Bisan

شهادة على 150 غيابًا… آية أبو نصر تكتب كي لا يموت الراحلون مرة أخرى

Soruce
شهادة على 150 غيابًا… آية أبو نصر تكتب كي لا يموت الراحلون مرة أخرى

لم تكن آية أبو نصر تتخيّل أن تستيقظ يومًا على غياب كل شيء، أن يتحول البيت الذي ضجّ بالضحكات والأحاديث إلى صمتٍ ثقيل، وأن تصبح الناجية الوحيدة من عائلةٍ كانت ذات يوم وطنها الصغير. في لحظةٍ واحدة تبدّلت ملامح الحياة في بيت لاهيا شمال غزة، وتحول الحلم البسيط بعيشٍ آمن إلى ذكرى موجعة تحاصرها أينما ذهبت.

كانت آية (30 عامًا) تعيش حياةً عادية في كنف عائلتها، تصنع الفرح من تفاصيل صغيرة، وتواجه الحصار وضيق العيش بابتسامةٍ تخبئ خلفها صلابةً نادرة، مؤمنةً بأن الأمل هو أثمن ما يملكه الغزيون في مواجهة قسوة الواقع.

من بين الغبار والصراخ خرجت آية تحمل صدمة لا تشبه النجاة، بل حياةً مبتورة فقدت نصفها هناك

لكن تلك الحياة الهادئة كانت تمضي نحو لحظةٍ فاصلة؛ لم تكن تدري أن التفاصيل التي منحت أيامها معنى ستتحول يومًا إلى أطلال، وأن المنزل الذي احتضن أحاديث المساء سيغدو صامتًا لا يجيبها فيه أحد.

تقول آية بصوتٍ متماسكٍ يخفي هشاشة الألم: "أدركتُ حجم الفقد حين لم يبقَ صوتٌ يجيبني من بين الركام، وحين تحوّل البيت إلى فراغٍ كبيرٍ لا يمتلئ بشيء". لم تكن تلك الكلمات وصفًا للحسرة فحسب، بل استعادةً للحظةٍ انقلبت فيها حياتها رأسًا على عقب.

في الثاني والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2024، خلال الحرب على غزة، شنّت طائرات الاحتلال غارةً مدمرة استهدفت بناية العائلة المكوّنة من خمسة طوابق في بيت لاهيا، فقتلت أكثر من مئة وخمسين فردًا دفعةً واحدة، وتركتها الناجية الوحيدة تحت الركام.

ومن بين الغبار والصراخ خرجت آية تحمل صدمة لا تشبه النجاة، بل حياةً مبتورة فقدت نصفها هناك. تروي: "لم أشعر أنني نجوتُ، بل أن جزءًا مني مات معهم. النجاة لم تكن هبة، بل عبء أحمله كل يوم، ومحاولة لأجد للحياة معنى وسط هذا الخراب".

لكنها لم تستسلم لذلك الخراب الداخلي، كانت تبحث عن وسيلة تقيها الغرق في صمتٍ لا يُحتمل. فوجدت في الكتابة طريقًا نحو النجاة؛ تكتب لتتنفس، وتوثّق لتقاوم، محاولةً أن تمنح الغياب حضورًا، وأن تجعل من الحكاية صدى يلامس القلوب.

تؤكد آية: "لم يكن الصمت خيارًا، الكتابة كانت سلاحي الوحيد. شعرت أنّ توثيق ما حدث واجبٌ إنساني قبل أن يكون فعلًا أدبيًا. أردت أن أقول إن الغياب لا يجب أن يُنسى، وأن لكل اسمٍ حكاية تستحق أن تُروى".

من رحم هذا الألم وُلد كتابها "في غزة نجا من مات ومات من نجا"، عنوانٌ يختصر مأساة مدينةٍ بأكملها ووجع الناجين الذين علقوا بين الحياة والموت. وتروي آية أن العبارة التي ألهمتها كانت مكتوبةً على جدار بيتهم يوم استشهاد أهلها: "نجا من مات، ومات من نجا".

تستذكر آية أن أصعب ما واجهته خلال الكتابة كان لحظة تدوين أسماء الشهداء من عائلتها: "كل اسمٍ كان وجعًا قائمًا بذاته. كنت أكتب وأبكي، ثم أعود لأكتب، لأن الكتابة كانت طريق النجاة الوحيد".

لكن آية لم تكتب عن نفسها فقط، بل عن نساءٍ حملن الخبز والدم في يدٍ واحدة، وعن أمهاتٍ لم يجدن سوى الصبر زادًا، وعن أطفالٍ واجهوا النزوح والجوع بأقدامٍ حافية وقلوبٍ مرتجفة. تقول: "أعطيتُ للنساء صوتًا يشبه صبرهنّ. حاولت أن أجعل القارئ يشعر بالجوع كما لو أنه عاشه، وأن يرى النزوح كما لو أنه سار في طرقاته".

واليوم، بعد كل ما مرّت به، ترى آية أن النجاة لم تكن حظًا، بل مسؤوليةً ثقيلة: أن "أكون ناجيةً يعني أن أكون شاهدةً، أن أروي وأترك أثرًا لمن رحلوا. النجاة بالنسبة لي هي وفاء، لا أكثر".

ورغم الفقد الكبير، ما زالت آية قادرةً على التمسك بخيط الأمل. تقول: "كل طفلٍ يضحك في غزة هو سببٌ جديد لأتمسك بالأمل. نحن لا نملك رفاهية اليأس، فالأمل بالنسبة لنا ليس شعورًا، بل واجبٌ يومي".

تواصل آية الكتابة من بين الركام؛ تحاول أن تُبقي الوجع حيًّا كي لا يُمحى، وأن تكتب كي لا تموت ذاكرتها، لأن الكتابة بالنسبة لها هي الشكل الأصدق للحياة بعد الفقد.