Bisan

مقابر مؤقتة في غزة.. الكلاب تنبشها ورائحة الموت تحيط بها ورعب في المنازل المجاورة

Soruce تقارير
مقابر مؤقتة في غزة.. الكلاب تنبشها ورائحة الموت تحيط بها ورعب في المنازل المجاورة
رانية عطا الله

رانية عطا الله

رانية عطا الله، صحافية من غزة

مع كل صباحٍ تذهب باسمة أبو العطا (49 عامًا) لزيارة قبر زوجها وابنها؛ لتجد الكلاب المسعورة قد سبقتها لقبرهما المقام على قارعة بوابة مدرسة الدرج شرق مدينة غزة، حيث اضطرت لدفن جثمان ابنها فوق جثمان والده الذي قضى قبل أكثر من عام، بعدما جرفت قوات الاحتلال المقبرة الرئيسية للحي.

كلاب وقمامة

وفي صبيحة اليوم التالي للدفن، فوجئت باسمة بمحاولة الكلاب نهش جثمان ابنها الذي لم يتبق منه إلا أجزاء من أطرافه؛ إثر إصابته مباشرةً بقذيفة دبابة إسرائيلية، "فالقبر غير عميق، ومغطى بحصيرة والقليل من الأقمشة".

شاهدت عواطف أبو العطا بعينيها كيف خرجت الجثامين من المقبرة المؤقتة؛ بسبب مياه الصرف الصحي التي أغرقت المنطقة، "حتى إن الجثامين انتفخت وصار لونها أزرق لكثرة ما تشرَّبت من المياه"

وتوضح باسمة أنها تتفقد القبر عند العاشرة مساءً، وفي السادسة صباحًا، "حتى أطرد الكلاب وأجدد طمم الجثامين؛ لأنها تحفر في القبور باستمرار، وهذا هاجسي حتى في منامي".

وفي خيمة بالقرب من المقبرة المؤقتة ذاتها في مدرسة الدرج، تسكن عواطف أبو العطا مع أسرتها، وقد شاهدت بعينيها كيف خرجت الجثامين من المقبرة بسبب مياه الصرف الصحي التي أغرقت المنطقة، "حتى إن الجثامين انتفخت وصار لونها أزرق لكثرة ما تشرَّبت من المياه". 

وأشارت عواطف إلى اضطرار الناس لإطلاق النار على الكلاب في ذات ليلةٍ هجمت فيها على المقبرة، وسحبت جثمان أحد الشهداء، وأكلت قدمه وسط نباح شديد، مُعلقةً "والله ما قدرت أنام ليلتها من المشهد، وأنا أدعي يا رب إذا متت ما تأكلني الكلاب".

"والأمر لا يتوقف على الكلاب، فللأطفال فضولٌ يدفعهم للحفر من أجل معرفة ما تحت القبور" حسب قول عواطف، مضيفةً "أحيانًا يسحب الأطفال غطاء الألمنيوم أو الحصائر التي تغطي الشهداء بدلًا من الكفن إلى الأعلى، ويدلون برؤوسهم لمشاهدة الجثث".

 كما أعربت عن استيائها من تصرف أشخاص يلقون القمامة بالقرب من القبور "بصورةٍ تسببت في تكاثر الحشرات والذباب بشكل مؤذٍ لنفسية ذوي الشهداء ومُضر للنازحين جميعًا"، مضيفة لم تتوقع أن تعيش يومًا "أفلام الرعب" التي كانت تشاهدها، وأن تحيا بين الأموات، وتتنقل بين الجثث.

رائحة الموت

وفي حي الدرج شمال قطاع غزة، تطل نافذة غرفة مليكة الغفري (27 عامًا) على مقبرةٍ مؤقتة نالت من الصحة النفسية لها ولأطفالها، إذ باتت طفلتاها تتبولان بشكل لا إرادي لشدة الرعب خوفًا من الكلاب، "فالمقبرة رعبٌ مش طبيعي كأنك في غابة، وفي الليل يكون نباح الكلاب أكثر من مُخيف" وفق قولها. 

توضح مليكة الغفري أنها تمنع صغيراتها من اللعب قرب المقبرة؛ خوفًا عليهن، مضيفة، "كلاب اليوم لا تشبه التي نعرفها قبل الحرب، لقد اعتادت على لحم البشر وعظم الجثث، ولا تفرّق بين اللحم والطفل الحي".

هذا ليس كل شيء، ففي إحدى ليالي "الرعب" التي عاشتها مليكة مع أسرتها قرب هذه المقبرة، ظلوا يشاهدون "قبرًا مضيئًا بشكل لافت"، واعتقدوا أن أحدهم أسقط هاتفه المحمول في أثناء دفنه لأحد الجثامين، "وظلت الأسرة ساعات تراقب القبر، حتى جاء نهار اليوم التالي، واكتشف زوجها أن قطعة من بقايا الركام المتطاير هي من تسببت في إضاءة المكان لشدة العتمة".

وتخشى مليكة أيضًا انتشار الحشرات والقوارض الحاملة للعدوى، وسط غياب آليات نقل الجثامين وتنظيف الحي، وتقول إن ابنتها أصيبت في أذنها "بفايروس غريب"، صاحبه حكة وسيلان ودماء، كما أن أولاد الحي كثيرًا ما أصيبوا بجروح عميقة من الزجاج المكسور المتناثر حول المقبرة.

هذا عدا عن الرائحة القادمة من المقبرة، فالقبور وسط الحصار لا تُغلق بالشكل الصحيح نتيجة انعدام البلاطات الخرسانية، والبدائل المستخدمة مثل ألواح الزينكو لا تغطي القبور بالشكل اللازم. تقول مليكة: "رائحة المقبرة أثرت بي أكثر من رائحة البارود، وربما تتوقف الحرب وأموت من رائحتها فقط؛ لأنها تسببت لي بأزمة صدرية، مع العلم أني أشتم الروائح الكريهة والطيبة وجميعها تؤثر بي".

قنبلة موقوتة

وتُشكل المقابر المؤقتة في قطاع غزة "كارثة بيئية" وفقًا للمتخصص في شؤون البيئة نزار الوحيدي، الذي قال إن هذه "الكارثة" لن تُحلَّ بمجرد نقل جثامين الشهداء، فالجثامين تحللت في أماكن الدفن، وقضى معظمها أكثر من عام في التربة. 

وأشار نزار الوحيدي لـ"ألترا فلسطين"، إلى دفن جثامين شهداء على الأرصفة وبجانب الطرق، و"هذا يفاقم الأزمة البيئة، خاصة مع تدمير البنية التحتية وتلوث التربة بالمخلفات الحربية".

ويرى الوحيدي أن المقابر المؤقتة عبارة عن "قنابل موقوتة" ستُسبب تلوث المياه في الخزان الجوفي، ونقل الأمراض، وستجذب القوارض والحشرات الضارة والطيور الجارحة والكلاب الضالة والطفيليات التي وجدت البيئة المناسبة لها لتزيد من حجم وآثار الكارثة البيئية في القطاع.

غزة.. مقبرة مفتوحة

من جانبه، يؤكد رمزي النواجحة، المسؤول في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، أن مدينة غزة تحولت إلى مقبرة مفتوحة بفعل الإبادة المستمرة، حتى إنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى عدد دقيق للمقابر المؤقتة التي أنشئت في الحرب، غير أن التقديرات تشير لعشرات المواقع التي استخدمت كمقابر داخل المستشفيات وساحات المدارس والحدائق العامة والأراضي المفتوحة.

مقابر مؤقتة في غزة

وأشار رمزي النواجحة إلى استهداف الاحتلال لأكثر من 40 مقبرة من أصل 60، وتزامُن ذلك مع العدد الهائل من الشهداء، ما دفع الأوقاف لإجازة الدفن الجماعي، مع مراعاة الأحكام الشرعية، وإجازة الدفن المؤقت في الأماكن المفتوحة، كما نظمت الوزارة عمليات الدفن الجماعي بالتعاون مع الفرق الطبية والدفاع المدني؛ لمنع انتشار الأوبئة نتيجة تكدس الجثث.

مدينة غزة تحولت إلى مقبرة مفتوحة بفعل الإبادة المستمرة، حتى إن وزارة الأوقاف لم يتمكنوا من الوصول إلى عدد دقيق للمقابر المؤقتة التي أنشئت في الحرب

وبيَّن النواجحة، أن وزارة الأوقاف ستحصر وتوثيق المقابر المؤقتة بعد انتهاء العدوان، وذلك عبر إجراء مسح ميداني شامل وتوثيق أسماء الشهداء بالتعاون مع العائلات والجهات المختصة، لضمان عدم فقدان هويتهم.

وأشار إلى أن وزارة الأوقاف تنوي إعادة دفن الشهداء عبر نقل الجثامين إلى مقابر دائمة وفق ضوابط شرعية، ليتم تكريمهم ودفنهم بطريقة لائقة، بعيدًا عن الأماكن غير المهيأة. كما ستعمل الوزارة على إعادة تأهيل وإعمار المقابر المدمرة، وترميم القبور المتضررة؛ "للحفاظ على كرامة الموتى"، مطالبًا المجتمع الدولي بحماية المقابر وإيجاد الحلول لهذه الأزمة المتفاقمة.