Bisan

مخاض الولادة في خيام غزة.. عذابٌ لم يرصد تحت الإبادة

Soruce تقارير
مخاض الولادة في خيام غزة.. عذابٌ لم يرصد تحت الإبادة
رانية عطا الله

رانية عطا الله

رانية عطا الله، صحافية من غزة

الواحدة فجرًا بتوقيت المخاض في الخيمة بعد ليلةٍ كاملة من صراخ أسماء المتذبذب وهي طريحة الفراش، تصارع المخاض، تصيح حتى وجدت طفلها مُلقى على الأرض بين الرمال التي مارست عليها كل طقوس الحياة اليومية ولم يغب عن فكرها لحظة الميلاد. لم تتخيل والدة زوج أسماء، التي غابت عنها بضعة دقائق لجمع الماء استجابةً لوقت وصول الشاحنة، أن تجد الطفل طريح الفراش والأرض، فارتدت صدمتها على لسانها بقولها: "شو بده يشيله هذا!!"، وهي التي استبعدت احتمالية الميلاد في تلك اللحظة.

صدمة الميلاد في الخيمة دفعت هدى، سلفة أسماء، إلى سحب الطفل متجردة من كل مخاوفها، فيما تجاهل زوجها إصابته وجلب الحمّالة استعدادًا لنقله عبر "توكتوكه على باب الخيمة". حملها والرجال بفراشها المغدق بالدم بينما اضطرت حماتها إلى لف الطفل بقطعةٍ قماشية وسارت إلى جانبها وهي ترقُب وجهها المتعب وتعضّ على أناملها من الألم.

طوال فترة الحمل، كانت أسماء تمتنع عن زيارة المشافي هربًا من مشاهد الدماء والأشلاء التي كانت تصيبها بالدوار

تسرح أسماء بينما تروي أعجوبة ميلادها التي أبهرت الممرضات وأقلقتهم في ذات اللحظة، تصمت ثم تقول: "تخيلي ولدت قبل أيام من الهدنة على فرشتي الوحيدة التي أنام عليها بالخيمة، واستقبل ضيوفي فيها، نقلوني بالشيالة وطفلي مربوط بجسدي بالحبل السري وملقاة على توكتوك مفتوح تحت النار والخطر!"، فتحت عينيها ثم أعادت: تخيّلتِ؟ّ!".

"الساعة غير المنسية"

يهتز جسدها لبشاعة الذكرى ثم تؤكد أسماء أن فرحتها بالمولود انهارت أمام مشقة الواقع وقسوته، كما أنها ارتعبت من أن طفلها لم يصرخ في اللحظات الأولى، فانتابها شيء من القلق تجاه حيويته.

دخلت أسماء المشفى على وقع توبيخ الممرضات لولادتها غير الصحية، ثم لجأن إلى قص الحبل السري ونقل طفلها إلى الحضانة مباشرة للمبيت بعد تبين إصابته بالتهابات شديدة خلال الفحص، كما خضع للمراقبة لأكثر من أسبوع، وما أن عاد للخيمة لم يقبل بالرضاعة الطبيعية لأسبوعين كاملين نتيجة غيابه عن أمه.

طوال فترة الحمل، كانت أسماء تمتنع عن زيارة المشافي هربًا من مشاهد الدماء والأشلاء التي كانت تصيبها بالدوار، وذلك عدا عن كثرة الحالات وشح العلاج الذي أجبرها على اعتماد المسكنات التي انعكست بالسلب على صحتها، مضيفةً: "كثيرًا ما كنت أفضل المسكنات على زيارة المشفى، والميلاد في الخيمة تجربتي الأقسى".

لم تتوقف المأساة عند هذا الحد، بل امتدت لآلام شديدة عانت منها أسماء بسبب الالتهابات الناتجة عن غياب المطهرات الطبية لأسبوعين متتاليين بعد الميلاد، موجزة الألم بوصفه: "أصعب من المخاض الـ 8 ساعات من قبله".

تتجمد ذاكرة أسماء ولسانها، ثم ينطلق بأنين: "متت!! شعرت وكأني رجعت لطلق المخاض، والألم ما بعد الولادة كان أشد لدرجة أنني لم أكن أستطيع الجلوس والحركة بلا معين، وكنت أضطر لإرضاع ابني طوال الوقت وأنا نائمة"، لافتةً إلى استمرار المغص والصداع، عدا عن الشعور بالضيق لندرة الدواء الذي اضطرت لشرائه "بالحبة"؛ إثر غلائه.

وهنا عمّ الصمت للحظات، حتى كسرته تحية هدى، سلفة أسماء، لحظة دخولها الخيمة؛ فتأملت ملامحها ووضعت نفسي مكانها، ثم تجرأت لأسأل رغم التحرج: "شو بخصوص الحمام والوالدة؟! كيف دبرتي حالك يا أسماء؟". 

"الحمام؟!"، قالتها أسماء بسخريةٍ قاهرة، ثم تابعت حديثها: "الحمام.. معاناة، كثير صعب على الوالدة، حمام واحد مشترك لكل المخيم وبلا مقعد، والمسافة ليست بالقصيرة بينه وبين الخيمة"، لافتةً إلى إصابتها وطفلها بالتسلخات الجلدية بسبب محدودية الملابس المتوفرة للتبديل.

وهنا انتفضت هدى من سباتها وشاركتنا الحديث، مشددةً على قسوة ظروف الحمام على الوالدة؛ لحاجتها إلى الاستحمام بشكلٍ مستمر وافتقاد نساء الخيام لهذا الخيار، مضيفةً: "الرائحة الكريهة مضاعفة، الإفرازات دائمة، وما يزيدها كان بقاءنا طوال الوقت بالحجاب بحكم المعيشة بالخيمة".

لم تتجمد المعاناة عند هذا القدر، بل امتدت إلى نقص الفوط الصحية التي اضطرت هدى لاستعارتها من سلفتها بعد ميلادها هي الأخرى، وهذه كارثة أخرى تهدّد قرابة 690 ألف امرأة وفتاة لا تتوفر لديهم مستلزمات الدورة الشهرية، وفقًا لوكالات الأمم المتحدة، وذلك إلى جانب فقدان أكثر من 155 ألف امرأة حامل ومرضع القدرة على المتابعة الطبية، كما أن نحو 46 ألف امرأة حامل يواجهنّ مستويات كارثية من الجوع.

وحول التحديات التي واجهت أسماء خلال الحمل وما بعده، فقد أوجزتها تحت غطاء الخوف من "الإجهاض، والنزوح الدائم وسط الازدحام وصعوبة التنقل، عدا عن الخوف من آثار سوء التغذية وتلوث المياه وشحها".

"اممم المياه.. صحيح.."، قالتها أسماء بعدما غيرت جلستها، تنهدت ثم استطردت: "المياه.. قصة ثانية وهم كبير هد حيلنا!"، مؤكدةً على صعوبة توفيرها واضطرارها وسلفتها هدى لحمل قالونات الماء من مسافات بعيدة عقب 10 أيام من الميلاد فقط، مضيفةً: "نقل المياه تسبب لنا بأوجاع الظهر طوال فترة النفاس، والتعافي كان طويل وبعيد".

حجم الأسى دفعني للمقاطعة بدافع السؤال، بينما تتسع عيناي عجبًا: "شو شعورك وأنتِ تنقلين الماء بعد 10 أيام من الميلاد فقط؟!" لتجيب أسماء وسلفتها بصوتٍ واحد: "الشعور بيوجع، إلا أننا مضطرون"، مشيرةً إلى فقدان أزواجهن القدرة على نقل الماء؛ إثر إصابتهم بالحرب.

كما أكدت أسماء على تلوث المياه وانعدام صلاحيتها للاستخدام، مشيرةً إلى محاولتها غلي ماء الشرب قبل استعماله؛ للتخلص من الجراثيم والميكروبات، فيما لفتت إلى اضطرارها للاستحمام بدون منظفات؛ لندرتها، عدا عن استخدامها قطع القماش وأكياس النايلون كبديلٍ عن الحفاظات؛ لتحفظة طفلها.

يتسع حضن أسماء لاحتواء طفلها بينما تضيق عليهما الأرض، تمسح على رأسه فأرقب نحالة جسده، ثم أسألها: "كيفه مع المجاعة، الطفل كتير نحيف؟!"، تحشرج صوتها وهي تتأمل حالة نجلها لتخبرنا بأنها عانت من "إزمان الإرهاق والاستفراغ؛ نتيجة سوء التغذية واعتمادها لفترات طويلة على طبيخ الخبيزة".

هاجس الإجهاض

وأضافت: "المجاعة المتكررة جعلت حملي أشد وهنًا، والإجهاض كان هاجسًا"، لافتةً إلى تضاعف مخاوفها على الجنين من الهلاك مع الحزن بعد كل فقد، عدا عن قلقها من تأثر الطفل بسوء التغذية بعد حمل تسع أشهرٍ تحت النار، وإصابتها بالإغماء وملاحقة الكوابيس لها لحظة مشاهدتها لاستهداف الخيمة المجاورة لخيمتها.

وبينما ارتفع صوت بكاء الطفل على حديث أمه، لجأت إلى وضعه في "الكوتا"، فشدت على شفتيها بحسرة، ثم قالت: "تفرجي على الظلم.. حتى الكوتا مستخدمة وبلا فراش"، لافتةً إلى استعارتها لملابسه من الأقارب والجيران بعدما تبدد الأمل في العودة وتجهيز السرير والملبس للميلاد في المنزل.

تتحرر هدى، التي عاشت بميلادها ظروفًا مشابهة لسلفتها أسماء، من صمتها لتقول، بصوت الشجن: "اللي عنده مقاس أطفالنا يحن علينا ببدلة وكفولة، والله ميلاد الخيمة قطعة وقطيعة، ولا أحد يستطيع ترك خيمته لصعوبة الواقع، عدا عن تفرّق الأهل بين الشمال والجنوب".

وبينما تراكم هدى تسلسل الأحداث وتسارعها، قالت: "زوج أختي استشهد يوم ولادتي، وتعذرت والدتي عن زيارتي في وقت غابت فيه كل احتياجات الوالدة من الفاكهة والحلوى والأعشاب الطبيعية المدرة للحليب"، مضيفةً: "لم يكن هناك متسع للفرح، حداد يجر حداد".

فجوة

وحول الفروقات في تفاصيل الميلاد، فقد أوجزتها هدى بكلمة "فجوة"، ثم تابعت: "تسعُة أشهر من الأوجاع الدائمة، لا قيمة غذائية، وبقدر ما أنأكل لا نستفيد"، لافتةً إلى إصابة طفلتها بدودة الأميبيا بفعل الرضاعة الصناعية، فيما سرقت القطة "الببرونة" وهربت بها أثناء بحثها عن الطعام، كما اعتدى كلب على مولودٍ آخر في المخيم.

وأوضحت هدى أن ظروف الخيمة غير الصحية تسببت بانتشار الالتهابات التنفسية والجلدية بين أطفالها، بفعل انتشار البعوض والقوارض، وذلك إلى جانب معاناتهم من ضعف الدم والمناعة، مضيفةً: "شو بدك من أنواع الحشرات والأفاعي تجدين في الخيمة، عدا عن الغبار وتوحش الكلاب والقطط الذي يرعبنا والأطفال".

اكتست ملامح هدى بالكدر وهي تخبرنا عن عمق الفجوة: "في بيتك نظافة وحياة وراحة، أما الخيمة فلا شيء صحي، طفلتي ولدت زرقاء اللون ومختنقة؛ لقلة الإمكانيات، البامبرز والحليب معاناة بمعنى كلمة معاناة، وفي النهاية خارت قوانا؛ لأننا مثقلون بالحرب".

تصمت أسماء ثم تؤكد: "الحمل بعد الحرب مُرهق، كل الحياة أينما تذهبين بغزة تعب، لقد تحولت إلى مجموعة من الطوابير، حتى صورة الاطمئنان تحتاج إلى 3 ساعات من الانتظار".

وبينما صارت مساحة النساء ميدان معركة مفتوحة، طالبت هدى وأسماء بدعم السيدات في غزة بكل مقومات الحياة، لاسيما العلاج الذي بات عملية بحث مُرهقة تعمل على تسلخ الجسد والروح، لاسيما وأن أكثر من 60% من المستشفيات خرجت عن الخدمة كليًا أو جزئيًا، فيما تجرى الولادات في ظروف لا تشبه الحد الأدنى من الرعاية الصحية.