Bisan

مدرسة من الرماد وكافيه من الحطام: غزة لا تموت

Soruce تقارير
مدرسة من الرماد وكافيه من الحطام: غزة لا تموت
رانية عطا الله

رانية عطا الله

رانية عطا الله، صحافية من غزة

لم يتوقف الغزيون عن محاولات البقاء طيلة خمسة عشر شهرًا من الإبادة. ينتزعون الحياة من العدم، يبتكرون بدائل البقاء، يبنون من الركام مأوى، ويبعثون من الرماد كما العنقاء، لا بأسطورة، بل بواقع مرير يثبتون فيه أن الحياة ممكنة رغم كل شيء.

غزة تنهض من تحت الأنقاض، بأيدي أبنائها الذين بنوا المدارس والمقاهي والمنازل من الخشب والحطام، في مواجهة حرب الإبادة

كان محمد أبو العون (44 عامًا) أحد أولئك الذين انتفضوا من بين الأنقاض. أعاد بناء منزله المتصدّع بجدران من الخشب، ثبّت نوافذ نايلون شفّافة لتسمح بدخول الشمس، وأسند السقف المتشقق بأعمدة دعم بعد أن فقد ثلاثة أعمدة أساسية نتيجة قصف طال البناية المجاورة شرق مدينة غزة.

اضطر أبو العون إلى ترميم بيته الذي تقلّصت مساحته للنصف، ليبقى فقط "مفرغًا"؛ سقفٌ متصدع، وأرضية، وأشباه أعمدة. ذلك فقط "ليستر عائلته"، كما قال، بعدما فقد عمله، وبلغ إيجار الشقة الواحدة في غزة نحو 1000 دولار.

كيفية تعايش سكان قطاع غزة بعد الإبادة وتشييدهم للجدران الخشبية وترميم بقايا المنازل في ظل ندرة المساكن في مدينة أنهكها الخراب
يحاول سكان قطاع غزة التعايش وتشييد جدران خشبية وترميم بقايا المنازل في مدينة أنهكتها الحرب

ورغم تصنيفه رسميًا "غير صالح للسكن"، لم يتردد أبو العون في بناء جدران من خشب معالج، وغلّفها بشوادر نايلون لمنع تسرّب المياه. واستخدم خشب "الطوبار" بدل الأعمدة، وأحضر دعامات إضافية لتقوية السقف، وحرص على أن يكون سمك الخشب 3 ملم ليستند ويقاوم الرطوبة.

"الحاجة أمّ الاختراع، وما دام لا أحد يعرف متى يبدأ الإعمار، فقد اخترنا العيش في بيتنا بين الخشب، واعتبرناه فيلا مقارنةً بالخيام"، يقول أبو العون لـ"الترا فلسطين".

محمد أبو العون: "الحياة في بيت من خشب بين الركام أفضل من التيه في الخيام"

ويضيف: "بعد رحلات من النزوح وفقداني لأخي وأولاده أردت التحرر من التيه، ورغم تغطية الركام لمدخل البيت قررنا أن نعيش فيه". 

في شبه منزل تعيش عائلة أبو العون بين جدران من الخشب وتتحت أسقف آيلة للسقوط لمواجهة أزمة البحث عن المأوى في مدينة غزة
في شبه منزل تعيش عائلة أبو العون، بين جدران من الخشب وتحت أسقف آيلة للسقوط لمواجهة أزمة البحث عن المأوى في غزة

في المطبخ، صنع هيكلًا خشبيًا غلّفه بالنايلون، وصممته زوجته بطريقة عملية وجمالية. تقول: "أمنع إشعال النار داخل البيت، لأن شرارة واحدة تعني احتراق كل شيء، وأجفف الرفوف طوال الوقت حتى لا يفسد الخشب". 

وتتابع بابتسامة مريرة: "لا أحد يمكنه العيش في غزة إلا نحن، ولا أحد يتحملها سوانا".

من تحت الركام.. مدرسة!

في جنوب قطاع غزة جسّد الشاب محمد حماد "العنقاء" على هيئة مدرسة تعليمية هي الأكبر منذ بداية الإبادة وحرب التجهيل. اختار أن يبني مدرسة على الأنقاض. أسس أعمدتها من ركام الحمامات الزراعية، وجمع البلاط من الشوارع المدمرة، وقطع العشب الصناعي من الملاعب التي دمرها الاحتلال، ثم غسلها وخاطها بنفسه. حتى الزينة جلبها من منازل أقاربه التي دمرت جزئيًا.

نجح حمّاد ورفاقه في إعادة تدوير 40% من مكوّنات المدرسة، بما يشمل المقاعد المدرسية التي جُلبت من مدارس قصفت، ثم أعيد إصلاحها وتوزيعها على مساحة 3 دونمات، تضمُّ ملعبًا وحديقة ومقصفًا ومدرسة قرآنية.

العنقاء أكبر مدرسة ميدانية تتفوق على صورة الخراب بغزة
العنقاء أكبر مدرسة ميدانية تتفوق على صورة الخراب بغزة

المدرسة التي أصبحت الأكبر منذ بدء الحرب، احتضنت 2500 طالب وطالبة من مرحلة التمهيدي حتى الثانوية العامة، من الجنسين. 

لم يكتفِ حمّاد بذلك، بل زوّد المدرسة بألواح طاقة شمسية، وحفر بئر مياه يخدم مئات العائلات في المناطق المحيطة.

مدرسة العنقاء بعد إعادة تدوير الركام
مدرسة العنقاء بعد إعادة تدوير الركام

وبدعم من داخل غزة وخارجها، نالت المدرسة اعترافًا رسميًا من وزارة التربية والتعليم، ويطمح حمّاد لتوسعتها وتوفير الإنترنت لطلبة التوجيهي.

مقهى ومخبز على رماد الغياب

في شارع النفق وسط غزة، علِق ناجي الجبري خلال زيارة لأسرته بعد رحلة دراسية في الجزائر، فاختار البقاء. أنشأ مشروعًا صغيرًا باسم "مخبز وكافيه الحارة"، بنى مكوّناته من الخردة: أعمدة من استراحات محروقة، خشب من ركام الشوارع، كوشوك سيارات محترقة، وشوادر طرود غطّى بها السقف، وجلسات من ألواح "الزينكو".

يقول الجبري: "حتى لو بقي أسبوع واحد في حياتي، سأعيش وأسعى. لن أسمح للدنيا أن تكسرني". ويؤكد أنه فخور بمحاولة التعايش وسط سجن غزة الكبير. ويضيف أنّ مشروعه لا يدرُّ الكثير من المال، لكنّه يمنحه شعورًا بالاستمرار والكرامة.

هدف الجبري الأساسي هو بثُّ التفاؤل. يبيع المشروبات الساخنة ويخبز على "فرن الطينة" لأهالي الحي. ويطمح لاحقًا لإنشاء استراحة على البحر، تكون ملاذًا للفرح البسيط في مدينة تتنفس تحت الحصار.

شتلات الأمل.. على شرفات الرماد

رائد عطاالله، الذي نجا من مجزرة دمرت منزله وقتلت زوجته وثلاثة من أبنائه، لم يغادر بيته. استصلح ثلاث غرف منه، وزيّن شرفته المطلة على الشارع بـ"شتلات الأمل"، كما سمّاها.

ورغم شح مواد البناء وتكلفتها التي تجاوزت 400 دولار، أصرّ عطاالله (48 عامًا) على البقاء، رافضًا أي محاولة للتهجير. لجأ لأصدقائه بحثًا عن الأدوات، وأعاد طلاء الجدران، مؤمنًا أن الرماد ليس نهاية.

شتلات الأمل
 شرفة بيت دمرّه الاحتلال، ويصر رائد عطاالله على زرع "شتلات الأمل"