المركبات المرخصة في القطاع. بالإضافة إلى ذلك، قال مكتب الإعلام الحكومي مع مرور 450 يومًا على الحرب، إنّ الاحتلال دمّر 2,835,000 متر طولي شبكات طُرق وشوارع. ومع توقف هذا القطاع الحيوي عن العمل، أصبح تنقل سكان غزة يقتصر على حالات الضرورة فقط، حيث باتت السيارات أُمنية صعبة في شوارع عادت إلى أزمنة شبه حجرية. حلّت محلها وسائل بدائية مثل السير مشيًا، وركوب الدراجات الهوائية، أو استخدام "الكارة" وهي عربة يجرها حمار، أو تُكتك مهترئ.
مفترقات خالية
تعدّ مفترقات غزة، كمفترق السرايا والشجاعية والزيتون، أكثر من مجرد نقاط عبور؛ بل حياةٌ كاملة وأماكن مشهورة تلتقي فيها أحاديث الناس وأخبارهم ويومياتهم. اليوم، اختلفت تمامًا، فهي خالية من نداءات السائقين على المارّة، وتنعدم فيها حركة السيارات التي كانت تقف منذ الصباح حتى منتصف الليل لتحميل الركاب وإنزالهم.
يقول السائق الخمسيني علاء حميد، مستحضرًا ذكريات ما قبل العام: "كنت أقف على المفترق منذ ساعات الفجر، ولا يستغرق الأمر سوى بضع دقائق لأتنقّل من مكان لآخر وأفرغ حمولة السيارة. أما اليوم، فجميع المفترقات هي نقاط ميتة، ماتت معالمها كآلاف الأشياء التي ماتت في هذه المدينة المنكوبة".
ومع انعدام فرص العمل، لا وقتَ يبقى أمام حميد لانتظار عودة الحياة بشكلها الذي اعتاده. يخرج في سيارته الناجية -حتى الآن على الأقل- ويسير في شوارع غزة المدمّرة ليلتقط حظّه في راكبٍ متعبٍ لا يستطيع المشي مسافاتٍ طويلة، يحاول بذلك استعادة جزء من عمله السابق ليشعر بأنه على قيد الأمل، لكن شروخ ذاكرته تلتهب بالقهر كل صباحٍ تتسع فيه الفجوة بينه وبين آخر ذكرياته المحببة.
حظّ مؤقت
إذا سلِمتْ عندكَ سيارة ما تزال تصلح للسير، فأنت محظوظ، لكنّه حظٌّ مؤقتٌ ومتعثّر، حيث المركبات المتبقية باتت تسير بالكادِ معبرةً بذلك عن تعب أصحابها وشدة إنهاكهم؛ جميعها مهترئة ومرهقة، وبعضها لم يعد قادرًا على السير أكثر.
إذا سلِمتْ عندكَ سيارة ما تزال تصلح للسير، فأنت محظوظ، لكنّه حظٌّ مؤقتٌ ومتعثّر
يقول ياسر رجب، وهو صاحب سيارة قديمة أكلها صدأُ التّرك وجعّدتها لكمات القصف : "كلما حاولت تشغيلها منطلقًا بها، أحسّها تشتكي بصوت العاجز، لكنني مضطر لاستعمالها، مع استحالة صيانتها، وصعوبة توفير الوقود اللازم مع ارتفاع أسعاره، وندرة القطع اللازمة لصيانة المركبات، وكل ذلك يجعلها عبئًا على أصحابها، مع العلم أن دخل الغزيين أو انعدامه -على الأغلب- لم يعد يتناسب مع تكلفة التنقل عبر المواصلات المتوفّرة".
بدائل بدائية
ارتفاع الأسعار أثقل كاهل المواطنين، وباتت تكلفة ركوب التاكسي عبئًا إضافيًا لمن يضطر لاستخدامه. وفي هذا الواقع القاسي، يلجأ الغزيون للسير على الأقدام عدة كيلومترات، فالمسافات التي كانت تستغرق دقائق بالسيارة، أصبحت تتطلب ساعات من المشي، كونه الخيار الأنفع والأسرع، بدل الانتظار الطويل على الأسفلت المتآكل.
ومع نُدرة المركبات وتدمير الطرقات، لجأ المواطنون إلى استخدام وسائل بديلة وبدائية كالدراجات الهوائية، كما عادت العربات التي تجرها الحمير إلى شوارع غزة بعد أن كانت قد اندثرت في سنواتها الماضية.
تجاوزت خسائر قطاع النقل في غزة 3 مليارات دولار نتيجة الحرب الإسرائيلية، شملت الأضرار البنية التحتية ومركبات المواطنين، وتوقفت حركة النقل تمامًا، وصار التنقل بين المدن والأحياء تحديًا يضاف إلى معاناة الأهالي
محمد حمد (27 عامًا)، يمتلك دراجة هوائية يقول لـ الترا فلسطين: لم نفكّر يومًا أن تصبح الدراجة وسيلة النقل الرئيسة، لكنها أصبحت في مقام السيارات الخاصة في هذا الوضع الكارثي، الطرقات ضيقة ووعرة، لكن على الأقل يمكننا الوصول إلى أماكننا وتلبية احتياجاتنا البسيطة.
أما أحمد عطا الله (42 عامًا)، صاحب عربة يجرها حصان، فقد وجد في هذا الوضع فرصة جديدةً رغم قساوتها، لكسب رزقه. يقول: "كانت العربة مجرّد وسيلة لإحضار جالونات المياه أو بعض الأغراض الثقيلة، لكننا اليوم ننقل الناس مع أغراضهم من حيّ لآخر، ومن شارعٍ لآخر ، سيما كبار السن الذين لا يستطيعون المشي مسافاتٍ طويلة".
مصطفى نويجع، صاحب "كارة"، يقول: "كنتُ أتجنب الشوارع الرئيسة بسبب ازدحام السيارات. اليوم لا سيارات، والجميع يبحثون عن أي وسيلة تختصر عليهم الطريق".
حاجز الموت "نيتساريم"
لم يتوقف الأمر عند انعدام المواصلات، بل امتدّ إلى إعدام التواصل بين الطرقات التي تصِل بين محافظات غزة بشكلٍ نهائيّ، إذ قُسّمت غزة بسبب الحواجز، وأشدّها حاجز نتساريم، الذي يفصل بين شمال القطاع وجنوبه.
جنود الاحتلال على حاجز الموت يشبهون قطّاع الطرق الذين يسرقونك ويقتلونك، ولا سبيل لتلتئم ببقية عائلتك التي نزحت إلى الجنوب بأيّ وسيلةٍ تستخدمها. سيقتلونك راكبًا أو راجلًا، وسيعدمونك حتى وإن رفعت أمامهم رايةً بيضاء.
تقول أم عبد الله سلامة من رفح: "ابنتي تسكن في غزة، ولم أستطع رؤيتها منذ أشهر بسبب الحاجز الذي قطّع أوصال عائلتنا، وحاصرنا في سجونٍ كبيرة داخل القطاع، حتى بات اللقاء بالنسبة إلينا حلمًا يراودنا كل يوم، لا نستطيع الوصول إليها ولا بأيّ طريقة".
أحمد حرب، الذي يقطن شمال القطاع، يتحدث عن عائلته التي نزحت إلى الجنوب هربًا من شدّة القصف: "منذ أكثر من عام لم أرَ عائلتي التي كانت جزءًا مني، بسبب حاجز نتساريم، وحتى الآن لم أستطع أن أحظى بتقبيل واحد من أبنائي، كبروا بعيدًا عني، وكلي رجاءٌ بأن أصحو من هذا الكابوس لأجدهم جانبي".
وسط هذه الأوضاع الخانقة، يقول كثيرون من أهالي قطاع غزة إنه سيأتي اليوم الذي تتحرر فيه شوارع مدينتهم وتعجّ بالحياة ذهابًا وإيابًا. يحلمون بيوم تسقط فيه الحواجز ويعود الناس ليتنقلوا بحريتهم كما كانوا من قبل، ويصدح صوت السائقين ويهرول الركاب إلى المفترقات، ليصبح اللقاء بين الشمال والجنوب أمرًا ممكنًا ومفضّلًا كما كان في السابق.