Bisan

أسرَّة النازحين في غزة: ممرات وسيارات ومبانٍ مدمرة وسط الاكتظاظ وانعدام الخصوصية

Soruce تقارير
أسرَّة النازحين في غزة: ممرات وسيارات ومبانٍ مدمرة وسط الاكتظاظ وانعدام الخصوصية

عاشت صفاء عطالله (31 عامًا)، من سكان حي الرمال بمدينة غزة، تجربة النزوح أكثر من مرة خلال الحرب، وتصفها بأنها "قطعة من العذاب"، خصوصًا مع أطفالها الصغار. تقول: "أن تضطر للخروج من بيتك بلا مستلزمات، أو أن تشعر بأنك عالة على الآخرين… هذا شعور مؤذٍ جدًا".

"كل مكان نزحنا إليه كان مكتظًا ويفتقر لأبسط مقومات الكرامة. وكنت أحلم فقط بفراش نظيف، بمكان فيه خصوصية، شيء يعطيني إحساس إني لسا إنسانة"

قبل الحرب، كانت صفاء تنعم ببيت مستقل وحياة هادئة مع عائلتها الصغيرة، لكن القصف قلب كل شيء، فوجدت نفسها مجبرة على ترك منزلها واللجوء إلى أماكن مكتظة تفتقد أبسط مقومات الخصوصية.

وتحت القصف العنيف، تحوّل ممر ضيق في بيت أهل زوجها إلى فراش اضطراري لها ولـ11 شخصًا آخرين، لأنه كان "الأبعد عن الشبابيك والزجاج". تضيف: "شهور كاملة نمنا في الممر. شعور خانق وقاسٍ، لكنه بدا لنا أكثر أمانًا من أي غرفة أخرى".

ولم يقتصر الأمر على الممرات، فقد اضطرت العائلة إلى النزوح نحو مستشفى الشفاء بعد تهديد بقصف البرج المجاور. هناك قضوا ليلتين داخل سيارة صغيرة في ساحة المستشفى، محاطين برائحة الدم وصرخات الجرحى. تضيف: "ظننا أن المستشفى سيكون ملاذًا آمنًا، لكن رؤية الأشلاء جعلت البقاء هناك جحيمًا لا يُحتمل".

تجربة النوم في السيارة تركت جروحًا عميقة في نفسية أطفالها الذين عاشوا في دائرة خوف وبكاء مستمر، رغم محاولاتها تهدئتهم بالتلوين واللعب.

ومن بين اللحظات العالقة في ذاكرة صفاء، خروجها من منزلها قبل أن تُحاصر المنطقة بالدبابات في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2023، تقول عنها: "عندما خرجنا في آخر لحظة، والدبابات تقصف المفترقات والطائرات تطلق الرصاص. السيارة كانت مسرعة لتفادي القذائف، وفجأة تعرضنا لحادث. لن أنسى ذلك اليوم أبدًا".

واليوم، كل ما تتمناه صفاء "هو القليل من الاستقرار: مكان يوفر استقلالية بسيطة، حمامًا خاصًا، وفراشًا مريحًا". ثم تختم بأمنية تختصر وجع الغزيين جميعًا: "أمنيتي الوحيدة أن تنتهي الحرب، أن نخرج جميعًا بخير، بلا إصابات ولا فقدان".

أما محمد الحاج أحمد (35 عامًا)، من معسكر جباليا شمالي القطاع، فقرر البقاء في الشمال رغم الحصار الخانق والمجاعة، وظلَّ مع عائلته هناك حتى تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، متمسكًا بما تبقى من أرضه.

كان محمد يملك استوديو تصوير باسم "العدسة الذهبية"، جهّزه بأحدث المعدات، لكن الاحتلال سرق معداته وأمواله ودمّر المكان بالكامل. يقول: "سرقوا ذكرياتي التي بنيتها بسنوات من التعب، لم يتركوا لي ما أستند عليه".

وبعد فقدانه الاستوديو والمنزل، نزح محمد مع أسرته إلى مستشفى اليمن السعيد، الذي تحوّل إلى مأوى لآلاف النازحين. هناك واجه معاناة قاسية، فيقول: "كنا ننام على الأرض في البرد بلا فراش أو أغطية، وفي ديسمبر القارس كنا مجموعة من الشبان نتقاسم بطانية واحدة تبرعت بها عائلة مشفقة، واستمر الحال لشهرين".

لاحقًا، انتقل مع شباب العائلة للنوم على درج المستشفى، مفترشين الكراتين ومتغطين بأغطية خفيفة في محاولة يائسة للتدفئة. أما استخدام الحمام فكان مأساة متكررة، فيقول: "كنا نقف في طوابير طويلة لساعات، ومع قلة المياه وانعدام النظافة وفقدان الخصوصية، كنا نفقد حتى أبسط معاني الكرامة".

وفي أيار/ مايو 2024، أجبرهم الجيش الإسرائيلي على الخروج من المستشفى، بعدما اعتقل والديه وعددًا من شباب العائلة، قبل أن يفرج عنهم لاحقًا. ثم تلقى محمد الضربة الأشد حين استشهد شقيقه الأول في نوفمبر 2024، وتبعه شقيقه الآخر في مايو 2025. يقول: "حياتي صارت مثقلة بالفقدان، لم يتبقَ لنا سوى الصبر".

اليوم، يصف محمد حال النازحين بكلمات موجعة: "نحن بحاجة لكل مقومات الحياة؛ لا طعام، لا شراب، ولا مأوى كريم. أكثر ما أتمناه هو أن أعود إلى بيتي في معسكر جباليا، حتى لو كان مهدّمًا، يكفيني أن أشعر أن لي مكانًا أعود إليه".

ومن حي الشجاعية، تروي سها سكر (27 عامًا) رحلة نزوح طويلة تجاوزت 15 مرة منذ اندلاع الحرب، بعدما قصف الاحتلال بيتها في كانون الأول/ ديسمبر 2023. تقول بأسى: "حاليًا ما في راحة ولا خصوصية، كل ما بتمناه يكون عندي غرفة صغيرة لحالي".

تستعيد سها تفاصيل آخر ليلة نامتها في سريرها، وهي ليلة 3 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وتصفها بأنها الأصعب في حياتها، حيث كانت الدبابات تحاصر الحي، والقذائف تنهال بلا توقف. تقول: "الشوارع اللي ممكن ننفد منها كانت قليلة جدًا، كأن الموت يحيطنا من كل زاوية".

وتشرح سها رحلة النزوح مبينة أن أول محطة كانت في عيادة الرمال حيث نامت مع عائلتها في الممرات دون فراش، ثم انتقلوا إلى مبنى تابع للتنمية الاجتماعية قيد الإنشاء مع عدد كبير من أفراد عائلتها في غرفة واحدة بلا حمام. تضيف: "كنا حوالي أربعين شخصًا في غرفة واحدة. كانوا أسوأ أيام في حياتي، ما وقفت أبكي من القهر".

وفي الشوارع، كانت تبحث مع عائلتها عن أي شيء يحميهم من البرد. تتذكر ليلة عثرت فيها على سجادة: "افترشناها طول الليل، وأنا أبكي من شدة التعب والبرد. كنت حاسة إني رح أنهار".

لاحقًا، وجدت سها مأوى في فندق المارنا هاوس قرب مستشفى الشفاء، رغم أنه كان قد تعرّض للقصف وما زالت آثار الدماء حاضرة فيه. تقول: "في البداية كنت مرعوبة من المكان، بس مع الوقت تأقلمنا. على الأقل كانت الغرف أوسع وفيها حمامات، وكنا نعمل من مخدات الكراسي فرشات ننام عليها".

ورغم ذلك، تؤكد سها أن النوم لم يعد راحة بل عبئًا يزيد معاناتها، "فكل مكان نزحنا إليه كان مكتظًا ويفتقر لأبسط مقومات الكرامة. وكنت أحلم فقط بفراش نظيف، بمكان فيه خصوصية، شيء يعطيني إحساس إني لسا إنسانة".

اليوم، بعد شهور طويلة من التشرد، تلخص سها المأساة التي وصل إليها المشردون في غزة قائلة: "بتمنى أستشهد، يمكن يكون الموت أهون من كل هالعذاب اللي بنعيشه يوميًا".