أينما تولي وجهك في غزة فثمَّ صورة تعكس عظم الخراب، وحيثما تطأ قدماك ستجد تلوثًا يرافق الحطام، جبالٌ من القمامة، ودخانٌ معبّق بقذارة احتراق النفايات، ومياهٌ عادمة تُغدق الطرقات، وروائح كريهة، وحشراتٌ غريبة، ثغورٌ ممتلئة بمياه الصرف الصحي، وقوارض ونواقل عجيبة تحف كل هذا التلوث الذي يفاقمه المطر.
حي تل الهوا جنوب غرب غزة، تحولت شوارعه إلى ممراتٍ لمياه الصرف الصحي، ومجاري المياه العادمة باتت فوق الأرض بدلًا من تحتها بصورة تسببت في تشكّل فجوات وحفر تتراكم فيها "المجاري"
على بعد أمتارٍ من مكبٍ عشوائي للنفايات في حي الدرج شرق مدينة غزة، تُقيم ميرفت الددا (36 عامًا) رفقة عائلتها في خيمةٍ لا تفارقها رائحة القمامة الكريهة، كما يشوبها التلوث من كل اتجاه، بصورةٍ نالت من صحتها وقلبت حياتها التي كانت تعيشها رفقة أطفالها الستَّة برفاهية في مدينة جباليا شمال غزة قبل العدوان.
أطفالنا فريسة
وعن معاناتها مع التلوث تقول ميرفت الددا: "في حياتي ما رأيت مثل هذا التلوث في غزة، لا حاويات مخصصة لجمع قمامة المخيم، الرائحة قاتلة، والأطفال صاروا فريسة بسبب قلة نظافة المحيط وانعدام المقومات"، مشيرة إلى تفشي الأمراض الجلدية بين أطفال المخيم الذين أُصيب معظمهم بـ"الجدري".

وأوضحت ميرفت الددا، أن مكان معيشتها محفوفٌ بالحشرات والقوارض بفعل تراكم النفايات لاسيما الصلبة منها، "حتى أن الحساسية والحكة والطفح الجلدي أصابت الكبار أيضًا في وقت ما زال فيه الدواء بغزة شحيحًا".
تتخلص الددا من النفايات بالحرق عبر استخدامها كوقود لنار الطهي، كما تُحوّل بعض المعلبات إلى مواقد؛ نتيجة صعوبة التخلص منها إلى جانب الكثير من النفايات الصلبة، مبيَّنة أن حرق كميات كبيرة من نفايات المخيم تسبب في إصابتها بالتهابات صدرية بفعل الدخان المعبق برائحة القمامة.
ثلاثة فقط، هو عدد الحمَّامات في المخيم الذي تعيش فيه الددا رفقة عشرات العائلات، وهي "حمامات بلا بنية تحتية، ورائحة الدخان أهون من رائحة مياه الصرف الصحي التي يتم تصريفها في حفرة كبيرة خلف الحمامات"، لافتةً إلى أن المياه تُترك لتتبخر في الشمس، عدا عن أن الحمامات غير نظيفة نتيجة كثرة الاستخدام.
ديدان في مياه الاستحمام
أما حي تل الهوا جنوب غرب غزة، فتحولت شوارعه إلى ممراتٍ لمياه الصرف الصحي، وهي المشكلة التي يعاني منها أحمد ضبان يوميًا، موضحًا أن مجاري المياه العادمة باتت فوق الأرض بدلًا من تحتها بصورة تسببت في تشكّل فجوات وحفر تتراكم فيها "المجاري"، نتيجة تدمير الاحتلال للبنى التحتية في معظم أرجاء القطاع.

وأشار أحمد ضبان إلى تخوفه الدائم من خطر انزلاق الأطفال في تلك الحفر، مضيفًا "هناك حفرة بعمق 3 متر سقط فيها طفل بعمر 15 عامًا كان يسير على دراجة هوائية ولم يتضح له عمق الحفرة، فكاد أن يموت غرقًا في وقتٍ ماطر تشكلت فيه السيول وكانت الأرض طينية، وبصعوبة كبيرة استطاع المارة انتشاله".

وتحدث أحمد ضبان عن اختلاط مياه الصرف الصحي مع مياه الاستخدام الواصلة للمنازل من البلدية، عدا عن تسلُل الديدان الغريبة إليها، "وصرت أترك أنابيب المياه مفتوحة حال وصولها إلى أن تتصفى ثم أستخدمها وأنا غير مطمئن، وأحيانًا اضطر لاستخدامها في الطهي وأطيل مدة غليها في محاولة لتطهيرها" يضيف ضبان.
ويؤكد إصابة معظم أطفال الحي بحشرات الرأس نتيجة قلة الاستحمام وتلوث مياه الاستخدام وسط معاناة غير طبيعية منذ أشهر طويلة، اضطر خلالها سكان الحي لإخراج أنابيب الصرف الصحي إلى الشوارع لتجنب احتمالية تفجرها داخل المنازل بفعل تحطم المناهل وانسدادها.
كما أصيب أطفال أحمد ضبان بنزلاتٍ معويةٍ وأمراضٍ غريبةٍ غير معروفةٍ تم تشخيصها على أنها حالات ناتجة عن التلوث. ويُشدِّد ضبان على دور الأمطار في تفاقم الأزمة، كونه يعيش في المربع الأكثر انخفاضًا على طول المنطقة، الذي يستقبل مياه الصرف الصحي بعد تجمعها من كل المناطق المحيطة، فيما تشتد الرائحة ليلًا بفعل حركه الهواء الغربية، وتنشط حركه البعوض بفعل المياه الراكدة.
مخاطر كبيرة في مقدمتها السرطان
من جانبه، يؤكد عبدالرؤوف المناعمة، أستاذ علم الميكروبات ومدير مركز تقصي الأمراض السارية بالجامعة الإسلامية، أن واقع التلوث الذي فرضته الإبادة على غزة يشكل تهديدات مباشرة وطويلة المدى على صحة أهالي القطاع والحياة البحرية والأراضي الصالحة للزراعة، وذلك بفعل تدمير محطات تحلية المياه ومعالجتها وتسرب المياه العادمة إلى مصادر المياه العذبة والبحر.
ويشير عبد الرؤوف المناعمة إلى تلوث التربة بمواد سامة مثل الرصاص والمعادن الثقيلة، نتيجة تدمير الاحتلال للأراضي الزراعية، الأمر الذي أثّر سلبًا على الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي، بينما تسبب القصف في انبعاث كميات كبيرة من الغبار والملوثات بصورة فاقمت المشاكل الصحية بين الأهالي.
يشير عبد الرؤوف المناعمة إلى تلوث التربة بمواد سامة مثل الرصاص والمعادن الثقيلة، نتيجة تدمير الاحتلال للأراضي الزراعية، الأمر الذي أثّر سلبًا على الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي
ويوضح المناعمة، أن "الجسيمات السامة تنتج مواد كيميائية سامة مثل الديوكسينات التي تؤدي إلى أمراض تنفسية مزمنة وسرطانات، كما أن تناثر ألواح الاسبست المستخدمة كأسطح للمنازل وتحولها لجزئيات صغيرة يستنشقها الناس قد تؤدي إلى السرطان أيضًا"، مشيرًا، في الوقت ذاته، إلى تقلّص القدرة الاستيعابية وتعطّل تقديم الخدمات الأساسية على صعيد المستوى الميداني الصحي.
وأكد المناعمة أن نقص الغذاء، والتنقل الدائم، ووجود النازحين في بيئة غير صحية ومتوترة، كله يساهم في انخفاض المناعة وتوفير بيئة خصبة لانتشار الأمراض المعدية مثل شلل الأطفال، موضحًا أن أمراض الجهاز الهضمي، والالتهابات التنفسية، والتهاب الكبد الوبائي (أ) أصبحت تُشكِّل عبئًا على النظام الصحي المُثقل اصلاً.
وأضاف عبد الرؤوف المناعمة أن من الصعب التكهن بالأرقام حول نسب انتشار الأمراض المعدية والحالات التي أصيبت بها، مشددًا أن غياب العلاجات وأدوات ومستلزمات التطهير والتعقيم في المستشفيات وحصارها ساهم بشكل كبير في وفاة عدد كبير من المصابين؛ نتيجة الالتهابات بالميكروبات.
وبيَّن أنه "لا سجلات دقيقة توثق المقارنة بين نسب انتشار الأمراض المعدية ما قبل الحرب وبعده"، لافتًا إلى أكثر من مائة ألف حالة من التهاب الكبد الوبائي تم الإعلان عنها، في الوقت الذي تشير فيه التقديرات إلى أن الأعداد الحقيقية قد تصل إلى ضعفي هذا الرقم، بينما لم تتجاوز الإصابة 1000 حالة في سنوات قبل الحرب.
وأوضح عبد الرؤوف أن المناعمة احتمالية أن بعض الأمراض المعدية تترك آثارًا بعيدة المدى، قد تشمل تأخرًا في النمو الجسدي أو العقلي وتُضرر بعض أعضاء الجسم، مضيفًا:"من المتوقع أن تستمر مخاطر الإصابة بالأمراض المعدية وتزداد معها نسب الوفيات من الأطفال على وجه الخصوص".
الكارثة بلغة الأرقام
ويؤكد المتحدث باسم بلدية مدينة غزة، عاصم النبيه، وجود أضرار كبيرة جدًا في البنية التحتية والمرافق الحيوية في عموم قطاع غزة، وفي مدينة غزة خاصة، "بما في ذلك تضرر أكثر من 100 ألف متر طولي لشبكات المياه في مدينة غزة، وأكثر من 75 في المئة من الآبار المركزية، إلى جانب معظم محطات ومضخات الصرف الصحي التي أصابها الضرر الجزئي أو الكلي".
وأوضح عاصم النبيه، أن الاحتلال دمَّر أكثر من 85 في المئة من إجمالي الآليات الثقيلة والمتوسطة التي تقوم بجمع وترحيل النفايات، إلى جانب عمليات صيانة خطوط وشبكات الصرف الصحي، الأمر الذي أدى إلى تراكم أكثر من 170 ألف طن من النفايات في مدينة غزة وحدها.
وأشار النبيه إلى عجز طواقم البلدية على الوصول إلى مكب النفايات الرئيسي في منطقة جحر الديك واضطرار البلدية إلى تجميع النفايات في مركز المدينة "سوق فراس وسوق اليرموك" بصورة أدت إلى تعميق أزمة النظافة في المدينة وزادت من الكارثة الصحية والبيئية التي تهدد حياه المواطنين.
ويؤكد النبيه تسرّب مياه الصرف الصحي واختلاطها مع مياه الأمطار، لاسيما في برك تجميع الأمطار، بسبب تدمير الاحتلال للكثير من مرافق الصرف الصحي خاصة المضخات والمحطات، الأمر الذي يشكل كارثة صحية على الخزان الجوفي بسبب خطورة هذا التسرب الذي يتسبب بتلوث المياه الجوفية، "وتزداد الخطورة نتيجة احتماليه طفح المياه الملوثة على مراكز الإيواء ومنازل المواطنين المحيطة بها".
الحرب الإسرائيلية أدت لتضرر أكثر من 100 ألف متر طولي لشبكات المياه في مدينة غزة، وأكثر من 75 في المئة من الآبار المركزية، وتدمير أكثر من 85 في المئة من إجمالي الآليات الثقيلة والمتوسطة التي تقوم بجمع وترحيل النفايات
ويشير عاصم النبيه إلى أن المعايير الدولية حددت 120 لترًا من المياه يوميًا لمتوسط استخدام الشخص الواحد، تشمل مياه الاستحمام والشرب، في حين أن الفلسطينيين في قطاع غزة لا يحصلون إلا على 15 - 20 لتر يوميًا.
وبيّن النبيه، أن أن إجمالي خسائر البلديات في قطاع غزه تزيد عن الخمسة مليارات دولار. وهذا الخسائر لا تعكس إلا جزءًا مما فقدته غزة، فالاحتلال لم يعث فسادًا في عمارة المدينة فحسب بل نال من مكونات البيئة أيضًا، حيث أصاب الماء، ولوّث الهواء، واعتدى على التربة، وبث الغازات السامة، ودمر البنى التحتية حتى اخلطت مياه الصرف الصحي بمياه الاستخدام، فيما باتت أحياء القطاع صورة تعكس ضخامة التلوث الذي يرافق الخراب.