في مستشفيات قطاع غزة التي بالكاد ما زالت قادرة على العمل، لا تجد ضحايا الحرب والحصار من الجرحى والمرضى فقط، بل أيضًا من الطواقم الطبية التي تخوض معركة مزدوجة، فمن جهةٍ مواجهة العجز الطبي، ومن جهة أخرى مقاومة الانهيار الإنساني، إذ تحولت المستشفيات من مرافق للعلاج وإنقاذ الحياة إلى ساحاتٍ لاتخاذ قرارات قاسية: من نُنقذ أولًا؟ ومن نتركه لينتظر دوره في الموت؟
قائمة النواقص طويلة، مثل: الأوكسجين، ووحدات الدم، والشاش، وأدوات التقطيب، والمحاليل، والمعقمات، والجبص، ورباطات الكسور، "وحتى أبسط الأدوات مثل رباط الحوض وأنابيب الصدر غير موجودة"
وسط هذا الخراب، يبتكر الأطباء وسائل بدائية للحفاظ على الحياة، ولو لساعات. يبدأ يومهم بسؤال واحد: كيف ننقذ الأرواح حين نُحرم من كل أدوات الإنقاذ؟
يُلخص الطبيب العام في مستشفى الشفاء أحمد عبد الواحد (30 عامًا) الحالة قائلاً: "شعورٌ بالعجز المطلق، هكذا نعيش يوميًا في مكانٍ متهالك مكتظ بالحالات القديمة، وسط نقص حاد في الأدوات الأساسية. نُضطر لمفاضلة موجعة بين المصابين: من نُنقذ؟ ومن نترك؟ بناءً على فرص نجاتهم"
ويستعيد عبد الواحد مشهدًا لا يفارقه منذ شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، حين "رأيت الديدان تخرج من جروح المصابين، دون أن نملك معقمات أو شاشًا طبيًا أو حتى مضادات حيوية. لم يكن لدينا سوى الألم والعجز والبكاء المكظوم".
ويتابع، واصفًا حجم التدهور الطبي: "نستخدم أنابيب شرجية بدلًا من أنابيب الصدر المنقذة للحياة. نُشاهد مرضى متلازمة غيلان باريه ينهارون أمامنا بلا علاج. نقاتل على كل الجبهات: نقص الأدوات، والجوع، وانقطاع المواصلات، والقصف، وانهيار النظام الصحي بالكامل".
ويوضح أحمد عبد الواحد أن قائمة النواقص طويلة، مثل: الأوكسجين، ووحدات الدم، والشاش، وأدوات التقطيب، والمحاليل، والمعقمات، والجبص، ورباطات الكسور، "وحتى أبسط الأدوات مثل رباط الحوض وأنابيب الصدر غير موجودة".
ويشير إلى أنه شاهد طبيبة أميركية جاءت إلى غزة ضمن وفد طبي تنهار بالبكاء عندما وصل أكثر من 200 مصاب دفعة واحدة. ويضيف: "تركت الطبيبة كل شيء وبكت فقط، في مشهد لخص كل شيء".
مرام عبيد (29 عامًا)، وهي طبيبةٌ في مستشفى الشفاء، تحدثت لنا عن العناية المركزة قائلة: "أشعر أحيانًا بالعجز واليأس، خاصة حين تواجهنا حالات قابلة للإنقاذ، لكننا نُحرم من فرصة علاجها بسبب نقص الإمكانيات، فنُجبر على المفاضلة بين المرضى: من يحصل على جهاز تنفس اصطناعي؟ ومن نؤجل علاجه؟ ليس لأننا نختار، بل لأن المعدات محدودة، والأسرّة لا تكفي".
رغم ذلك، لا يتوقف الطاقم عن الابتكار، تضيف مرام: "استخدمنا أوعية محاليل فارغة بدلًا من الوعاء المخصص لأنبوب الصدر، ونجحنا. لكن إلى متى يمكننا الصمود بهذه الطرق؟".
وتؤكد مرام أن الأطباء "مدمرون نفسيَّا" وفق وصفها، وتضيف: "نذهب إلى العمل مرغمين. فقدنا الطاقة، والشغف، وحتى الرغبة في التعلُّم. المشاهد القاسية طحنتنا تمامًا".
عرض هذا المنشور على Instagramتمت مشاركة منشور بواسطة Ultra Palestine - الترا فلسطين (@ultrapalestine)
وتشير إلى أن "قسم العناية المكثفة (في مستشفى الشفاء) مكتظٌ بالحالات الحرجة، ولا مكان لأية إصابة جديدة. ولذلك نعالج المرضى أحيانًا على الأرض أو في الممرات او ننقلهم لقسم الطوارئ، وهذا أقسى ما يمكن أن نعيشه كأطباء".
وتؤكد مرام عبيد أنَّ "الأطباء الكبار والمشرفين لا يتوقفون عن المحاولة، بل يبذلون أقصى ما يمكن لإيجاد حلول بديلة، حتى لو كانت بدائية، في مواجهة واقع مفجع".
ولا يختلف المشهد كثيرًا في مستشفى المعمداني، فيقول طبيب الطوارئ أنور أبو جهل (32 عامًا) أن "العجز ليس شعورًا عابرًا،بل حالة دائمة نعيشها مع كل مصاب نعلم أننا لا نستطيع إنقاذه كما يجب".
ويتحدث أنور عن الوسائل البديلة التي يلجأ الأطباء لها، "فحين لا نجد أنبوب الصدر، نستخدم أنبوبًا شرجيًا رغم مخاطره. ونُغطي الجروح بقطع ملابس نُعقمها باليود ونأمل ألا تتلوث".
ويضيف: "نستقبل المرضى في الممرات، بلا أسرّة، ولا حتى أدوية ومسكنات. أحيانًا لا نملك سوى الانتظار حتى يستسلم الجسد".
ويصف حال الأطباء قائلاً: "نبدو أقوياء أمام المصابين، لكننا نحترق من الداخل. نودّع مريضًا، ونستقبل عشرات آخرين دون أمل، ودون أدوات حقيقية للإنقاذ".
ويؤكد أنور أن ما يواجهه الأطباء في غزة "يتجاوز كل ما تعلمناه، فأحيانًا أفقد الرغبة في كل شيء، لكني أُجبر نفسي على المواصلة"، ويستدرك: "لكنَّ هذه المهنة أمانة، ويجب أن نستمر، بما تبقى من عزيمة وقوة".
وفي أحدث معطيات للجهات الرسمية في قطاع غزة، أُعلِنَ عن استشهاد 1590 من الطواقم الطبية منذ إطلاق الاحتلال حربه في السابع من أكتوبر حتى تاريخ 8 آب/ أغسطس، بينهم 157 طبيبًا، كما اعتُقل 361 من الطواقم الطبية، ولا يزال 150 منهم رهن الاعتقال، بينهم 88 طبيبًا.
يؤكد أنور أن ما يواجهه الأطباء في غزة "يتجاوز كل ما تعلمناه. وأحيانًا أفقد الرغبة في كل شيء، لكني أُجبر نفسي على المواصلة"
وأوضح المكتب الإعلامي الحكومي أن 38 مستشفى في قطاع غزة تعرضت لقصف إسرائيلي أدى إلى تدميرها أو إخراجها عن الخدمة، كما أن 96 مركزًا للرعاية الصحية تعرضت للقصف أو التدمير أو خرجت عن الخدمة.
من جانبها، قالت وكالة "الأونروا"، في بيان أواخر الشهر الماضي، إن الأطباء والممرضين والعاملين الإنسانيين في غزة يعانون من الجوع والإرهاق الشديد.
وأكدت "الأونروا" أن "الأطباء، والممرضين، والصحفيين، والعاملين في المجال الإنساني يُجهَدون لدرجة الإغماء أثناء أداء مهامهم".