Bisan

كيف تؤثر الصدمات المتكررة نفسيًا واجتماعيًا على أطفال غزة؟

Soruce تقارير
كيف تؤثر الصدمات المتكررة نفسيًا واجتماعيًا على أطفال غزة؟
سجود عوايص

سجود عوايص

باحثة وأكاديمية فلسطينية

توقفت حرب الإبادة، لكن صدى القصف والتهديد والرعب ما زال يتردد في ذاكرة أكثر من مليون طفلٍ في قطاع غزة. تبدو آثارها واضحة على الوجوه والأجساد والمحيط، وتتعمق لحظاتها في الداخل، منتجة جروحًا أعمق من الندوب، وآثارًا نفسية أشد خطورة من الأمراض والأوبئة.

أحد أوجه التأثير هو سلسلة من المتلازمات النفسية الشديدة والمزمنة، تشمل اضطراب ما بعد الصدمة، والقلق، والمشاكل السلوكية

عيونٌ مفتوحة على آخرها، وأطرافٌ مرتجفة، وكوابيس متلاحقة، وسلوكيات تتراوح بين العدوانية والانطوائية واللامبالاة، فيما يجد الأهل أنفسهم غارقين في تأمين متطلبات الحياة: طعام وماء ومأوى، وسط موجات القتل والنزوح، لتتحول الصحة النفسية إلى رفاهية مؤجلة وسط هذا الخراب.

وبحسب صندوق الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف"، تؤثر الحروب عادةً بشكل سلبي على الصحة النفسية للأطفال، فتفقدهم القدرة على التكيف، وتهز مفهومهم عن الذات وعن معنى الحياة. ويشمل هذا الأثر جميع أطفال الحروب، لكنه بالنسبة للأطفال الفلسطينيين يصبح ممتدًا ومزمنًا، بفعل استمرارية أشكال الحرب والعدوان الإسرائيلي، ما يجعل الذاكرة محصورة في مشاهد البقاء والهروب والموت.

وتوضح أرجوان حسن، الأخصائية النفسية في مركز العمل التنموي – معًا، أن أحد أوجه التأثير هو سلسلة من المتلازمات النفسية الشديدة والمزمنة، تشمل اضطراب ما بعد الصدمة، والقلق، والمشاكل السلوكية. وقد رُصدت هذه الاضطرابات خلال الحروب السابقة، حيث كان ما لا يقل عن 500 ألف طفل بحاجة إلى دعم نفسي واجتماعي، لترتفع النسبة خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب الأخيرة إلى ما بين 20 و50% من أطفال القطاع، يعانون أعراضًا عالية الشدة.

وتتجاوز الآثار ما هو نفسي سلوكي، وفقًا لحسن، إذ تترك الصدمات المتكررة تأثيرات مباشرة على النمو العصبي للدماغ، ما يؤدي إلى اختلالات في الذاكرة والانتباه وتنظيم الانفعال، ويظهر ذلك على شكل تأخر لغوي، وضعف في الإدراك، وصعوبة في تكوين المفاهيم والعلاقات الاجتماعية.

ومع استمرار الحرب، أعلنت اليونيسف أن جميع أطفال قطاع غزة، البالغ عددهم مليونًا و67 ألفًا، أصبحوا ضحايا لاضطرابات نفسية واجتماعية، تتجلى في الخوف والتوتر والذهان والتبول اللاإرادي والتشنجات.

وتلخص أرجوان حسن المشهد النفسي في قطاع غزة بقولها: "العلم يجب أن يخترع مرضًا جديدًا ينطبق على أطفال غزة"، في إشارة إلى تراكم الصدمات خلال فترة قصيرة لا تتيح للطفل تجاوز صدمة حتى يجد نفسه أمام أخرى أشد قسوة. وتشير إلى أطفال خرجوا من تحت الركام، وآخرين شهدوا قتل أهلهم أمام أعينهم، وأطفال بُترت أطرافهم، أو فقدوا إخوتهم، أو عاشوا مشاهد التهديد والاعتقال والنزوح والجوع، في ظل غياب الدواء والمسكنات والعلاج.

وترى حسن أن الفارق بين الأطفال والبالغين أن الأخيرين يمتلكون قدرة على التوقع وابتكار أساليب للتكيف أو الإخفاء أو التحويل، بينما يبقى الطفل مكشوفًا أمام الألم، دون وسائط دفاعية نفسية.

إلى جانب ذلك، تركت الحرب أكثر من 23 ألف طفل مثخنين بالجروح والأمراض، بينهم 4 آلاف طفل بحاجة لعمليات تقويمية وتجميلية لإزالة آثار الحرب، إضافة إلى 39,384 طفلًا فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، و846 طفلًا فقدوا أحد أطرافهم على الأقل منذ السابع من أكتوبر. هذه الأرقام تتفاعل مع الاضطرابات النفسية لتنتج أزمات مركبة وعميقة يصعب محوها.

ولا يتوقف التأثير عند الجسد والأسرة، بل يمتد إلى البيئة. فقد أدى النزوح الذي وصل إلى 80-90% من السكان، وتعدد مرات الانتقال التي بلغت بين 6 و10 مرات للأسرة الواحدة، إلى فقدان الأطفال إحساسهم بالأمان والثبات، وخلق حالة انفصال عن المكان ومعاني الانتماء، وفقًا لحسن.

كما أدى قصف المدارس ورياض الأطفال، وفقدان شعور الأهالي بالأمن، إلى حرمان أكثر من 645 ألف طفل من الالتحاق بالتعليم، ما أنتج طفولة مشوهة يغيب عنها اللعب والدراسة والعلاقات، لتحل مكانها طوابير المياه والمساعدات، أو الهروب نحو مأوى جديد.

أمام هذا، حاولت المنظمات الدولية والمحلية تقديم مبادرات دعم نفسي مجتمعي. فقد أطلقت الأونروا، بالتعاون مع مركز إبداع المعلم في خان يونس ورفح، جلسات دعم نفسي لنحو 1580 طفل، باستخدام الفن والقصص وتقنيات الاسترخاء والأشغال اليدوية. كما عملت منظمات مثل أطباء بلا حدود، وهيئة الإغاثة الإنسانية التركية، ومركز العمل التنموي، والهلال الأحمر المصري، ومنظمة أنقذوا الأطفال، ومركز تامر للتعليم المجتمعي، على برامج مشابهة.

وينفذ محمد أبو جياب وفريق "الفينيق" أنشطة ترفيهية وخدمات نفسية في مخيمات النزوح، يصفها بأنها "استراحة وسط الحرب". لكنه يلاحظ هشاشة الأطفال، قائلاً: "انفجار بالون واحد قد يتسبب في موجة رعب حقيقي، خاصة لدى الأطفال بين 4 و6 سنوات"، ما دفع الفريق لتجنب أي أنشطة صاخبة أو مثيرة للانفعال.

تلخص أرجوان حسن المشهد النفسي في قطاع غزة بقولها: "العلم يجب أن يخترع مرضًا جديدًا ينطبق على أطفال غزة"

ورغم أهمية هذه الأنشطة، إلا أن أثرها يبقى محدودًا ما لم تتوقف الحرب بالكامل، وتختفِ أصوات القصف ومشاهد الجثث والدمار. فعلى الرغم من مرور أسبوعين على دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، إلا أن جيش الاحتلال ما زال ينفذ غارات وعمليات نسف تُسمع أصواتها ويشاهد دخانها من حين لآخر.

وتبقي أرجوان حسن باب الأمل مواربًا، بالقول: "مع انتهاء الحرب وشعور الأطفال بالأمان، أتوقع استجابة نفسية مرتفعة للدعم النفسي والاجتماعي، وتراجعًا بنسبة الاضطرابات وعمقها بنسبة 80% على الأقل". سيحتاج ذلك وقتًا طويلًا، وسيتراكم على طبقاتٍ من ذاكرة حروب سابقة، لتخرج الطفولة الفلسطينية من حيزها إلى فئة عمرية متقدمة، وتضع الأطفال أمام واقع لم يختاروه. لكن يبقى السؤال مفتوحًا: كيف ستبدو ذاكرة الجيل القادم إذا كبر على الخوف بدل الحكاية، وعلى الركام بدل المدرسة؟