Bisan

حقيبة واحدة لكل ما تبقّى من الحياة

Soruce تقارير
حقيبة واحدة لكل ما تبقّى من الحياة

لم تنسَ أماني شنينو (34 عامًا) ظهيرة السابع من أكتوبر، حين غادرت على عجل منزلها في الطابق الثالث عشر من برج الشاطئ الذهبي في حي الشيخ عجلين غربي غزة. حينها، لم يخطر ببال أماني أن هذا آخر عهدها بمنزلها، وأنها لن تعود إليه أبدًا.

لم تكن الحقيبة مجرد وسيلة نجاة، بل كانت الوطن المؤقت، تحمل ما تبقّى من حياةٍ تكسّرت تحت القصف، وتركت قلوب النساء معلّقة بما فُقد خلفها

تقول أماني: "غادرت وأنا أظن أنني سأعود بعد يومين. لم أتخيل أنني أودّع منزلي إلى الأبد. في التصعيدات السابقة كنت أغادر بسبب موقعه المرتفع، لكنه هذه المرة اختفى كأنه لم يكن".

ولأنها اعتادت هذا النوع من الرحيل، كانت حقيبة الطوارئ جاهزة. وضعت فيها أوراق العائلة، بعض المال، وملابس قليلة لأطفالها الثلاثة، وتضيف: "لم أفكر في الذكريات، فقط بما يضمن سلامتنا: الأوراق والضروريات وما يسد رمق الصغار".

حملت أماني في حقيبتها أيضًا قطعة صغيرة ما زالت ترافقها حتى اليوم. تشرح قائلة: "غطاء هاتفي الذي أهدتني إياه أختي من السعودية ظلّ معي. ليس ذا قيمة عملية، لكنه يذكرني بكل ما فقدته".

منذ ذلك اليوم، نزحت أماني تسع مرات بين الجنوب والشمال، وتسكن اليوم بيتًا مستأجرًا في تل الهوى. تقول بمرارة: "نعيش دائمًا في وضع الاستعداد للرحيل. لا استقرار، ولا طمأنينة، فقط البقاء على قيد الحياة".

وتضيف: "لو عاد بي الزمن، لكنت أحضرت ملابس لكل الفصول، أحذية لأولادي، وحتى الهدايا التي خزّنتها لسنوات. لكننا تعلّمنا أن نختار ما لا نستطيع العيش دونه، لا ما نحب".

وعلى مدار 21 شهرًا من الحرب والنزوح، تحوّلت حقيبة أماني إلى أداة بقاء، لا صندوق ذكريات. تقول: "كل ما تبقى من حياتي في هاتفي: صور أطفالي، بيتي، شوارعي، ضحكاتي القديمة. أما الاحتفاظ بالأشياء، فصار ترفًا لا نملكه".

في زاوية أخرى من المأساة، تروي رولا مقداد (29 عامًا) كيف قاومت مغادرة مخيم الشاطئ حتى لم تعد المجاعة تُحتمل. تقول: "في تلك الليلة، لم تهدأ القنابل الفسفورية ولا المدفعية. لم أنم أنا وطفلَيّ. انتظرنا بزوغ الشمس كأننا ننتظر مصيرًا محتمًا".

مع أولى ساعات النهار، جاء نداء جيش الاحتلال للسكان بالتوجه مشيًا إلى ممر نيتساريم. "كان الموعد من العاشرة حتى الثانية ظهرًا. الرعب كان سيد الموقف. الممر غير آمن، والقصف لا يتوقف برًا وبحرًا وجوًا"، تضيف رولا.

في لحظة القرار، صباح السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، حملت رولا حقيبة يد صغيرة فقط، وضعت فيها أوراقها الثبوتية، قليلًا من الطعام، وزجاجة ماء.

كان ذلك اليوم يوافق تاريخ ميلادها، بينما كانت تخوض مع أطفالها معركة للنجاة. تقول: "تركت خلفي الأجهزة والحقائب الجاهزة. قيل لنا إن من يحمل شيئًا يصبح هدفًا مباشرًا". كان من الممكن أن تنتهي حياتهم في تلك اللحظة، لكن الحياة منحتهم فرصة للبقاء.

كانت هناك قطعة بدت للوهلة الأولى غريبة بين ما أخذته رولا معها أثناء النزوح: "سماعة رأس كحلية اللون، كانت وسيلتي الوحيدة للعزل عن أصوات الانفجارات ليلًا، حتى أصبحت نوعًا من الأمان الشخصي" قالت رولا. 

ورغم بساطتها، ما زالت هذه السماعة في حقيبتها حتى اليوم. توضح رولا: "لم تكن منطقية، لكنها كانت وسيلتي للهروب من الخوف." وتستذكر بأسى حاسوبها الشخصي الذي فقدته بعدما تركته في منزلها، وهو "مصدر دخلي وهويتي ومساحتي الآمنة" كما تقول، مضيفة: "شعرت بندم كبير، كأن جزءًا مني قد تُرك هناك".

نزحت رولا أكثر من سبع مرات مع طفليها خلال الحرب، دون أن تمنحها الظروف فرصة للتفكير أو الاختيار. تقول: "لو عاد بي الزمن، لحملت بيتي كلّه، وعلى رأسه ذلك الحاسوب".

وتضيف: "حقيبتي لم تكن شيئًا ماديًا فحسب، كانت منزلي المؤقت، تحمل أوراقي وذكرياتي، وتمنحني جزءًا بسيطًا من الأمان. فيها استودعت الماضي، وبهذا الحد الأدنى أحاول النجاة بالغد".

في تل الهوى، تجد ابتسام إسليم نفسها أمام اللحظة ذاتها، الرحيل الفوري في صباح السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعد تصاعد القصف في المنطقة. لم يكن أمامها وقت طويل للتفكير، فحضّرت حقيبة صغيرة خلال خمس دقائق فقط، وضعت فيها بعض الأوراق الثبوتية، وملابس لأبنائها الأربعة، ومبلغًا من المال.

تقول ابتسام: "كانت لحظة ما بنساها. ما لحقت آخذ شيئ. بس جمعت أغراض بسرعة، وأنا مش مصدقة إنه ممكن نبقى برا البيت أكثر من يوم أو يومين".

من بين ما وضعته في الحقيبة، كانت ورقة صغيرة كتبها ابنها محمد في آخر عيد ميلاد قبل استشهاده، تحتفظ بها كأنها كنز ثمين. "في هذه الرسالة كتب لي: أنتِ أحلى أم بالدنيا. احتفظت فيها، كأنها آخر صوت إله"، أضافت ابتسام.

لم تكن تدرك حينها أن النزوح سيكون طويلًا وشاقًا، وأن الحقيبة التي أعدّتها على عجل ستتحول إلى وسيلة للبقاء لبعض الوقت، وسط مجاعة خانقة فرضها الحصار.

لكن ما لم تأخذه ظل يثقل قلبها: "ندمت إني ما أخذت ملابس شتوية، ولا مواد غذائية، ولا حتى بطانيات. كنا نظن أنها أيام وراح نرجع. بس الحصار شد، والمجاعة ضربت البيوت، وكنا محاصرين."

تكرّر نزوح ابتسام وأسرتها أكثر من 15 مرة داخل شمال القطاع، بين المدارس والمستشفيات ومنازل مدمرة أو شبه آمنة. وكل مرة كانت تحمل نفس الحقيبة، وكل مرة كانت تتمنى لو أن فيها شيئًا إضافيًا. وباختصار، تصف حقيبتها بأنها "وسيلة نجاة، لكنها كمان وجع. كل مرة بشوفها بحس بالقهر. بس هذا اللي قدرت آخذه من بيتي."